مواضيع اليوم

رواد الفكر والتجديد– السودان وإفريقيا جنوب الصحراء في المئتي سنة الأخيرة دكتور حسن مكي محمد احمد

 دراسة مقارنة بين رواد الفكر والتجديد– السودان وإفريقيا جنوب الصحراء في المئتي سنة الأخيرة
دراسة مقارنة بين عثمان دان فودي في صكتو والشيخ أحمد التجاني والميرغني الكبير وأحمد الطيب البشير في ديار الفونج
البروفسير حسن مكي محمد أحمد

منقووول من موقعhttp://www.iua.edu.sd/po.doc


تهدف هذه الورقة إلى التعريف بدور رواد الفكر والتحديد في السودان وإفريقيا جنوب الصحراء في مائتي السنة الأخيرة ، وهي دراسة مقارنة بين إسهامات عثمان دانفوديو في صكتو من ناحية والشيخ أحمد التجاني والميرغني الكبير واحمد الطيب البشير في ديار الفونج من ناحية أخرى . وقد تناولت الورقة حياتهم وإسهاماتهم وتأثيرهم على شعوب هذه المنطقة .
The paper discussed the role of the Pioneers of thought and Tajdid )Renewal( in Sudan and in Sub- Saharan Africa in the last Two Hundred years. It is a comparative study between the contributions of Sheikh Osman Danfodu in Sakato from one side, and Sheikh Ahmed Al Tigani , the greater Marghani , and Ahamd Al Tayib Al Bashir in Al Fung State from the other side . The paper tacklings their lives, contributions, and their effects on the nations.
بمنهج الثنائيات، هناك إفريقيتان، إفريقيا الشمالية، المطلة على البحر المتوسط والمتأثرة بمثلث ثقافي متداخل يستمد مكوناته من ثقافة البحر الأبيض المتوسط وثقافة البحر الأحمر والثقافة الصحراوية، وإفريقيا ما وراء الصحراء التي تكيفت مع مطلوبات الغابة والثقافة الرعوية والاكتفاء الذاتي بمطلوبات العشيرة والقبيلة.
عرفت إفريقيا الشمالية أبجديات وكتابات المثلث الثقافي من يوناني إلى روماني كما سبقت العالم إلى إنتاج حرفها الخاص من هيروغليفي إلى جعزي ومروي وقبطي، كما عرفت الأديان السماوية ، منذ فجر التاريخ مع الإبراهيمية واليهودية والمسيحية والإسلام. ولكن اختلف الحال في إفريقيا الغابة التي دار إنتاجها الروحي حول الكجور والسحر وأرواح السلف والطوطم وعبادة الثعبان الذي اعتبرته معظم القبائل الإفريقية مسكنا لأرواح السلف.
ومابين إفريقيا الموصولة بالمثلث الثقافي، وإفريقيا المقطوعة عن هذا المثلث، تبرز إفريقيا التداخل والتواصل مابين الاثنتين، وقد عرفت إفريقيا هذه – ببلاد السودان الموصولة بالبيضان وهو مصطلح نحته المؤرخون العرب، ثم عدله المكتشفون والمستعمرون من الأوربيين حيث تم تقسيم السودان إلى سودان غربي يشمل " مالي والنيجر وأجزاء من موريتانيا حتى نيجريا الحالية"، والسودان الأوسط وهو "تشاد والكمرون وأنحاء من دارفور"، والسودان الشرقي وهو "جمهورية السودان الحالية" .
مثلت بلاد السودان همزة الوصل ، كما يقولون ، بين إفريقيا المثلث الثقافي وإفريقيا الغابة وبذلك صارت رواقا للإفريقيتين وجسر تواصل بينهما علما بأن حواجز الغابات والمستنقعات والأمراض والحيوانات المفترسة عملت على إضعاف التواصل مع إفريقيا ذات الطبيعة الغابية والاستوائية .
نهضت في بلاد السودان ، سلطنات وممالك إسلامية في الفترة مابين القرن العاشر والثامن عشر الميلاديين مثل غانا ومالي وماسينا وصنغي وكانم وبرنو، انتهاء بسلطنات دارفور والفونج في السودان الشرقي ، وبرزت فيها مدن ومراكز إسلامية ،كجنى وتمبكتو وأغاديس وكاتسينا وكانو وزاريا انتهاء بسنار ودنقلة وسواكن.
مثلت بلاد السودان فضاءً لمراكز الإشعاع الثقافي للمثلث الثقافي، قدم العلماء المغاربة والمصريون والحجازيون إسهامات كبيرة في التواصل الثقافي وانتشر الحرف القرآني ومحموله من ثقافة إسلامية. ودخلت بلاد السودان عن جدارة واستحقاق في نادي الثقافة الإسلامية ، وبرز ذلك في مؤلفات علماء السودان ومخطوطاتهم، كعبد الكريم المغيلي والذي ينحدر من جذور مغاربية ولكنه قضى معظم عمره في مدن السودان في القرن الخامس عشر الميلادي ، أي قرابة الثلاثين عاما وكتب فيها كتبه مثل " تاج الدين فيما يجب على الملوك، وكأحمد بابا عالم تمبكتو الكبير المولود في عام 1556م الذي له أكثر من خمسين مؤلفا ، ذاع منها صيت كتابه " نيل الابتهاج بتطريز الديباج " وكمحمود كعت " المولود في 1468م وكتابه " تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس " إصدارات اليونسكو 1964م ، وعبدالرحمن السعدي المولود في 1596م وكتابه " تاريخ السودان (1) انتهاء بكتاب طبقات ودضيف الله في السودان الشرقي لمؤلفه محمد النور بن ضيف الله – المولود في 1727م والمتوفي سنة 1810م .
