محمد أنَقَّار
الوجه الآخر للصورة
ورد اصطلاح "الصورة الكلية" لدى الناقد پيرسي لوبوكPercy Lubbock في كتابه الشهير "صنعة الرواية". ومقصوده بالصورة الكلية تلك التي تظل عالقة في ذهن القارئ ووجدانه بعد أن يفرغ من قراءة الرواية ثم ينصرف إلى أموره الخاصة زمناً قد يـطول أو يقصر . ونضيف من جانبنا إلى هذا التعريف القول بأن الصورة الكلية ليس من الضروري أن تظل عالقة في الذهن في حال قراءة الروايات الرديئة التي سرعان ما تنمحي من ذاكرتنا جميع صورها بينما تخلد صور الروائع. ودليلنا على ذلك أسماء الروايات الخالدة التي تعامل معها نقدياً لوبوك نفسه؛ من قبيل "مدام بوفاري"، و" أنا كارنينا" و"السفراء" و" أوجيني گرانديه"...
ونضيف من ناحية ثانية أن هذا المبدأ الجمالي قد يسمح لنا بممارسة عمليات نقدية شتى تقتضي حضور (أو استحضار) الصورة الكلية باستمرار. من ذلك دراسة العلاقة المحتملة بين نص الرواية وصورة مؤلفها، أو العلاقة المفترضة بين شخصية روائية متخيلة وأخرى حقيقية.
في سياق هذا المبدإ يحق لنا أن نتساءل:
ما طبيعة الصورة الكلية التي تسترجعها الذاكرة من رواية "قشتمر" لنجيب محفوظ؟. ذاك سؤال طرحته على نفسي بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على القراءة الأولى لهذا العمل، ثم أعدتُ طرحه مؤخراً [2009] أثناء القيام بقراءة ثانية للرواية ذاتها. والحق أن الذاكرة قد تسترجع الصورة الكلية لرواية ما إما للضرورة الملحة أو عندما تقتضي المناسبة الواسعة ذلك. وأما الضرورة فقد تكون واجباً أو امتحاناً. و أما المناسبة فقد تكون ثقافية عندما نُدعى على سبيل المثال إلى إنجاز قراءة نقدية لذلك العمل، أو قد تكون مجردَ استرجاع ذاتي، تلقائي حدسي، من دون مقدمات ولا غايات نفعية صريحة. وهكذا يمكن أن نتذكر على سبيل المثال صوراً من "ألف ليلة و ليلة" عندما يعاودنا الحنين المفاجئ إلى الطفولة وشرود الصبا، أو قد نتذكر مشهداً من حكايات "كليلة و دمنة" عندما تعوزنا الحيلة في موقف حياتي طارئ أو حرج. كما يمكن أن نتذكر الصورة الكلية لرواية غرامية من قبيل "غادة الكاميليا" أو"تحت ظلال الزيزفون" عندما تحاصرنا هموم الزمن في أمسية شتوية حزينة.
المهم أن الحالات التي تحفزنا على استرجاع الصورة الشاملة لعمل سبق أن قرأناه عديدة ومتنوعة. بيد أن ثمة حالة قرائية مخصوصة قد لا تجعلنا نكتفي باسترجاع صورة العمل الكلية وإنما تمضي بنا إلى أبعد من ذلك حينما تدفعنا إلى إعادة النظر في طبيعة علاقاتنا الإنسانية بتلك الصورة. وقد تتحقق مثل هذه الحالة عندما نطلع على سبيل المثال على معلومات جديدة تخص حياة المؤلف أو حيوات بعض أبطاله أو وقائع قصصه؛ وهي معلومات قد يزودنا بها النقد الخارجي للرواية، أو أحد أصدقاء الكاتب، أو حتى الكاتب نفسه.
ولقد عشت في المدة الأخيرة مثل هذه الحالة المخصوصة إثر اطلاعي على معلومات صرّح بها نجيب محفوظ نفسه، تتعلق بالمصدر الحقيقي لإحدى شخصيات روايته. وتأسيساً على ذلك يمكن القول إن القراءة الثانية للرواية قد تمت عن سبق إصرار وعن تعمد، وإنها قراءة اقتضتها مناسبة تواصلية غير عادية:
فما طبيعة القراءتين؟ وهل تظل خصائص الصورة الكلية للرواية هي هي عندما يتغير حافز القراءة أو هدفها؟.
