قصص الأطفال بين الأدبية والتربية
الحد بين أدبية قصة الطفل وبعدها التربوي.
يعد الخوض في مجال الحدود الفاصلة أو الجامعة بين أدبية قصة الطفل وبعدها التربوي من مبتدعات النقد الأدبي المعاصر. وإذا كانت العلاقة بين الأدبية والتربية لا تكاد تطرح على مستوى نقد أدب الراشدين؛ فإن ثمة تعالقات أخرى يستشيرها ذلك الأدب الراشد فيفرض وجودها على النقد، من قبل التعالق الممكن بين الرواية وبعدها الاجتماعي أو النفسي أو السياسي أو الموضوعاتي. وما من شك أن الوظيفة التعليمية تقف على رأس قائمة الحوافز التي تدعو إلى ربط قصة الطفل ببعدها التربوي ونرى أن هذا الربط بقدر ماهو مشروع وطبيعي بقدر ما يلزمه أن يتجاوز الصيغة المباشرة والآلية في التناول النقدي وأن ينتقل إلى التفكير في مسألة الحدود الفاصلة أو الجامعة انتقالا إشكاليا.
ومن البين أن الإشكال الذي نحوم حوله لا يخص ثنائية «الأدب» و «التربية» وإنما ينبع من العلاقة بين «الأدبية»و التربية، على اعتبار أن «الأدبية» تحيل على تلك الخصائص التي قد تجعل من نص أدبي أدبا. وحيث إن عمر هذه النظرة النقدية قصير؛ كان الخوض في العلاقة بين أدبية قصة الطفل وطوابعها التربوية ابتداعا حديت العهد كما ألمحنا إلى ذلك قبل قليل. غير أن ما يهمنا بالأساس ليس تاريخ النظر النقدي في هذا المضمار وإنما نتائجه العملية التي يمكن أن يكون النقد قد انتهى إليها، إذ بذلك فقط سنضع أنفسنا وجها لوجه مع إشكال الحدود.
عندما نمعن النظر في النقد القصصي الذي تعامل مع سرد الراشدين من زاوية اجتماعية أو نفسية أو سياسية؛ نخلص إلى أنه نقد كان يرى «الظاهرة القصصية» موضوعا اجتماعيا أو نفسيا أو سياسيا، بحيث أن الأدب قد ينوب مثلا في تلك الرؤية عما هو اجتماعي كما أن ماهو اجتماعي قد يصبح بديلا عما هو أدبي. لذلك أضحت «خطة البديل» معيارا في المقاربات وسلوكا نقديا، في حين إن الجدل الحقيقي الذي يمكن أن يحصل بين الخاصية القصصية وبين بعدها الاجتماعي أو النفسي قلما كان يحظى باهتمام نقاد المضوعات الجاهزة والبدائل المستحضرة سلفا. أما أصحاب النقد الجديد فقد أحدثوا خلخلة قوية في خطة البدائل النقدية لما أن اتخذوا من البنية أو العلاقة أو الجملة وحدة تحليلية طمحوا إلى أن يكشفوا من خلالها بعض أسرار هيكلة النص وانبنائه: إلا أنه على الرغم من العديد من الإلماعات الذكية التي أفتى بها النقاد الجدد في مجال الأدبية والبنية؛ فقد ظلت معالجة الحد بين ماهو جمالي وما هو موضوعي معالجة دقيقة في حاجة ماسة إلى المزيد من الجهد والنظر النقديين.
غير أن كل ما يمكن أن يقال في هذا المجال لا يعفي بتاتا ناقد قصص الأطفال من أن يستشرف العديد من مقاسات نقد قصص الراشدين وتخريجاته، دون أن تغرب عن البال قط المسافة الشاسعة القائمة بين النقدين وكذا تباين شروط التلقي لدى الكبار والصغار. وفي هذا السياق نرى أن الفواصل بين مكونات قصة الطفل لا يمكن إلا أن تكون فواصل مصطنعة، وأن الحد بين أدبيتها وبعدها التربوي لا يمكن إلا أن يكون حدا راجحا من حيث إن المتعة والتربية تشكلان مكونيين متحققين في القصة بصورة ضمنية. هكذا يغدو التعالق بين التكوين الجميل لقصة الطفل وبين غايتها التعليمية تعالق جدل متراوح، تتحكم في صياغته مبادئ أسلوبية لعل أوضحها مبدأ «الهيمنة» و «الانسجام».
لقد اعتبرت يوما أن الأدبية قادرة أن تكمل الوظيفة التعليمية لقصص الأطفال.
كما أنني اعتقدت في وقت لاحق أن غايات التربية والتعليم والتهذيب تحتل مراتب ثانوية بالنظر إلى غايتي المتعة والتسلية . وأرى اليوم أن القول بتكملة الوظيفة أو تحديد الرتب بين المكونات النصية قد يتضمن معنى البديل الذي أشرت سلفا إلى بعض طوابعه السببية. لذلك يبدو لي أنه من الصعوبة بمكان الإفتاء بحد فاصل أو جامع بين الأدبية والغاية التربوية، وإنما هي علاقة الجدل والحوار، والمد والجزر بين مكونات تكوين نص قصصي متناسق وبين أية غاية يمكن أن تضمن في خلفية ذلك التكوين.
الصيغة المقترحة لمقاربة الحدود.
إذا كانت الطفولية سمة تميز أدب الصغار وتسمه بطوابع خاصة؛ فإن على النقد بدوره أن يستشرف تلك الطوابع ويجعل منها بوصلته الهادية في التحليل. الطفولية مرادف الاندفاع الحيوي والتحميس الذي لا تكاد تحده قيود، وهي لذلك علامة على ماهيتي الانطلاق والحرية. في حين أننا قد نرى في التربية قيدا يحول دون ذلك الانطلاق. غير أننا إذا أعدنا النظر في التربية من حيث هي انشراح إنساني يناقض الجمود، وتكوين موضوعي يحاور باقي العناصر الجمالية؛ كنا حينذاك إزاء وجهين لعملة واحدة. ولكن للأسف الشديد تعودنا في كتبنا المدرسية وفي مناهجنا وقصصنا التي نوجهها للصغار على أن نرى في التربية مواعظ وقواعد يحشى بها الذهن وأوامر ترهب وترسيمات تحير، كما تمرسنا على أن نفصل بين الطفولة والتربية ونقيم بينهما حواجز وهمية وكأن الأمر يتعلق بحاجة إنسانية تفتقر إلى التقعيد المنهجي الصارم.
