أ أبو العلاء المعري والتمثال المغتال
بقلم : حسن توفيق
شهدت سوريا سنة 1944 مهرجانا شعريا رائعا، أحياه حشد من الشعراء العرب الكبار، في صدارتهم محمد مهدي الجواهري، وقد أقيم ذلك المهرجان في أجواء انقضاء ما يقرب من ألف سنة على غياب الشاعر العبقري أبي العلاء المعري، وكان عميد الأدب العربي طه حسين في صدارة الحاضرين، حيث تبرع- وقتها - بخمسة آلاف جنيه لإتمام بناء قبر المعري وفقا لما رواه الجواهري في كتابه الضخم- ذكرياتي، ولم يكن الشعراء والأدباء هم وحدهم الذين احتشدوا في سوريا خلال ذلك المهرجان، إذ تمت إزاحة الستار عن تمثال بديع متخيل لأبي العلاء المعري في مدينة معرة النعمان التي عاش المعري فيها طيلة حياته دون أن يغادرها إلا مرة واحدة، توجه فيها إلى بغداد، أما التمثال فهو من إبداع النحات السوري فتحي محمد قباوة.
ألقى الجواهري قصيدة عصماء، تتجاوز مائة بيت، وهي من روائع شعره، وكان طه حسين يجلس إلى جواره مباشرة على منصة الاحتفال، منتشيا بسحر أبيات تلك القصيدة التي استهلها الجواهري قائلا:
قفْ بالمعرّةِ وامسحْ خدها التربَا
واستوحِ مَن طوّقَ الدنيا بما وهبا
واستوحِ مَن طيّبَ الدنيا بحكمته
ومَن على جرحها مِن روحه سكبَا
هذا ما كان سنة 1944 وهي إحدىسنوات ازدهار الثقافة العربية بكل ما تضمه وتحتضنه في فنون الشعر والأدب والفلسفة والفن التشكيلي، وقد ظل هذا الازدهار موصولا وفعالا حتى عقد الستينيات من القرن العشرين الغارب، ومن بعد هذا العقد أخذ الانحدار يتوالى ويتسيد الساحة الثقافية العربية، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن، ومن الدوحة جاءني صوت الصديق الغالي ناصر محمد العثمان- عميد الصحافة القطرية، وأحسست من خلال نبرات صوته الأسيانة أن هناك ما يحزنه، ولم يكن إحساسي خائبا، إذ قال لي: أتعرف ما جرى لتمثال أبي العلاء المعري- الشاعر العبقري الذي تفخر بأنك تحفظ الكثير من روائعه؟ وعلى الفور قلت له إن المتشنجين بينهم وبين الثقافة والإبداع عداوة، لأن التشنج ضد الثقافة على طول الخط، وهذا ما يتأكد في أجواء هذا الزمن المنحط!
في سوريا- سنة 2013 قام المتشنجون بقطع رأس تمثال أبي العلاء المعري، وهو التمثال الذي صممه – كما ذكرت- الفنان السوري فتحي محمد قباوة، أما لماذا فهذا راجع – في العقلية المتبلدة المحنطة والمنحطة- إلى أن المعري شاعر حائر، ولم يكن مستقرا على يقين، وعلى أي حال فإن ما جرى للتمثال المغتال في مدينة معرة النعمان السورية، هو نفس ما تعرض له تمثال طه حسين في مدينة المنيا المصرية، وفي الحالتين قيل إن مجهولين هم الذين ارتكبوا ما ارتكبوه، لكن هناك آخرين ليسوا مجهولين، وإنما هم معروفون قاموا بالعبث ببعض المقتنيات الموجودة في ضريح الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر في حدائق القبة بالقاهرة، وكان متشنجون آخرون قد قاموا بإسقاط تمثال عبد الناصر في مدينة طرابلس الليبية!
لم يبق إلا أن أقول لعميد الصحافة القطرية ناصر محمد العثمان ولسواه من الحزانى: لا تحزنوا، فالحضارة الإنسانية بكل ما تضمه وتحتضنه وتحتويه ليست قابلة للضياع، حتى لو احتشد لتدميرها كل المتشنجين الذين في قلوبهم مرض، وعلى عيونهم وعقولهم غشاوة مشبعة بالعطن وبالعفن، فلو أن هؤلاء حطموا التماثيل الرائعة لرموز الفكر والثقافة والوطنية، فإنهم مهما فعلوا وارتكبوا لن يستطيعوا أن يقضوا على بيت واحد من أبيات سقط الزند ولزوم ما لا يلزم للمعري، ولن يستطيعوا أن يحذفوا سطرا واحدا من أيام طه حسين أو من تراثه الفكري والأدبي الرفيع والبديع، ولن يستطيعوا أن يدمروا السد العالي الذي بناه أبناء مصر خلال ملحمة النضال الوطني العربي بزعامة عبد الناصر.
إن عقلية التشنج عقلية واحدة في كل مكان وكل زمان، فما يرتكبه المتشنجون الآن على امتداد الأرض العربية، هو امتداد لما ارتكبه المتشنجون في أوروبا- العصور الوسطى وما بعدها، حيث كانت حملات التفتيش عما في ضمائر وقلوب العرب والمسلمين في عنفوان سطوتها وشدتها بعد سقوط الأندلس في أسبانيا، وفيما بعد عاد العقل لأوروبا، وارتفعت شعارات الحرية والعدالة والمساواة، وهو ما يسعى العقلاء والثوار العرب لأن يتحقق مهما تكن التضحيات موجعة ومريرة، ومهما تكن التكاليف باهظة وكبيرة.
magnoonalarab@yahoo.com
التعليقات (0)