للإجابة عن السؤالين سنتأمل القراءتين معا بقدر من الدقة.
رواية قشتمر
صدرت "قشتمر" في نفس السنة التي حصل فيها نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب (1988). و"قشتمر" في الأصل اسم أحد القواد الأتراك، ثم أطلق على أحد مقاهي القاهرة، وقد جعله المؤلف بمنـزلة المكان الرئيس لروايته كلها من دون أن ينـزع إلى استثمار ذلك الاسم استثماراً تاريخياً. ويظهر من تصريح لنجيب محفوظ أن المؤلف يعرف شخصياً هذا الموضع وكانت له فيه ذكريات. قال يوماً لجمال الغيطاني:
«مرّة كنّا في مقهى قشتمر، كنا نلعب "مونوبولي"، لعبة كان فيها مدن ومحطات، والفائز يحتكر هذا كله. أحد أصحابنا علّمها لنا وشبطنا فيها، خلصنا اللعب وروحنا، بعد نصف ساعة فقط سقطت قنبلة خرمت السقف ونزلت مكان نزولنا، كان سكوت الراديو علامة على قدوم الخطر. كنا نأخذ اللعبة معنا ونكمّل في المخبأ..
قال: كان مقهى قشتمر لابن الموسيقار داود حسني. أخوه راح إسرائيل وأصبح مذيعاً، سمعت عن إسلام صاحب المقهى.. لكني غير متأكد.. »
هذا عن المكان الحقيقي حسب تصريح المؤلف ذاته. أما موضوع الرواية حسب سرد السارد المتخيّل فيدور في نفس المكان ولكن بصيغ تصويرية محوّرة كما هو بدهي. ذلك أن حارة العباسية بالقاهرة جمعت خمسة من الأصدقاء منذ سنتهم الخامسة، وظلوا لا يفترقون ولا وهنت الآصرة بينهم إلى أن تجاوزوا السبعين من عمرهم. ولقد اهتدى هؤلاء الأصدقاء منذ صباهم إلى اكتشاف مقهى قشتمر الذي ظل مكان اجتماعهم المفضل طوال كل تلك السنين، وسَجلت أركانُه أصواتهم المخلدة للبسمات والدموع وبعض أحداث مصر الحديثة. والأصدقاء هم:
1) صادق صفوان، وقد كان هدفاً لتعليقات المجموعة ونكتها وقفشاتها الضاحكة. ومع مرور الأعوام سيغدو تاجراً متديناً مزواجاً يعشق الثراء.
2) حمادة يسري الحلواني. نشأ في بيت غني، وهو ذو شخصية متناقضة. لم يفلح في إتمام دراسته على الرغم من أن قصر أبيه كان يتوفر على مكتبة هائلة.
3) طاهر عبيد الأرملاوي الخفيف الروح الذي سيغدو شاعراً لثورة 23 يونيو، ثم سيقع في تناقضات وسيهمَّش بعد موت عبد الناصر.
4) إسماعيل قدري سليمان القوي الجسم، الذكي الماجن الذي سيمتنع عن الزواج سنوات طويلة، وسيثبت كفاءته في مكتب المحاماة وسينخرط في السياسة. ومع ذلك فقد كان حظه متعثراً في الحياة.
يضاف إلى هؤلاء الأصدقاء الأربعة الراوي الذي لا يتحدث عن نفسه إلا في إشارات نادرة جداً.
القراءة الأولى: متعة المعرفة.
تمت هذه القراءة الأولى بتاريخ 22/5/1998 . وكانت غايتها الأساس الإعداد للمشاركة في جلسة نقدية حول "المتخيل الروائي والمتخيل السينمائي". وبعد انفضاض الندوة عَلقت في الذهن صورة مبهمة عن الرواية مضمونها أن مرور الزمن قادر على الفتك بالإنسان وتفتيته ومحقه بتدرجه البطئ. والحق أن تلك الصورة الكلية لم أجدها تختلف كثيراً عن الخلاصات الإنسانية المبثوثة في كل أعمال نجيب محفوظ الروائية والقصصية والحوارية. لكن نجيب لم يقصد في هذه المرة إلى جعل الصراع الدرامي يحتدم بين مجموعة الأصدقاء على الرغم من مظاهر التباين النفسي والمزاجي فيما بينهم، وإنما كان الهدف المؤمل يتجلى في الكشف عن أمارات "الخرم أو النخر" الذي يتعرض له الإنسان مجبراً مع توالي السنين و العقود.