وإذا اعتبرنا الطفولية سمة أدبية والتربية ليست غاية مادية جامدة أمكننا آنذاك أن نوطد صيغة الرجحان في مجال نقد قصص الأطفال. ويبدو أن اختزال الخصائص الأدبية والغايات التربوية في شكل سمات تطبيقية وملموسة من شأنه أن يسهل مهمة الناقد الأدبي إن لم نقل إنه اختزال قد يجنب الناقد الكلام الفضفاض والأحكام الخارجية والنظر المفتقر إلى الممارسة العملية. وفي رأيي أن المادة الأدبية التي تقدمها قصص الصغار تقتضي من الناقد المحلل نوعا من التحرر في المقاربة مثلما تدعوه إلى أن يشغل أدواته بانطلاق مشروط يوازي انطلاق الطفولية ذاتها. وحيث إن المادة الأدبية الجيدة لقصة ما تتميز بتلقائيتها وسحرها الأخاذ وقدرتها على الاستحواذ على القارئ وإخفاء قواعدها الفنية؛ كان الناقد بدوره مطالبا بأن يحاول جاهدا عدم الكشف عن القواعد أو الأدوات التي يشغلها في عملياته التحليلية. كما أن على ناقد قصص الصغار أن يوهم قراءه بأنه ينطلق من فراغ منهجي يضاهي الفراغ القاعدي الذي يستشف من قصص الصغار الجيدة البناء. غير أن على هذا الإيهام أن يكون مشفوعا بالوعي النقدي الحذر،وأن يكون مقيدا في الخفاء بجملة من القيود التي ألمحنا سابقا إلى بعضها ،من قبيل قيد المهيمنة وقيد الانسجام اللذين يمليهما التكوين الجمالي نفسه.
ويتضح من خلال هذه الآراء والاقتراحات أن الحدود الجامدة تنهار في القصة الجيدة بين ما هو من قبيل الأدبية وما هو من قبيل التربية.ولكي يكون النقد الأدبي في مستوى تلك الجودة عليه هو الآخر أن يتقن أدوار الإخفاء و الإيهام والتحرر المشروط. ومع ذلك يجب أن نعترف بأنها غايات نقدية صعبة التحقق بالصورة المثلي،خاصة في مجال نقد قصص الأطفال
عرف الأدب المغربي في السنوات الأخيرة غزارة ملحوظة في إنتاج قصص الأطفال ونشرها. ولكي نقارب جانبا من الجدل المفترض قيامه بين ما هو تربوي وما هو أدبي في قصص الأطفال الراهنة؛ سننتقي ثلاثة نصوص قصصية على أساس أن النتائج الملموسة التي سنتوصل إليها تتسم بالجزئية والمحدودية.
أنشودة الريح: محمد سعيد سوسان.
كانت تعيش في قصر شرقي فاتنتان؛ العازفة (نسمة) والراقصة (رانية)، وكان للسلطان ابن وحيد اسمه (فجر) أحبته (نسمة) في صمت بينما كان هو يحب (رانية). ولذلك حسدت الأولى الثانية.واستشارت (نسمة) أمها الساحرة التي أخبرتها بالسر. قالت لها إن (رانية) ليست بنتا عادية، بل هي بنت ريح الجنوب وأمها هي ريح الغرب، وأنها في السماء لكنها كانت تلعب دوما بالنجوم، بالرغم من أن والديها كانا ينهيانها عن ذلك إلى أن سقطت من يدها يوما نجمة فغضبت ريح الغرب وأنزلتها على الأرض، غير أن أباها الذي كان يحبها كثيرا أعطاها فرصة مؤجلة لكي تعود على إثرها إلى السماء. لذلك ما عليك يا (نسمة) إلا أن تعزفي أنشودة ريح الجنوب التي ما أن يسمعها والد (رانية) حتى ينزل إلى الأرض ليأخذ ابنته. وعلمت الساحرة ابنتها الأنشودة التي ما أن عزفتها في حفلة حتى طارت (رانية). وعلم الأمير بالحقيقة فغضب وسجن)نسمة). ثم مرت مدة تذكر بعدها الأمير (نسمة) فأخرجها من السجن ورق قلبه لحالها وعرض عليها الزواج لكنها رفضت تكفيرا عن حسدها وطلبت منه أن تكتفي بعزف أنشودة ريح الجنوب كلما أقام الأمير حفلا.
تبرر السمة الأسطورية إلى حد بعيد بناء هذه الحكاية، إذ بمجرد ما أن نقول إن الأمر يتعلق بسمة أسطورية إلا ويكاد الترتيب المنطقي للأحداث أن يختفي. وتلك خطة بنائية مألوفة في عموم الأساطير. ولعل أوضح مثال على تلك الخطة في حكاية «أنشودة الريح» يتجلى في حضور الشخصية الحكائية متى اقتضى السرد الأسطوري ذلك، عوض أن يكون الحضور- أو الإحضار عل الأصح- نتيجة لحدث تمهيدي أو علة سابقة. إن الفاتنتين «نسمة» و «رانية» والأم والأب وكذا السلطان وابنه «فجر» شخصيات نمطية جاهزة لا نكاد ندري شيئا عن خصائصها النفسية والخلقية إلا بمقدار قد يفيد في تشكيل النمط الحكائي لاحقا. فكل شيء في هذه الحكاية ينزع نحو المستقبل. ولو أخدنا شخصية «فجر» على سبيل المثال لرأيناها تحضر فجأة دون سابق إعلام من أجل أن تلعب دورا أو أدوارا يقتضيها السياق الأسطوري فقط، في حين أن انبناء الشخصية في القصص الواقعية وفي الروايات يكون – في وقت واحد- نتيجة لمقتضيات السياق السردي وكذا نتيجة لمقتضيات التشكل الإنساني المتكامل لصورة الشخصية ذاتها.
بعد سرد تمهيدي يشخص العلاقة بين«نسمة» و «رانية»؛ يظهر «فجر» هكذا:
« كان للسلطان ابن وحيد في عز الشباب؛ وسيم الوجه، طيب الأخلاق، اسمه «فجر». وكانت نسمة تحبه في صمت»
لقد اقترن ظهور «فجر» إذن بذكر مجموعة من الخصائص التي يقتضيها مستقبل الحكي أكثر مما هي خصائص استلزمها بناء الشخصية بناء متكاملا. إنه ابن وحيد، شاب وسيم طيب محبوب في صمت. وهي صفات لا تكاد تقدم صورة عميقة عن التكوين الداخلي للشخصية. ولعل هذا في استعراض خصائص الأمير كان كافيا لإدراك الأدوار الحكائية التي سيلعبها لاحقا.
ومن المعروف أن القارئ الطفل ينسجم إلى حد بعيد مع هذه التقنية التلقائية الناقصة التي تصاحب ظهور الشخصية وحضورها في الأساطير والخرافات والحكايات العجيبة والغريبة وسائر الأنواع السردية الخارقة. فالتلقائية قاسم مشترك بين الطفولة وهذه الأنماط من الحكي. غير أن رهان الطفل على التلقائية في هذا المضمار يكون كليا لا رجعة فيه. إنه رهان مطلق يواكب انطلاق الاندفاع الداخلي لدى الطفل. ومن أجل ذلك تتعثر الحكايات والنصوص القصصية التي لا تمضي مع هذه التلقائية إلى آخر مداها.
