صمت الحملان.
يتداول عامة الناس في المجتمع العربي أمثالا وأقوالا مأثورة، أصبحت بمثابة البوصلة التي توجه السلوك الجماعي وتحدده وفق قواعد معينة. وهكذا نسمع ونحفظ على نطاق واسع شعارات من قبيل: " اذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب " و " من تدخل في ما لا يعنيه، لقي ما لا يرضيه. " و " أهل مكة أدرى بشعابها "...
لهذه الأقوال وغيرها سياقات مختلفة وظروف خاصة ارتبطت بفضاء اجتماعي وزماني محددين. وهذا لا يعني أنها تنتمي الى ماضي لا يتكرر اليوم، فالسلوكات البشرية تتشابه، وتعيد انتاج نفسها. لذلك يمكن للأقوال المذكورة أن تكون صحيحة دائما وفق قاعدة " لكل مقام مقال ". لكن الأمر الذي أود اثارته هنا يتعلق بالبعد الثقافي الذي فرضته التربية المبنية على مثل هذه الشعارات. ذلك أن المجتمع بآلياته التربوية وأساليبه في تدبير الشأن اليومي للأفراد كرس الى حد بعيد هذه المقولات، فأصبحت ثقافة اجتماعية مشتركة...
قد يكون الصمت أبلغ من كل تعبير لساني، لكنه في العالم العربي أصبح أسلوبا في الحياة، وفقد بلاغته المفترضة لأنه أضحى عادة وليس استثناء. والمتتبع للواقع العربي القريب من هم المواطن يتوقف عند هذه الملاحظة بكل تأكيد. ففي الوقت الذي تحاصره الأزمات من كل جانب، يتقوقع المجتمع في صمته الجماعي، وكأنه غير معني بما يجري حوله تماما. وهكذا نجحت فضيلة السكوت - التي توارثها الأبناء عن الأجداد ورضعها الأطفال من أثداء أمهاتهم– عن ابعاد الانسان البسيط في المجتمع العربي عن كل ما يتعلق بالشأن العام، وهو ما فسح المجال أمام الفساد و الرشوة و الاستغلال والتبذير على نطاق واسع في كل مناحي الحياة. والسكوت الجماعي يعني غيابا للمحاسبة و المطالبة بتحسين ظروف العيش و الرفع من قيمة الخدمات الاجتماعية...وبات دور الانسان البسيط محصورا في البحث المضني عن لقمة العيش، وذلك هو الهم المشترك بين أغلب أفراد المجتمع. ولا وقت بعد ذلك للتفكير في السياسة أو تدبير الشأن العام، فتلك أمور لها مدبر حكيم.
ان هذا التواضع الجماعي على السكوت والتزام الصمت ازاء كل ما يتعلق بالتدبير اليومي لشؤون المجتمع، يؤشر لحقيقة خطيرة نجحت الأنظمة السياسية بكل جدارة في تكريسها عمليا.وأصبح أفراد المجتمع بموجبها كائنات داجنة تؤثث الديكور الخلفي للمشهد العام ولا تؤدي أية وظيفة مؤثرة. ومشاركة الانسان العادي في هذا المشهد لا تتجاوز مستوى الحضور الفرجوي. وهذا ما يتضح مثلا في الانتخابات " الصورية " التي نشهدها في عدد من الدول العربية. والمفارقة أن كل ورقة انتخابية يضعها المواطن في صندوق الاقتراع تسمى " صوتا "، لكنه صوت انتخابي يرشح بالصمت وتعيد انتاج نفس الواقع. والنتائج الانتخابية تؤكد ذلك، حيث الأرقام العربية يضرب بها المثل في الاجماع على الايمان بقضاء وقدر وارادة الحكومات. وبذلك اجتمعت آليات الاخضاع والمراقبة في الدول العربية مع حقنة الصمت الموروث من جيل لآخر على الاجهاز بشكل كامل على كل بذرة أمل في التغيير.
لقد أصبح الصمت الشعبي في العالم العربي أشبه بصمت الحملان الخائفة من مأدبة الذئاب المتربصة. وبدون القدرة، بل والرغبة في الكلام و الاحتجاج والتأفف على أقل تقدير، لن يكون في الامكان أفضل مما هوكائن. ولا يبدو أن هذا الصمت يسبق أية عاصفة...
محمد مغوتي. 04/03/2010.
التعليقات (0)