أفاق شيخنا من إغفاءته على صوت انفجار قريب، ففتح عينيه بصعوبة محاولاً أن يرى من يخبره بما جرى.. الانفجار الثاني كان أقرب من سابقه، وكان صوته مرعبًا، وتهاوت في الحال بناية عالية بعد أن أُنذر سكانها بضرورة مغادرتها وهم يضعون أيديهم على رؤوسهم.. وتوالت بعد ذلك الانفجارات، وتوالى سقوط البنايات التي لم يغادرها سكانها.. بينما واصلت مروحيتان هجوميتان، وأخرى قاذفة مقاتلة قصفها وعربدتها في سماء المدينة المحاصرة... وهبت جموع المواطنين من كل أنحاء المدينة تساعد طواقم الإسعاف والإنقاذ من المتطوعين في تقديم المساعدة للضحايا والمصابين بنقلهم إلى المستشفيات.. وإخراج من علقوا منهم بين الأنقاض... بينما ارتفعت الأصوات الغاضبة بالتهليل والتكبير والهتاف، واستنكار هذه الأفعال الآثمة المدانة، والتوعّد بالرد.
غادر الشيخ بصعوبة ساحة بيته الصغير الملاصق للمدرسة وهو يجر وراءه أثقال أعوامه التسعين ليشارك الناس تحركهم ومشاعرهم في تلك الظهيرة الساخنة.. وأشفق عليه عدد من الفتية، وأجلسوه تحت شجرة بجوار باب المدرسة قريبًا من بيته، حيث بادره أحد الفتية بالسؤال عن سبب خروجه وهو في هذه السن.. مضيفًا أنه ينبغي عليه البقاء في بيته... وقبل أن ينهي الفتى كلامه نظر إليه الشيخ باهتمام وهو يقول إنه منذ بداية عهده بالحياة لم يتغيب يومًا عن القيام بالواجب في سائر المناسبات العامة، والأحداث الجسام التي شهدتها هذه الديار، ولا تزال..
قال الفتى (وعلامات العطف والإعجاب بادية على وجهه): أسمعُ – يا جدي – أنه بعد أيام معدودات يحيي الناس يوم الخامس من حزيران، أو ما يسميه بعضهم ذكرى النكسة، وقد أحيا الناس منذ أيام ذكرى الخامس عشر من أيار، أو ما يسمونه ذكرى النكبة.. وأسمع كذلك عن حق العودة، وعن التقسيم، كما أسمع عن وعد بلفور وأشياء أخرى كثيرة أفهم بعضها، ولا أفهم كثيرًا منها... فهل تساعدني يا جدي على فهم هذه الأمور؟
قال الشيخ: أما بلفور.. فهو سياسيّ إنجليزيّ يهودي منح الحركة الصهيونية بقيادة ثيودور هرتزل وعدًا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.. وكان ذلك في الثاني من شهر تشرين الثاني من عام سبعة عشر وتسعمئة وألف. وهذا هو يوم مولدي أيضًا إذ سأحتفل بعد خمسة أشهر بمرور تسعين عامًا على هذه الذكرى!
وأما التقسيم.. فهو ذلك القرار الذي يحمل الرقم (181) والصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في اليوم التاسع والعشرين من تشرين الثاني من العام سبعة وأربعين وتسعمئة وألف، أي بعد ثلاثين عامًا وسبعة وعشرين يومًا من صدور وعد بلفور.. وهذا القرار يقضي بإقامة دولتين في فلسطين: واحدة لليهود في (56% من مساحة فلسطين) والثانية للعرب الفلسطينيين في (44%) وقد أقام اليهود دولتهم في الخامس عشر من أيار عام ثمانية وأربعين وتسعمئة وألف (أي بعد ستة أشهر وستة عشر يومًا من صدور قرار التقسيم) على نحو ثمانين بالمئة من مساحة فلسطين (التي تبلغ أكثر من سبعة وعشرين ألف كيلو متر مربع) بعد أن تم تهجير ثمانمئة ألف عربي فلسطيني من ديارهم (كانوا يشكلون ثلاثة أرباع الشعب العربي الفلسطيني في تلك الأيام) وقد صدر بحقهم في الحادي عشر من شهر كانون الأول من العام ثمانية وأربعين وتسعمئة وألف القرار الذي يحمل الرقم (194) والقاضي بعودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم عودة كريمة، وتعويضهم عما أصابهم من قتل وتشريد ومعاناة... ولكنهم لم يعودوا حتى اليوم.. وقد أصبح عددهم في أيامنا هذه نحو خمسة ملايين لاجيء ينتظرون تنفيذ ذلك القرار الذي لم يُنفَّذ حتى يومنا هذا.. بل إن هنالك من يطالب بإلغائه علنًا في هذه الأيام دون سبب، ودون وجه حق...
وأما الخامس عشر من أيار.. فهو – كما قلت لك- اليوم الذي أقام فيه بن غوريون وغيره من قادة العصابات اليهودية المقاتلة في فلسطين دولة لليهود في معظم مساحة فلسطين.. وقد قالوا يومها إنها دولة ديمقراطية لكل سكانها بما في ذلك العرب الذين لم يغادروها عام ثمانية وأربعين.. ويشكلون اليوم عشرين بالمئة من مجموع السكان هناك.