يبدو أن حكاية «أنشودة الريح» قد اقتبست من التراث السردي العربي وأعيدت كتابتها لكي تناسب الأطفال. ومن حسن الحظ أن الكاتب قد حدد عمر قراءة السلسلة التي نشر في إطارها هذا النص وذكر أنها «صفوة من الحكايات العجيبة والأساطير الغريبة، تتألف بالخيال، وتزخر بالطرافة والمتعة. صيغت في قالب جديد وكتبت بأسلوب شائق مناسب، ولغة سهلة واضحة يحببان القراءة للناشئة» ابتداء من سن الثامنة.
والملاحظ أن إعادة صياغة هذه الحكاية لم تنسق مع تلقائية الأسطورة والطفولة انسياقا تاما عندما احتفظت بالحب موضوعا رئيسيا في تكوين الحكاية الموجهة لفئة م الأطفال هم دون سن البلوغ. واعل هذا الاختيار الموضوعي كان كفيلا لكي يحد من اندفاع القارئ الصغير مع مجموع مكونات الحكاية والاندفاع التلقائي الكامل. صحيح أن الصغار سبق لهم أن أعجبوا أيما إعجاب بحكايات من قبيل «الجميلة والوحش» وبتلك الحكايات الأخرى التي يكون فيها الحب متبادلا بين الأمير والأميرة حيث الأمير في سبيلها كل المشاق الممكنة وغير الممكنة. غير أن فحصا دقيقا لتلك النصوص يكشف عن أسبقية قيمة المغامرة على قيمة الحب. في حين أن سارد حكاية«أنشودة الريح» كان يتقصد إلى أن يجعل من الحب قيمة مهيمنة.
لكل ذلك نرى أن غايات الإمتاع والتسلية والتهذيب قد تصل ناقصة إلى مدارك القراء الصغار لهذه الحكاية التي احترمت إلى حد بعيد باقي مكونات الفص بما في ذلك شكل الكلمات شكلا شبه تام وتوزيع الرسوم على بعض الصفحات (وإن كانت أطراف الشخصيات غير منجزة بدقة) وانتقاء الحروف الكبيرة والإخراج الطباعي الذي شابته بعض الأخطاء (من ذلك أن اسم الشخصية يكتب تارة بين علامتي التنصيص وتارة بدونها).
السارد المخدوع: إعداد مسلك محمد.
حكاية «السارق المخدوع» مقتبسة من كتاب «كليلة ودمنة» موضوعها يدور حول زوجين كانا نائمين ثم شعرا بدخول اللصوص إلى بيتهما. حينذاك كلم الرجل زوجته بصوت مسموع أوهم من خلاله أحد اللصوص بوجود المال في مكان ما من البيت. وتنجح الخطة الإيهامية فيوقع الرجل على إثرها باللص.
والتوجه التربوي مباشر في هذا النص ومنفصل عن تكوينه العام، وتتجلى مظاهره الصريحة في الإشارات الآتية:
( 1 ) يقول المؤلف في المقدمة :
« وإذا كانت هذه القصص تتضمن مواقف هزلية، من خلال بنات الخيال والواقع، فإن الهدف منها يبدو جليا من خلال سطور الحكايات وعند انتهائها، فتجدها لا تخلو من حكمة أو ....... أو توجيه». ثم يضيف:
« وهي موجهة إلى الأطفال والشباب، إلى الأبناء والآباء.
كل يقرأها بطريقته ويستمتع بها بطريقته أيضا... ليصل إلى أنها الحكمة البليغة واللهو المفيد واللغة الأنيقة والأدب الرفيع».
( 2 ) تسبق القصة بالنصيحة الآتية وقد كتبت في صفحة مستقلة بخط بارز:
«لا تصدق كلام أحد لا علم لك بحاله»
( 3 ) تنتهي الحكاية باعتراف السارق المتضمن ويلفت السارد الانتباه إلى تلك الموعظة من خلال طريقة وضع الكلمات على الصفحة وصيغة إخراجها الطباعي:
«أنا السارق المصدق المخدوع المغر بما لا يكون أبدا ».
وهذه تمرته » (ص 12).
( 4 ) جدول الرصيد اللغوي الذي يتضمن الكلمات وشرحها. ( ص 15).
وإلى جانب هذه المباشرة الصريحة تطرح الحكاية إشكالات جمالية عديدة لها صلة وطيدة بالطفل المتلقي وشروط الاقتباس. وعلى الرغم من أن الكاتب قصد إلى تعويم مرتكز التلقي لما أن وجه حكايته في وقت واحد «إلى الأطفال والشباب، إلى الأبناء والآباء» ( ص 3 )؛فإن الطفل يظل من بين المتلقين. وقد يقال إن تعويم ذلك المرتكز حق من حقوق المؤلف. إلا أنه يبقى مع ذلك حقا مظلا مادام من المفروض في كل قصاص يكتب للأطفال ألا يتجه في سياق التلقي إلى التعميم، بل عليه أن يحدد الفئة العمرية للأطفال الذين يقصدهم.
وما من شك أن تعويم مرتكز التلقي من لدن المؤلف لا يمنع من النظر إلى حكاية «السارق المخدوع» من منظور طفولي. وفي هذا السياق يمكن أن نثير مسألة ترتيب جمل الرواية أو رتب الحكي كم تعكسه الصفحة الأولى من النص:
« عل سارق ظهر بيت رجل من الأغنياء وكان معه جماعة من أصحابه. فاستيقظ صاحب المنزل من حركة أقدامهم فأيقظ امرأته فأعلمها بذلك وقال لها: رويدا إني لأحسب اللصوص علو البيت
فأيقظيني بصوت يسمعه اللصوص وقولي ألا تخبرني أيها الرجل عن أموالك هذه الكثيرة وكنوزك العظيمة؟ فإذا نهيتك فألحي علي بالسؤال و استدلفيني حتى أقول لك».
إن المتكلم في الصفحة هو الرجل الذي يعلم زوجته بأمر اللصوص ويطلب منها أن تردد كلاما يلقنه إياها كما يطلب منها القيام بمجموعة من الأفعال. غير أن تداخل كل ذلك وطريقة توزيع محتويات الطلب على الصفحة من شأنهما أن يستثيرا لدى القارئ الراشد ارتباكا يليه القارئ الطفل. ذلك أن انتقال كلام الرجل من مستوى الخطاب اللغوي الذي يعلم ويخبر إلى مستوى الخطاب اللغوي الذي يتضمن معاني الطلب والأمر إنما هو انتقال مفاجئ يتضمن ثغرة تستلزم الملء حتى يتمكن ذهن الصغير من أن ينتقل بدوره من مستوى خطابي إلى مستوى آخر انتقالا طبيعيا.