لقد التقى أصدقاء "قشتمر" منذ الطفولة. و«بدأ التعارف عام 1915 في فناء مدرسة البراموني الأولية. دخلوها في الخامسة وغادروها في التاسعة. ولدوا عام 1910 في أشهر مختلفة، ولم يبارحوا حيهم حتى اليوم، وسيدفنون في قرافة باب النصر. تضخمت جماعتهم بمن انضم إليهم من الجيران، جاوزوا العشرين عداً، و لكن ذهب من ذهب بالانتقال من الحي أو بالموت، وبقى خمسة لا يفترقون» إلى أن شاخوا واستسلموا لفترة العمر الرذيل، ثم بدأت تظهر نتائج الخرم التدريجي...
لم تخرج القراءة الأولى لهذه الرواية عن نطاق تلك المتعة التي تواكب في الغالب الأعم قراءة أعمال نجيب محفوظ قراءة استطلاعية. ولعل أبرز سمات تلك المتعة حصول نمط من المعرفة غير المباشرة التي لا تقف عند حد التخيل الأولي الذي يمارسه القارئ ويكتشف خلاله المعلومات والحقائق وإنما تتجاوزها إلى معرفة أخرى فيها استشراف عوالم جديدة لم تكن واردة في الحسبان قبل هذه القراءة. وفي رأيي أن الأمر يتعلق بنوع من المعرفة الحدسية، أو الصوفية، أو حتى الكونية نظراً إلى ما يصاحب تلك القراءة الأولى من انفتاح على عوالم يصعب تحديد سماتها بالدقة المطلوبة. لكن على الرغم من تلك الصعوبة تظل المعرفة المحصلة في نهاية المطاف معرفة مفعمة بالذاتية والإحساس الجواني العميق.
بقي أن نشير إلى أن هذه القراءة الأولى ليست "نقدية" بالمفهوم الحرفي للكلمة. صحيح أن كل قراءة هي "نقدية" بمعنى من المعاني، بل حتى قراءة "المتعة الخالصة" نفسها تكون "نقدية" إذا ما تغلغلنا في ذاكرة القارئ وفحصنا الوظائف العقلية التي تصاحب تلك القراءة. ومع ذلك فإن ما نقصده في هذا المضمار القول بغياب الغاية "النقدية الحرفية" بدلالتها الصارمة.
القراءة الثانية: متعة المقارنة.
والحافز إلى هذه القراءة اطلاعي مصادفة على تصريح لنجيب محفوظ جعلني أنظر إلى شخصيات الرواية، خاصة طاهر الأرملاوي، نظرة مغايرة، مباينة للقراءة الأولى من حيث السمات والغاية، بل وحتى من منظور الصورة الكلية.
روى نجيب محفوظ لرجاء النقاش أنه «عندما مات صلاح جاهين بالطريقة المأساوية التي نعرفها، حيث يقال إنه ابتلع كمية كبيرة من الحبوب المهدئة قضت عليه، حزنتُ وتأثرت لوفاته، وقررت أن أكتب كل ما أعرفه عنه في عمل روائي، وكنت أعرف الكثير. واتضح لي أن هذا القرار قد يسبب لي مشاكل كثيرة، خاصة وأن الرواية إذا ما كتبتها سوف تتضمن شخصيات معاصرة، بالإضافة إلى وقائع وأحداث ليس لي الحق في سردها. وتوصلت في النهاية إلى أن أكتب رواية عن "شخصية" صلاح جاهين، على أن أعدل قليلاً في ملامحها حتى لا يتعرف عليها القراء. وكتبت رواية "قشتمر" وعبرت فيها عن مأساة هذا الرجل. والطريف أن ابنه (بهاء جاهين) تعرف على شخصية والده بسهولة عندما قرأ الرواية على الرغم ممّا حاولته من إدخال تغييرات في ملامحها» .
من خصائص هذه القراءة الثانية حصول تحوير أو تغير في طبيعة الاستكشاف المعرفي. ففي القراءة الأولى للرواية كان ثمة تعرف أولي إلى الأحداث والشخصيات والوقائع والأحاسيس والأفكار المصورة. وإذا عرفنا أن العمل الذي نتحدث عنه هو رواية لنجيب محفوظ تحديداً؛ أمكننا أن نتصور طبيعة "المادة المعرفية" التي سيصيبها التحوير: إنها الشعور بولوج "عالم طريف وشجاع" على حد تعبير ألدوس هوكسلي. عالم فيه الجديد، وفيه النشوة، وفيه دعوة ناعمة إلى التقدم نحو الأمام على الرغم من كل المنغصات.