وأما الخامس من حزيران.. فهو اليوم الذي قامت فيه تلك الدولة بهجومها الشامل في صبيحة الخامس من حزيران عام سبعة وستين وتسعمئة وألف على "جيرانها" العرب، وتمكنت في ذلك الإثنين من احتلال ما كان قد تبقى من أرض فلسطين (الضفة الغربية، وقطاع غزة) إضافة إلى شبه جزيرة سيناء، وأجزاء من هضبة الجولان. وأما المسافة الفاصلة بين الخامس عشر من أيار، والخامس من حزيران موضوع الحديث فهي تسعة عشر عامًا وإحدى وعشرون يومًا...
ليس هذا – فحسب- هو ما ينبغي أن تفهموه.. بل يحسن بكم – أيها الفتيان – أن تدركوا جيِّدًا أنه ومنذ بدء النكبة، وتهجير معظم عرب الجليل والمثلث والنقب والسهل الساحلي بدأ ما يمكن أن يسمى بالدياسبورا الفلسطينية، أو الشتات الفلسطيني.. أو ما أسميه التّيه الفلسطيني.. هذا التيه الذي كان من المفترض (تاريخيًّا، وبناء على تجربتهم) أن ينتهي بانقضاء أربعين عامًا على بدئه.. أي في العام ثمانية وثمانين وتسعمئة وألف.. ولكنه لم ينته.. بل استمر هذا التيه يعصف بالفلسطينيين في منافيهم، ويدمر حياتهم، ويصيبهم باليأس والقنوط والإحباط.... ويحسن بكم - أيها الفتيان- أن تذكروا أنه في العام ثمانية وثمانين كان إعلان وثيقة الاستقلال، وأن المسافة الفاصلة بين الخامس عشر من أيار عام ثمانية وأربعين، والخامس عشر من تشرين الثاني عام ثمانية وثمانين هي أربعون عامًا وستة أشهر.. كما يحسن بكم أن تذكروا أن المسافة بين الخامس من حزيران وذلك الإعلان هي إحدى وعشرون عامًا وخمسة أشهر وعشرة أيام.. ولا أريد أن أرهق أسماعكم بالأرقام التي سوف أكفّ عن الحديث عنها، ولكن ليس قبل الإشارة إلى أن المسافة الفاصلة بين ذلك الإعلان وخامسنا هذا من شهرنا هذا في بلدنا هذا هي أقل قليلاً من تسعة عشر عامًا.. وأما المسافة بين الخامس من حزيران عام سبعة وستين وهذا الخامس الذي ستهل علينا أنواره بعد أيام فهي أربعون عامًا بالكمال والتمام... أربعون هنا، وتسعة وخمسون هناك.. وإعلانٌ بعد (أربعين) أيار لم يوضع شيء منه موضع التنفيذ.. ومجازر واجتياحات ودمار واقتتال واحتراب، ونكبات تتجدد في ذكرى النكبة.. ودماء ودموع ودمار في ذكرى النكسة... وماذا بعد أن أنهينا هنا في هذا الجزء من الوطن أربعين عامًا بالعدد؟ ماذا ينتظرنا اليوم ونحن لا نرى إلا رمالاً تذروها الرياح في كل اتجاه؟ لئن خرجوا هم من تيههم بعد أربعين عامًا.. فمتى نخرج نحن منه؟ ولئن كان بينهم من أنقذهم منه آنذاك.. فكانت المعجزة، وكان الخلاص... فهل أنبتت أرضنا من يفعل هذا؟ وهل خرج من رحم هذه الأرض من يكون على يديه الخلاص.. فتكون معجزة خروجنا من هذا التيه الذي يعصف بنا، ويتقاذفنا ذات اليمين وذات الشمال؟ أم أننا ماضون في سبيلنا من تيه إلى تيه.. ومن نكبة ونكسة وهزيمة وفتنة وخلاف وخصام واقتتال إلى طوفان جديد يملأ الآفاق دمًا وهوانًا ومذلةً وحقدًا أسود.. طوفان ليس فيه سفينة، أو حتى خشبة نجاة يتشبث بها من يعيد الحياة من جديد إلى هذه الأرض؟
ولئن كان من تساقطوا في الماضي أفرادًا.. فهل أصبح هذا ما يُراد بنا جميعًا دون استثناء في هذه الأيام؟ وهل أصبحنا نتسابق للسير في طريق المهانة والمذلة والسقوط والانتحار الذاتي بعد كل هذه المآسي والنكبات والحلقات التي كان بعضها يؤدي إلى بعض بشكل محكم ونظام غريب عجيب.. أم أن معجزة لا ينتظر كثير من الناس حدوثها ستحدث، ويحدث معها خروجنا من هذا التيه؟
قال الفتى: إلى اللقاء يا جدي.. شاكرين لك هذا الجهد.. بارك الله فيك، ورضي عنك، وأرضاك، وأدامك شاهدًا على هذا العصر، ومرشدًا لهذه الأجيال مع كل الغيورين الأوفياء الأكْفاء من أبناء هذه الديار.
قال الشيخ: قل: إلى الملتقى أيها الحفيد الغالي – فتح الله عليك- فإني أرى علامات الذكاء والنبوغ بادية على وجهك في زمن الجهل والجهالة هذا... وقل أيضًا: مع كل الغيورين الأوفياء الأكفياء من أبناء هذه الديار. فالأكْفاء هم النظراء، ومفردها "كفء" وإذا قلت: الأكِفّاء فأنت تقصد المكفوفين فاقدي البصر، ومفردها "كفيف" وأما الأكفياء (وهو ما تريد قوله هنا) فهم القادرون الذين يؤدون العمل بجدارة واقتدار، ومفردها "كفيّ".. ومثالها: نبيّ: أنبياء. وليّ: أولياء... وإلى الملتقى أيها الأحبّة.
التعليقات (0)