ولعله من البين أن النصوص الأدبية المركبة أو الأحاجي أو المعميات هي التي تعتمد في بنائها على حذف الجمل أو على النقلات العبيرية الواسعة، أو على تغيير صيغة الخطاب طفرة واحدة. ولا أعتقد أن السارد قد قصد قصدا إلى أي من تلك الألوان الأدبية وتلك الأساليب التعبيرية، أو كان واعيا في كل ذلك، وإنما هو قد تابع صياغة ابن المقفع القديمة مراعاة لشروط الاقتباس ومقتضيات المعاصرة والمسافة الزمنية الفاصلة بين متلقي ابن المقفع والمتلقي المعاصر. ومن حقنا، كما منة حق الطفل، أن نتساءل عن الانقطاع الحاصل في كلام الرجل على مستوى الإخراج الطباعي على الصفحة. أضف إلى ذلك أنه كان في مكينة السارد أن يستفيد من الإمكانيات التعبيرية المعاصرة فيصوغ كلام الرجل في شكل حواري يدور بينه وبين زوجته ليخرج بذلك أسلوب الحكاية من مستواه التعبيري الأفقي. غير أن السارد كان صريحا مع نفسه ومع قرائه عندما أعلن في مقدمة السلسلة أنه لن يغير كثيرا من لغة النصوص التي اقتبسها إن لم نقل نقلها نقلا:
« هذه مجموعة قصصية أخذت بلغتها الأصيلة من كتاب كليلة ودمنة بأسلوب أديبها عبد الله بن المقفع..مع بعض التصرف عند الضرورة لإخراجها في قالبها الأدبي الجميل »[ ص 3 ].
إن التحبيك الفني الذي يراعي جيدا أفق انتظار المتلقي لا يتناقص بالضرورة مع الأدب. ومهما تباينت الغايات التي تصبو إليها قصة الطفل وتعددت مرامي كاتبها؛ يظل التحبيك الرفيع شرطا قبليا وقناة طبيعية لإبلاغ الغاية. ولعل من البديهيات السائدة بين مبدعي قصص الأطفال ونقادها القول بإضمار الغاية في التكوين النصي وعدم الإشارة إليها إشارة مباشرة. لقد لمسنا في صياغة حكاية « السارق المخدوع » توجها سافرا نحو الموعظة مع تفادي أي جهد أسلوبي من أجل تحاشيها. وبذلك فوتت على القارئ الطفل فرصة التعلم من خلال الاستمتاع الحر.
كعكة العيد: حميد السملالي.
يدور هذا الشريط المصور حول كعكة هيأها القط مينوش وذهب بها إلى السجن المركزي لكي يقدمها هدية إلى الأخوين برقوق. وفي طريقه حاول صاحب الركب أن يسرق منه الكعكة، لكن مينوش انتصر عليه كما سينتصر فيما بعد على سمك القرش. ووصل مينوش إلى السجن وسلم الهدية إلى الأخوين برقوق وانصرف. إلا أن الأخوين استغلا تجمع حراس السجن حول الكعكة وفرا. واعترض طريقهما سمك القرش وكاد أن يقضي عليهما لولا حضور مينوش الذي عاد بهما إلى السجن وأوصاهما بألا يحاول الهرب ثانية. كما أنه أتى لهما في مناسبة لاحقة بكعكة أخرى فحاولا من جديد الهرب إلا أم مينوش كان لهما بالمرصاد هذه المرة.
وانتهى الشريط بتهديده لهما.
يتمتع القط مينوش بطاقات خارقة لعله قد اكتسبها من تلك الحرية المطلقة التي تمنح لحيوانات الخرافات والأساطير والأشرطة المصورة وأفلام الكارتون. إن مينوش ينتصر على عدوه من البشر ( صاحب المركب ) مثلما يفلح في التخلص من خصمه الحيواني (سمك القرش الضخم). لكن مينوش على الرغم من إمكانياته الخارقة كان يراعي مقتضيات الصداقة حيث يتذكر صديقيه السجينين ويعد لهما الكعكة ويبارك لهما العيد. إلا أن لمقتضيات الصداقة حدودا؛ ذلك أن مينوش يحب النظام؛ وهو لذلك يرجع الأخوين برقوق إلى السجن ويهددهما إن حاولا الفرار ثانية.
وتتوسل رسوم الشريط بالعديد من الإمكانيات الفنية لتجسيد كل تفاصيل مغامرة مينوش. وعلى الرغم من أن الرسوم غير ملونة فقد أتت جميلة ودقيقة في تشخيص الحركات المفرطة التي تصدر عن الشخصيات. كما حاول الرسام أن يضفي الحيوية في العديد من المرات على الأصوات ويجسدها بواسطة طريقة الكتابة المهزوزة كما في معركة مينوش مع سمك القرش ( ص 7-8 ) وصراع الأخوين برقوق مع السمك نفسه ( 12-15 ).
لقد شاء لكاتب الرسام أن يعبر عن قيمتي الصداقة والنظام من خلال أسلوب المغامرة الدينامية التي يوفرها النوع الفني المنتقى. والملاحظ أن أفعال الشخصيات يمكن أن نجد لها تعليلا مقبولا إن نحن اعتمدنا منطق ذلك النوع، أو على الأصح اللامنطق الذي يعد سمة تكوينية من خرافات الأطفال والعديد من الأنواع السردية الأخرى. من ذلك أن الكعكة الشهية هي التي تعلل اعتداء صاحب المركب واعتداء سمك القرش وكذا انشغال حراس السجن. ويأتي اللامنطق من كون صاحب المركب قد نسي وضعه الاجتماعي المتزن فانقض على الكعكة انقضاضا لا يبرره سوى وضعه السردي داخل النوع الخرافي، وهو الوضع الخرافي نفسه الذي يعلل سلوك سمك القرش العدواني. وكل هذه التعليلات لن تند عن الصيغ الأسلوبية المتداولة في هذا الصنف من قصص الأطفال. إلا أن السارد لم يشأ أن يكون خرافيا خالصا لما أن جعل السجينين لا يباليان بالكعكة ولا يفكران إلا بالفرار، فأضاف إلى قمتي الصداقة والنظام قيمة الحرية ولكن بصيغة خجولة غير تامة. وبذلك تم الجمع المنسجم بين اللامنطق والمنطق داخل هذا النص المخصوص نوعيا.
لم يعمد حميد السملالي في شريطه إلى المباشرة في مخاطبة الأطفال. وبقدر ما أتت فكرة النص طريفة وممتعة بقدر ما أتيحت للقارئ الصغير فرص التهذيب التلقائي. ذلك أن الغبطة التي تمنحها قصص المغامرات للأطفال من شأنها أن تفتح مسام مداركهم وخيالاتهم وتحفزهم في مرحلة لاحقة على الخلق والابتداع. وما من شك أن التربية لا يجب أن تكون دوما مرادفا للفائدة القريبة والخلق الحسن، وإنما هي أيضا توطيد الطفل على السلوك الإنساني القديم والاتزان النفسي السوي حتى وإن لم تظهر نتائج كل ذلك بصورة مادية وآنية.
ويمكن أن نؤاخذ مجموع سلسلة « مغامرات مينوش » على إغفالها تحديد أعمار فئة قرائها. غير أن تلقائية سرد « كعكة العيد» من شأنها أن تهون من حدة ذلك الإغفال.