لذلك أضحت الأحداث والشخصيات والأحاسيس والأفكار في القراءة الثانية معروفة، أو أنها فقدت بعض بريقها، أو أن معرفتها قد استُهلكت وتمت في زمن سابق، فقلّتْ بذلك الدهشة وخفّت درجة استكشاف العوالم الطريفة الشجاعة. ومن الواضح أن استرجاع المعرفة السابقة وهي "محوَّرة" جعلني أعيش التفاصيل القصصية بصيغة إنسانية أخرى، إلى درجة يمكن فيها القول إن "متعة الدهشة الأولى" قد نسختها في القراءة الثانية "متعة المقارنة".
في ضوء اعتراف نجيب محفوظ بأن طاهر عبيد الأرملاوي هو تحوير لصورة صلاح جاهين الحقيقي وتجسيد لمأساته؛ أصبحت لا أبالي كثيراً بالمعطيات القصصية التي سبقت معرفتها وإنما مضيت أبعد من ذلك إلى البحث القسري عن نقط التشابه والاختلاف بين الصورة التي أملكها عن الفنان صلاح جاهين وبين صورته الروائية التي صاغها الراوي بالاعتماد على عديد من السمات الشخصية، من بينها المجموعة الأولية الآتية:
«طاهر عبيد ينتمي إلى طبقة حمادة ولكنه بميله إلى البدانة ومرحه وبساطته يبدو كأنه منا. تحت النخلة أسمَعنا أول أشعاره، ومضى يتعلم الفرنسية تلميذاً محباً لمامته، ويهيم بين أركان مكتبة القصر الفاخرة. وينتابه القلق أحياناً فيقول:
- أنا مطارد، الويل لي إن لم أصبح طبيباً فذاً!
فتنته بصديقات شقيقته غير خافية حتى سأله إسماعيل قدري:
- أليس للسراي سطح؟
فأجابه ضاحكاً:
- لا سطح ولا غابة تين شوكي!
ذو هيئة شعبية ومزاج شعبي رغم نشأته في فيللا نصف أوروبية. كيف أفلت من قبضة الباشا والهانم؟. في نظر الوالدين نحن نتحمل مسئولية السقوط. وهو أكول بطبعه، وعلمناه نحن حب الرمرمة، فعشق لحمة الرأس والفول والفلافل والممبار والكبد والمشبك والهريسة والكسكسي والباذنجان المخلل. بل تقدَّمنا جميعاً في الاقتباس من قاموس الشوارع والحواري ورصع أشعاره الأولى بألفاظها المتمردة» .
الحق أن معرفتي بشخص صلاح جاهين الحقيقي محدودة، مرجعها بضع مقالات وأخبار متفرقة في الصحف والمجلات، إضافة إلى اطلاعي على بعض رسومه الكاريكاتورية وبعض رباعياته خاصة ديوانه "كلمة سلام" وأشعاره المغناة. وكما هو واضح ليس من شأن هذه المعرفة المحدودة أن تسمح لي بالتأكد إن كانت تفاصيل الصورة الروائية حقيقة أم لا. وفوق هذا وذاك لا أراني معنياً بعد هذه القراءة الثانية – أو أثناءها- بأن أبحث في المراجع عن مزيد من أخبار صلاح وعن مزيد من المعلومات حول شخصه ما دمت غير مطالب بكتابة سيرة حياتية، وإنما تكفيني الحقائق التي أعرفها مسبقاً وأستعين بها في "المقارنة" وتحقيق المتعة.