قصص الأطفال بين الأدبية والتربية
الحد بين أدبية قصة الطفل وبعدها التربوي.
يعد الخوض في مجال الحدود الفاصلة أو الجامعة بين أدبية قصة الطفل وبعدها التربوي من مبتدعات النقد الأدبي المعاصر. وإذا كانت العلاقة بين الأدبية والتربية لا تكاد تطرح على مستوى نقد أدب الراشدين؛ فإن ثمة تعالقات أخرى يستشيرها ذلك الأدب الراشد فيفرض وجودها على النقد، من قبل التعالق الممكن بين الرواية وبعدها الاجتماعي أو النفسي أو السياسي أو الموضوعاتي. وما من شك أن الوظيفة التعليمية تقف على رأس قائمة الحوافز التي تدعو إلى ربط قصة الطفل ببعدها التربوي ونرى أن هذا الربط بقدر ماهو مشروع وطبيعي بقدر ما يلزمه أن يتجاوز الصيغة المباشرة والآلية في التناول النقدي وأن ينتقل إلى التفكير في مسألة الحدود الفاصلة أو الجامعة انتقالا إشكاليا.
ومن البين أن الإشكال الذي نحوم حوله لا يخص ثنائية «الأدب» و «التربية» وإنما ينبع من العلاقة بين «الأدبية»و التربية، على اعتبار أن «الأدبية» تحيل على تلك الخصائص التي قد تجعل من نص أدبي أدبا. وحيث إن عمر هذه النظرة النقدية قصير؛ كان الخوض في العلاقة بين أدبية قصة الطفل وطوابعها التربوية ابتداعا حديت العهد كما ألمحنا إلى ذلك قبل قليل. غير أن ما يهمنا بالأساس ليس تاريخ النظر النقدي في هذا المضمار وإنما نتائجه العملية التي يمكن أن يكون النقد قد انتهى إليها، إذ بذلك فقط سنضع أنفسنا وجها لوجه مع إشكال الحدود.
عندما نمعن النظر في النقد القصصي الذي تعامل مع سرد الراشدين من زاوية اجتماعية أو نفسية أو سياسية؛ نخلص إلى أنه نقد كان يرى «الظاهرة القصصية» موضوعا اجتماعيا أو نفسيا أو سياسيا، بحيث أن الأدب قد ينوب مثلا في تلك الرؤية عما هو اجتماعي كما أن ماهو اجتماعي قد يصبح بديلا عما هو أدبي. لذلك أضحت «خطة البديل» معيارا في المقاربات وسلوكا نقديا، في حين إن الجدل الحقيقي الذي يمكن أن يحصل بين الخاصية القصصية وبين بعدها الاجتماعي أو النفسي قلما كان يحظى باهتمام نقاد المضوعات الجاهزة والبدائل المستحضرة سلفا. أما أصحاب النقد الجديد فقد أحدثوا خلخلة قوية في خطة البدائل النقدية لما أن اتخذوا من البنية أو العلاقة أو الجملة وحدة تحليلية طمحوا إلى أن يكشفوا من خلالها بعض أسرار هيكلة النص وانبنائه: إلا أنه على الرغم من العديد من الإلماعات الذكية التي أفتى بها النقاد الجدد في مجال الأدبية والبنية؛ فقد ظلت معالجة الحد بين ماهو جمالي وما هو موضوعي معالجة دقيقة في حاجة ماسة إلى المزيد من الجهد والنظر النقديين.
غير أن كل ما يمكن أن يقال في هذا المجال لا يعفي بتاتا ناقد قصص الأطفال من أن يستشرف العديد من مقاسات نقد قصص الراشدين وتخريجاته، دون أن تغرب عن البال قط المسافة الشاسعة القائمة بين النقدين وكذا تباين شروط التلقي لدى الكبار والصغار. وفي هذا السياق نرى أن الفواصل بين مكونات قصة الطفل لا يمكن إلا أن تكون فواصل مصطنعة، وأن الحد بين أدبيتها وبعدها التربوي لا يمكن إلا أن يكون حدا راجحا من حيث إن المتعة والتربية تشكلان مكونيين متحققين في القصة بصورة ضمنية. هكذا يغدو التعالق بين التكوين الجميل لقصة الطفل وبين غايتها التعليمية تعالق جدل متراوح، تتحكم في صياغته مبادئ أسلوبية لعل أوضحها مبدأ «الهيمنة» و «الانسجام».
لقد اعتبرت يوما أن الأدبية قادرة أن تكمل الوظيفة التعليمية لقصص الأطفال.
كما أنني اعتقدت في وقت لاحق أن غايات التربية والتعليم والتهذيب تحتل مراتب ثانوية بالنظر إلى غايتي المتعة والتسلية . وأرى اليوم أن القول بتكملة الوظيفة أو تحديد الرتب بين المكونات النصية قد يتضمن معنى البديل الذي أشرت سلفا إلى بعض طوابعه السببية. لذلك يبدو لي أنه من الصعوبة بمكان الإفتاء بحد فاصل أو جامع بين الأدبية والغاية التربوية، وإنما هي علاقة الجدل والحوار، والمد والجزر بين مكونات تكوين نص قصصي متناسق وبين أية غاية يمكن أن تضمن في خلفية ذلك التكوين.
الصيغة المقترحة لمقاربة الحدود.
إذا كانت الطفولية سمة تميز أدب الصغار وتسمه بطوابع خاصة؛ فإن على النقد بدوره أن يستشرف تلك الطوابع ويجعل منها بوصلته الهادية في التحليل. الطفولية مرادف الاندفاع الحيوي والتحميس الذي لا تكاد تحده قيود، وهي لذلك علامة على ماهيتي الانطلاق والحرية. في حين أننا قد نرى في التربية قيدا يحول دون ذلك الانطلاق. غير أننا إذا أعدنا النظر في التربية من حيث هي انشراح إنساني يناقض الجمود، وتكوين موضوعي يحاور باقي العناصر الجمالية؛ كنا حينذاك إزاء وجهين لعملة واحدة. ولكن للأسف الشديد تعودنا في كتبنا المدرسية وفي مناهجنا وقصصنا التي نوجهها للصغار على أن نرى في التربية مواعظ وقواعد يحشى بها الذهن وأوامر ترهب وترسيمات تحير، كما تمرسنا على أن نفصل بين الطفولة والتربية ونقيم بينهما حواجز وهمية وكأن الأمر يتعلق بحاجة إنسانية تفتقر إلى التقعيد المنهجي الصارم.
وإذا اعتبرنا الطفولية سمة أدبية والتربية ليست غاية مادية جامدة أمكننا آنذاك أن نوطد صيغة الرجحان في مجال نقد قصص الأطفال. ويبدو أن اختزال الخصائص الأدبية والغايات التربوية في شكل سمات تطبيقية وملموسة من شأنه أن يسهل مهمة الناقد الأدبي إن لم نقل إنه اختزال قد يجنب الناقد الكلام الفضفاض والأحكام الخارجية والنظر المفتقر إلى الممارسة العملية. وفي رأيي أن المادة الأدبية التي تقدمها قصص الصغار تقتضي من الناقد المحلل نوعا من التحرر في المقاربة مثلما تدعوه إلى أن يشغل أدواته بانطلاق مشروط يوازي انطلاق الطفولية ذاتها. وحيث إن المادة الأدبية الجيدة لقصة ما تتميز بتلقائيتها وسحرها الأخاذ وقدرتها على الاستحواذ على القارئ وإخفاء قواعدها الفنية؛ كان الناقد بدوره مطالبا بأن يحاول جاهدا عدم الكشف عن القواعد أو الأدوات التي يشغلها في عملياته التحليلية. كما أن على ناقد قصص الصغار أن يوهم قراءه بأنه ينطلق من فراغ منهجي يضاهي الفراغ القاعدي الذي يستشف من قصص الصغار الجيدة البناء. غير أن على هذا الإيهام أن يكون مشفوعا بالوعي النقدي الحذر،وأن يكون مقيدا في الخفاء بجملة من القيود التي ألمحنا سابقا إلى بعضها ،من قبيل قيد المهيمنة وقيد الانسجام اللذين يمليهما التكوين الجمالي نفسه.
ويتضح من خلال هذه الآراء والاقتراحات أن الحدود الجامدة تنهار في القصة الجيدة بين ما هو من قبيل الأدبية وما هو من قبيل التربية.ولكي يكون النقد الأدبي في مستوى تلك الجودة عليه هو الآخر أن يتقن أدوار الإخفاء و الإيهام والتحرر المشروط. ومع ذلك يجب أن نعترف بأنها غايات نقدية صعبة التحقق بالصورة المثلي،خاصة في مجال نقد قصص الأطفال
عرف الأدب المغربي في السنوات الأخيرة غزارة ملحوظة في إنتاج قصص الأطفال ونشرها. ولكي نقارب جانبا من الجدل المفترض قيامه بين ما هو تربوي وما هو أدبي في قصص الأطفال الراهنة؛ سننتقي ثلاثة نصوص قصصية على أساس أن النتائج الملموسة التي سنتوصل إليها تتسم بالجزئية والمحدودية.
أنشودة الريح: محمد سعيد سوسان.
كانت تعيش في قصر شرقي فاتنتان؛ العازفة (نسمة) والراقصة (رانية)، وكان للسلطان ابن وحيد اسمه (فجر) أحبته (نسمة) في صمت بينما كان هو يحب (رانية). ولذلك حسدت الأولى الثانية.واستشارت (نسمة) أمها الساحرة التي أخبرتها بالسر. قالت لها إن (رانية) ليست بنتا عادية، بل هي بنت ريح الجنوب وأمها هي ريح الغرب، وأنها في السماء لكنها كانت تلعب دوما بالنجوم، بالرغم من أن والديها كانا ينهيانها عن ذلك إلى أن سقطت من يدها يوما نجمة فغضبت ريح الغرب وأنزلتها على الأرض، غير أن أباها الذي كان يحبها كثيرا أعطاها فرصة مؤجلة لكي تعود على إثرها إلى السماء. لذلك ما عليك يا (نسمة) إلا أن تعزفي أنشودة ريح الجنوب التي ما أن يسمعها والد (رانية) حتى ينزل إلى الأرض ليأخذ ابنته. وعلمت الساحرة ابنتها الأنشودة التي ما أن عزفتها في حفلة حتى طارت (رانية). وعلم الأمير بالحقيقة فغضب وسجن)نسمة). ثم مرت مدة تذكر بعدها الأمير (نسمة) فأخرجها من السجن ورق قلبه لحالها وعرض عليها الزواج لكنها رفضت تكفيرا عن حسدها وطلبت منه أن تكتفي بعزف أنشودة ريح الجنوب كلما أقام الأمير حفلا.
تبرر السمة الأسطورية إلى حد بعيد بناء هذه الحكاية، إذ بمجرد ما أن نقول إن الأمر يتعلق بسمة أسطورية إلا ويكاد الترتيب المنطقي للأحداث أن يختفي. وتلك خطة بنائية مألوفة في عموم الأساطير. ولعل أوضح مثال على تلك الخطة في حكاية «أنشودة الريح» يتجلى في حضور الشخصية الحكائية متى اقتضى السرد الأسطوري ذلك، عوض أن يكون الحضور- أو الإحضار عل الأصح- نتيجة لحدث تمهيدي أو علة سابقة. إن الفاتنتين «نسمة» و «رانية» والأم والأب وكذا السلطان وابنه «فجر» شخصيات نمطية جاهزة لا نكاد ندري شيئا عن خصائصها النفسية والخلقية إلا بمقدار قد يفيد في تشكيل النمط الحكائي لاحقا. فكل شيء في هذه الحكاية ينزع نحو المستقبل. ولو أخدنا شخصية «فجر» على سبيل المثال لرأيناها تحضر فجأة دون سابق إعلام من أجل أن تلعب دورا أو أدوارا يقتضيها السياق الأسطوري فقط، في حين أن انبناء الشخصية في القصص الواقعية وفي الروايات يكون – في وقت واحد- نتيجة لمقتضيات السياق السردي وكذا نتيجة لمقتضيات التشكل الإنساني المتكامل لصورة الشخصية ذاتها.
بعد سرد تمهيدي يشخص العلاقة بين«نسمة» و «رانية»؛ يظهر «فجر» هكذا:
« كان للسلطان ابن وحيد في عز الشباب؛ وسيم الوجه، طيب الأخلاق، اسمه «فجر». وكانت نسمة تحبه في صمت»
لقد اقترن ظهور «فجر» إذن بذكر مجموعة من الخصائص التي يقتضيها مستقبل الحكي أكثر مما هي خصائص استلزمها بناء الشخصية بناء متكاملا. إنه ابن وحيد، شاب وسيم طيب محبوب في صمت. وهي صفات لا تكاد تقدم صورة عميقة عن التكوين الداخلي للشخصية. ولعل هذا في استعراض خصائص الأمير كان كافيا لإدراك الأدوار الحكائية التي سيلعبها لاحقا.
ومن المعروف أن القارئ الطفل ينسجم إلى حد بعيد مع هذه التقنية التلقائية الناقصة التي تصاحب ظهور الشخصية وحضورها في الأساطير والخرافات والحكايات العجيبة والغريبة وسائر الأنواع السردية الخارقة. فالتلقائية قاسم مشترك بين الطفولة وهذه الأنماط من الحكي. غير أن رهان الطفل على التلقائية في هذا المضمار يكون كليا لا رجعة فيه. إنه رهان مطلق يواكب انطلاق الاندفاع الداخلي لدى الطفل. ومن أجل ذلك تتعثر الحكايات والنصوص القصصية التي لا تمضي مع هذه التلقائية إلى آخر مداها.