تستدعي وظيفة المقارنة بالضرورة وظيفة التخيل. والتخيّل وظيفة كانت حاضرة حتى في القراءة الأولى، إلا أنني أُرغم الآن على النظر إلى الوقائع والشخصيات والسمات من زاوية نظر جديدة. إني أضطر إلى ذلك اضطراراً مادمت قد عرفت أن السمات المبثوثة عبر الرواية تخص شخصاً حقيقياً له وجود عيني في العالم الخارجي (أو كان له وجود قبل أن ينتحر). صحيح أن ثمة تحويرات وتعديلات فنية باعتراف المؤلف نفسه؛ ومع ذلك كلما تابعت القراءة ألفيتني مرغماً على تخيّل (أو تمثل) السمات الجسدية والنفسية والثقافية وإضفائها في الوقت ذاته على صورة صلاح جاهين التي في خاطري: البدانة، والمرح، والبساطة، والانتماء إلى طبقة ثرية، وقول الشعر، وتعلم الفرنسية، وحب الأم، والخوف من أن لا يصبح طبيباً (طبقاً لرغبة الأب)، والفتنة بصديقات الأخت، والهيئة الجسدية، والمزاج الشعبي، وحب الأكل، والتأثر المتمرد بالأصدقاء، وتلميح أحدهم إلى الجنس المسروق. وفي أثناء عمليات "المقارنة" و"التخيل" و"إضفاء السمات" على الصورة الحقيقة لا يهمني التحري إن كان ثمة "تساند" جمالي منسجم ومتبادل بين الشخص والسمة. تلك ليست مهمتي الآن، وإنما أتركها للنقد المطالب بعملية التقييم الفني لرواية "قشتمر". وربما كان من شأن ذلك النقد أن ينتبه إلى أن الراوي قد كف عن التغلغل إلى الأعماق الداخلية للشخصية، وتجاوز المونولوغات والمناجاة والحوارات النفسية إلى الاعتماد على الحوار والحكي المباشر والوصف الخارجي لسماتها. وربما كان من شأنه كذلك الانتباه إلى أن نجيب محفوظ قد غدا في مرحلته القصصية المتأخرة (ومنها رواية قشتمر) يعتبر الشخصية أو المكان نموذجاً رمزياً متعالياً، أو مشجباً يعلق عليه أفكاره وتأملاته، قافزاً على التفاصيل الوصفية والثغرات التي تبرز بين جملة وجملة. أما ما يمكن أن يشبع نهمي الآن فيتمثل في النهل من حياض المعلومات التي تدفعني بدورها إلى مزيد من التخيل اللذيذ. وهذه الوظيفة التخيلية تعفيني راهناً من الاختبار النقدي المباشر لسمات الصورة الروائية. إنني أحلم، من خلال الإطلاع على الرواية، بصورة لصلاح جاهين واسعة الضفاف، طريفة في حزن، وجذابة في سياقها الإنساني. إنها صورة أخرى، أو على الأصح الوجه الآخر للصورة.
كنا منذ عقود نطالع في المجلات والصحف كتابات واصفة للأعمال الأدبية يمزج فيها أصحابها بين ما هو متخيَّل من لدن المبدع (الشاعر أو الناثر) وبين المعطيات والحقائق الخارجية التي تخص الحياة بمفهومها الواسع والمتشعب. ولم تكن هذه الكتابات بالضرورة نقدية خالصة؛ وإنما كانت تكتفي في مناسبات عديدة بتسجيل ما يعن على خاطر الكاتب الواصف من "مقارنات" و"تخيلات" و"تداعيات" يستدعيها النص الأدبي ذاته سواء أكان قصة أم قصيدة أم رواية أو مسرحية. كذلك كان ديدن طه حسين والعقاد والمازني والنويهي ورجاء النقاش وغالي شكري وأنيس منصور ويحيى حقي وفؤاد دوارة وأنور الجندي والطاهر الطناحي وغيرهم كثير.
ثم أتى علينا بعد ذلك حين من الدهر أوهمتنا خلاله بعض الاتجاهات النقدية الحديثة بحتمية التعامل مع النص الأدبي في انغلاقه على ذاته واستحالة انفتاحه على العناصر الخارجية. إنها اتجاهات التجريد، والبنية، والسيمياء، وما بعد الحداثة، والقول بموت المؤلف، وفصل العمل الأدبي عن صاحبه. وبغض النظر عن مشروعية التساؤل إن كانت تلك الكتابات الواصفة والمنفتحة على العناصر الخارجية هي من قبيل النقد الأدبي الصارم أم لا؛ تظل مع ذلك إمكانات قرائيةً نوعية تمثل سبيلاً آخر من سبل استشراف إنسانية الإبداع. فلماذا نحرم أنفسنا إذن من متع مثل هذه الإمكانات بتركيزنا على وجه واحد للصورة فقط؟.
التعليقات (0)