يبدو أن حكاية «أنشودة الريح» قد اقتبست من التراث السردي العربي وأعيدت كتابتها لكي تناسب الأطفال. ومن حسن الحظ أن الكاتب قد حدد عمر قراءة السلسلة التي نشر في إطارها هذا النص وذكر أنها «صفوة من الحكايات العجيبة والأساطير الغريبة، تتألف بالخيال، وتزخر بالطرافة والمتعة. صيغت في قالب جديد وكتبت بأسلوب شائق مناسب، ولغة سهلة واضحة يحببان القراءة للناشئة» ابتداء من سن الثامنة.
والملاحظ أن إعادة صياغة هذه الحكاية لم تنسق مع تلقائية الأسطورة والطفولة انسياقا تاما عندما احتفظت بالحب موضوعا رئيسيا في تكوين الحكاية الموجهة لفئة م الأطفال هم دون سن البلوغ. واعل هذا الاختيار الموضوعي كان كفيلا لكي يحد من اندفاع القارئ الصغير مع مجموع مكونات الحكاية والاندفاع التلقائي الكامل. صحيح أن الصغار سبق لهم أن أعجبوا أيما إعجاب بحكايات من قبيل «الجميلة والوحش» وبتلك الحكايات الأخرى التي يكون فيها الحب متبادلا بين الأمير والأميرة حيث الأمير في سبيلها كل المشاق الممكنة وغير الممكنة. غير أن فحصا دقيقا لتلك النصوص يكشف عن أسبقية قيمة المغامرة على قيمة الحب. في حين أن سارد حكاية«أنشودة الريح» كان يتقصد إلى أن يجعل من الحب قيمة مهيمنة.
لكل ذلك نرى أن غايات الإمتاع والتسلية والتهذيب قد تصل ناقصة إلى مدارك القراء الصغار لهذه الحكاية التي احترمت إلى حد بعيد باقي مكونات الفص بما في ذلك شكل الكلمات شكلا شبه تام وتوزيع الرسوم على بعض الصفحات (وإن كانت أطراف الشخصيات غير منجزة بدقة) وانتقاء الحروف الكبيرة والإخراج الطباعي الذي شابته بعض الأخطاء (من ذلك أن اسم الشخصية يكتب تارة بين علامتي التنصيص وتارة بدونها).
السارد المخدوع: إعداد مسلك محمد.
حكاية «السارق المخدوع» مقتبسة من كتاب «كليلة ودمنة» موضوعها يدور حول زوجين كانا نائمين ثم شعرا بدخول اللصوص إلى بيتهما. حينذاك كلم الرجل زوجته بصوت مسموع أوهم من خلاله أحد اللصوص بوجود المال في مكان ما من البيت. وتنجح الخطة الإيهامية فيوقع الرجل على إثرها باللص.
والتوجه التربوي مباشر في هذا النص ومنفصل عن تكوينه العام، وتتجلى مظاهره الصريحة في الإشارات الآتية:
( 1 ) يقول المؤلف في المقدمة :
« وإذا كانت هذه القصص تتضمن مواقف هزلية، من خلال بنات الخيال والواقع، فإن الهدف منها يبدو جليا من خلال سطور الحكايات وعند انتهائها، فتجدها لا تخلو من حكمة أو ....... أو توجيه». ثم يضيف:
« وهي موجهة إلى الأطفال والشباب، إلى الأبناء والآباء.
كل يقرأها بطريقته ويستمتع بها بطريقته أيضا... ليصل إلى أنها الحكمة البليغة واللهو المفيد واللغة الأنيقة والأدب الرفيع».
( 2 ) تسبق القصة بالنصيحة الآتية وقد كتبت في صفحة مستقلة بخط بارز:
«لا تصدق كلام أحد لا علم لك بحاله»
( 3 ) تنتهي الحكاية باعتراف السارق المتضمن ويلفت السارد الانتباه إلى تلك الموعظة من خلال طريقة وضع الكلمات على الصفحة وصيغة إخراجها الطباعي:
«أنا السارق المصدق المخدوع المغر بما لا يكون أبدا ».
وهذه تمرته » (ص 12).
( 4 ) جدول الرصيد اللغوي الذي يتضمن الكلمات وشرحها. ( ص 15).
وإلى جانب هذه المباشرة الصريحة تطرح الحكاية إشكالات جمالية عديدة لها صلة وطيدة بالطفل المتلقي وشروط الاقتباس. وعلى الرغم من أن الكاتب قصد إلى تعويم مرتكز التلقي لما أن وجه حكايته في وقت واحد «إلى الأطفال والشباب، إلى الأبناء والآباء» ( ص 3 )؛فإن الطفل يظل من بين المتلقين. وقد يقال إن تعويم ذلك المرتكز حق من حقوق المؤلف. إلا أنه يبقى مع ذلك حقا مظلا مادام من المفروض في كل قصاص يكتب للأطفال ألا يتجه في سياق التلقي إلى التعميم، بل عليه أن يحدد الفئة العمرية للأطفال الذين يقصدهم.
وما من شك أن تعويم مرتكز التلقي من لدن المؤلف لا يمنع من النظر إلى حكاية «السارق المخدوع» من منظور طفولي. وفي هذا السياق يمكن أن نثير مسألة ترتيب جمل الرواية أو رتب الحكي كم تعكسه الصفحة الأولى من النص:
« عل سارق ظهر بيت رجل من الأغنياء وكان معه جماعة من أصحابه. فاستيقظ صاحب المنزل من حركة أقدامهم فأيقظ امرأته فأعلمها بذلك وقال لها: رويدا إني لأحسب اللصوص علو البيت
فأيقظيني بصوت يسمعه اللصوص وقولي ألا تخبرني أيها الرجل عن أموالك هذه الكثيرة وكنوزك العظيمة؟ فإذا نهيتك فألحي علي بالسؤال و استدلفيني حتى أقول لك».
إن المتكلم في الصفحة هو الرجل الذي يعلم زوجته بأمر اللصوص ويطلب منها أن تردد كلاما يلقنه إياها كما يطلب منها القيام بمجموعة من الأفعال. غير أن تداخل كل ذلك وطريقة توزيع محتويات الطلب على الصفحة من شأنهما أن يستثيرا لدى القارئ الراشد ارتباكا يليه القارئ الطفل. ذلك أن انتقال كلام الرجل من مستوى الخطاب اللغوي الذي يعلم ويخبر إلى مستوى الخطاب اللغوي الذي يتضمن معاني الطلب والأمر إنما هو انتقال مفاجئ يتضمن ثغرة تستلزم الملء حتى يتمكن ذهن الصغير من أن ينتقل بدوره من مستوى خطابي إلى مستوى آخر انتقالا طبيعيا.
ولعله من البين أن النصوص الأدبية المركبة أو الأحاجي أو المعميات هي التي تعتمد في بنائها على حذف الجمل أو على النقلات العبيرية الواسعة، أو على تغيير صيغة الخطاب طفرة واحدة. ولا أعتقد أن السارد قد قصد قصدا إلى أي من تلك الألوان الأدبية وتلك الأساليب التعبيرية، أو كان واعيا في كل ذلك، وإنما هو قد تابع صياغة ابن المقفع القديمة مراعاة لشروط الاقتباس ومقتضيات المعاصرة والمسافة الزمنية الفاصلة بين متلقي ابن المقفع والمتلقي المعاصر. ومن حقنا، كما منة حق الطفل، أن نتساءل عن الانقطاع الحاصل في كلام الرجل على مستوى الإخراج الطباعي على الصفحة. أضف إلى ذلك أنه كان في مكينة السارد أن يستفيد من الإمكانيات التعبيرية المعاصرة فيصوغ كلام الرجل في شكل حواري يدور بينه وبين زوجته ليخرج بذلك أسلوب الحكاية من مستواه التعبيري الأفقي. غير أن السارد كان صريحا مع نفسه ومع قرائه عندما أعلن في مقدمة السلسلة أنه لن يغير كثيرا من لغة النصوص التي اقتبسها إن لم نقل نقلها نقلا:
« هذه مجموعة قصصية أخذت بلغتها الأصيلة من كتاب كليلة ودمنة بأسلوب أديبها عبد الله بن المقفع..مع بعض التصرف عند الضرورة لإخراجها في قالبها الأدبي الجميل »[ ص 3 ].
إن التحبيك الفني الذي يراعي جيدا أفق انتظار المتلقي لا يتناقص بالضرورة مع الأدب. ومهما تباينت الغايات التي تصبو إليها قصة الطفل وتعددت مرامي كاتبها؛ يظل التحبيك الرفيع شرطا قبليا وقناة طبيعية لإبلاغ الغاية. ولعل من البديهيات السائدة بين مبدعي قصص الأطفال ونقادها القول بإضمار الغاية في التكوين النصي وعدم الإشارة إليها إشارة مباشرة. لقد لمسنا في صياغة حكاية « السارق المخدوع » توجها سافرا نحو الموعظة مع تفادي أي جهد أسلوبي من أجل تحاشيها. وبذلك فوتت على القارئ الطفل فرصة التعلم من خلال الاستمتاع الحر.
كعكة العيد: حميد السملالي.
يدور هذا الشريط المصور حول كعكة هيأها القط مينوش وذهب بها إلى السجن المركزي لكي يقدمها هدية إلى الأخوين برقوق. وفي طريقه حاول صاحب الركب أن يسرق منه الكعكة، لكن مينوش انتصر عليه كما سينتصر فيما بعد على سمك القرش. ووصل مينوش إلى السجن وسلم الهدية إلى الأخوين برقوق وانصرف. إلا أن الأخوين استغلا تجمع حراس السجن حول الكعكة وفرا. واعترض طريقهما سمك القرش وكاد أن يقضي عليهما لولا حضور مينوش الذي عاد بهما إلى السجن وأوصاهما بألا يحاول الهرب ثانية. كما أنه أتى لهما في مناسبة لاحقة بكعكة أخرى فحاولا من جديد الهرب إلا أم مينوش كان لهما بالمرصاد هذه المرة.
وانتهى الشريط بتهديده لهما.
يتمتع القط مينوش بطاقات خارقة لعله قد اكتسبها من تلك الحرية المطلقة التي تمنح لحيوانات الخرافات والأساطير والأشرطة المصورة وأفلام الكارتون. إن مينوش ينتصر على عدوه من البشر ( صاحب المركب ) مثلما يفلح في التخلص من خصمه الحيواني (سمك القرش الضخم). لكن مينوش على الرغم من إمكانياته الخارقة كان يراعي مقتضيات الصداقة حيث يتذكر صديقيه السجينين ويعد لهما الكعكة ويبارك لهما العيد. إلا أن لمقتضيات الصداقة حدودا؛ ذلك أن مينوش يحب النظام؛ وهو لذلك يرجع الأخوين برقوق إلى السجن ويهددهما إن حاولا الفرار ثانية.
وتتوسل رسوم الشريط بالعديد من الإمكانيات الفنية لتجسيد كل تفاصيل مغامرة مينوش. وعلى الرغم من أن الرسوم غير ملونة فقد أتت جميلة ودقيقة في تشخيص الحركات المفرطة التي تصدر عن الشخصيات. كما حاول الرسام أن يضفي الحيوية في العديد من المرات على الأصوات ويجسدها بواسطة طريقة الكتابة المهزوزة كما في معركة مينوش مع سمك القرش ( ص 7-8 ) وصراع الأخوين برقوق مع السمك نفسه ( 12-15 ).
لقد شاء لكاتب الرسام أن يعبر عن قيمتي الصداقة والنظام من خلال أسلوب المغامرة الدينامية التي يوفرها النوع الفني المنتقى. والملاحظ أن أفعال الشخصيات يمكن أن نجد لها تعليلا مقبولا إن نحن اعتمدنا منطق ذلك النوع، أو على الأصح اللامنطق الذي يعد سمة تكوينية من خرافات الأطفال والعديد من الأنواع السردية الأخرى. من ذلك أن الكعكة الشهية هي التي تعلل اعتداء صاحب المركب واعتداء سمك القرش وكذا انشغال حراس السجن. ويأتي اللامنطق من كون صاحب المركب قد نسي وضعه الاجتماعي المتزن فانقض على الكعكة انقضاضا لا يبرره سوى وضعه السردي داخل النوع الخرافي، وهو الوضع الخرافي نفسه الذي يعلل سلوك سمك القرش العدواني. وكل هذه التعليلات لن تند عن الصيغ الأسلوبية المتداولة في هذا الصنف من قصص الأطفال. إلا أن السارد لم يشأ أن يكون خرافيا خالصا لما أن جعل السجينين لا يباليان بالكعكة ولا يفكران إلا بالفرار، فأضاف إلى قمتي الصداقة والنظام قيمة الحرية ولكن بصيغة خجولة غير تامة. وبذلك تم الجمع المنسجم بين اللامنطق والمنطق داخل هذا النص المخصوص نوعيا.
لم يعمد حميد السملالي في شريطه إلى المباشرة في مخاطبة الأطفال. وبقدر ما أتت فكرة النص طريفة وممتعة بقدر ما أتيحت للقارئ الصغير فرص التهذيب التلقائي. ذلك أن الغبطة التي تمنحها قصص المغامرات للأطفال من شأنها أن تفتح مسام مداركهم وخيالاتهم وتحفزهم في مرحلة لاحقة على الخلق والابتداع. وما من شك أن التربية لا يجب أن تكون دوما مرادفا للفائدة القريبة والخلق الحسن، وإنما هي أيضا توطيد الطفل على السلوك الإنساني القديم والاتزان النفسي السوي حتى وإن لم تظهر نتائج كل ذلك بصورة مادية وآنية.
ويمكن أن نؤاخذ مجموع سلسلة « مغامرات مينوش » على إغفالها تحديد أعمار فئة قرائها. غير أن تلقائية سرد « كعكة العيد» من شأنها أن تهون من حدة ذلك الإغفال.
التعليقات (0)