ومما يدل على قوة ملوك بلاد السودان ، أن ملك مالي يعتقد أنه لايوجد في العالم أجمع سوى أربع ممالك يمكن مقارنتها بمالي وهي التكرور وبغداد والقاهرة واليمن (2)، وقد ورد في وصف ملك مالي منسا موسى، الذي اشتهر بحجته عن طريق القاهرة، أنه كان شابا أسمر البشرة وسيما ممتلئا طويل القامة، كــــما كان متبحرا في الفقه المالكي، شديد التمسك بدينه، أدى فريضة الحج في عام 1324م وتفاوت تقدير حجـم مرافقيه مابين ستين ألفا إلى خمسة عشر ألفا(3).
وتميزت الحركة الفكرية في السودان الغربي بقوتها وتأثرها بالعقل المغربي – ولكنها كانت لها خصوصية في استقلالية الحركة الفكرية عن السلطة السياسية، وأجازت الجهاد ضد الحاكم الظالم على عكس أطروحــات الفكر السني المشرقـي، الذي كان يتحرى تجنب الفتنة على رأي ابن جماعة " نحن مع من غلب " وبالنسبة للمغيلي فإن حكم الحاكم الظالم حكم الكافر والمخلط ورأي المغيلي في الجهاد ضد هؤلاء أولوية على مجاهدة الكفار(1) (4).
واهتم كذلك أحمد بابا بقضايا الإصلاح والتجديد ولخصه في المقدرة الفكرية والعقلية على الإحاطة بعلوم الشريعة والأصول والفقه واستنباط الأحكام وتقديم الفتوى والتعليم والتربية لإحياء النفوس، وبفضل جهود المغيلي وأحمد بابا برزت في السودان الغربي مدرسة تجديدية إسلامية، قائمة على خصوصيات السودان الغربي، وإن جمعت القسمات المشتركة للتراث الإسلامي بينها وبين بقية الحركة العلمية الإسلامية. وأساس هذا الفكر العناية بالقرآن الكريم، استنساخا واستظهارا وحفظا وتلاوة ونسخا، ولذلك شاعت في هذه المنطقة المخطوطات القرآنية على رواية ورش وظل القرآن الكريم أساس حركة الحياة العلمية ثم كتب الصحاح في الحديث النبوي بالإضافة إلى سيرة ابن هــشام، وكتاب الشفاء للقاضي عياض، وتفسيــر الجلالين، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني في الفقه ، ورسالة مختصر خليل بالإضافة إلى مدونة سحنون في الفقه المالكي.
تأثر علماء السودان الغربي، منذ القرن الثالث عشر بتيارات التصوف كما تأثروا بأفكار السيوطي عن المهدي أو المجدد، ويمكن القول أن تحديات العمل الإسلامي وأولياته اختلفت عن الوضع في المغرب العربي ومصر والحجاز والشام، لأن تحدي الثقافة الإسلامية في السودان الغربي تمثل في التخليط، أي خلط مباديء الإسلام وعقائده بالمعتقدات المحلية من تعاويذ وطقوس تتعلق بالسحر والخرافة وتقاليد الأهالي المتوارثة والتي كان يخشى أن تذوب الثقافة الإسلامية فيها، خصوصا أن المجتمع لا يعرف الحرف القرآني ولا اللغة العربية كما تطغى الأمية والجهل والفقر على المجتمع، وبينما كان الصراع في المجتمعات الإسلامية يدور حول السلطة وبين الشيعة والسنة وبروز حركات سياسية وفكرية كالخوارج والمعتزلة والأشاعرة وطوائف الحلولية من المتصوفة وغيرها، إلا أن بلاد السودان الغربي لم تعرف هذه التعقيدات وظلت على بساطة الثنائية مابين الإسلام والوثنية الإفريقية والإسلام والتخليط . تقبل أهل السودان الغربي، التصوف بتسامحه وطقوسه وشيوخه، وميزة التصوف أنه يمرن معتنقه على قبول الآخر ويعلمه فن التعايش والعيش المشترك وإن اختلفت الرؤى والمشارب. ولعل مرد ذلك إلى أن من أخلاق المتصوفة التريث في الأمور والمصالحة واحترام الآخر والصبر والمصابرة، حيث درج المتصوفة على قبول الآخر دون استهجان لشخصه أو تقليل من ثقافته مع مشاركة الآخر في الزاد والهم.
ويمكن رد تيار التصوف المؤسس في السودان الغربي، للشيخ سيدي المختار الكبير الوفي الكنتي الذي برز في الفترة 1729/ 1811م والمسئول عن بذر بذور الطريقة القادرية والتي سجلت نجاحا في كسب قلوب الناس على يديه، ولد الكنتي في نواحي تمبكتو " مالي الحالية " شخّص الكنتي علة انحطاط المجتمع المالي في إسقاط المغاربة لدولة صنغي دون تقديم بديل، حيث أدى تدمير السلطنة الإسلامية، إلى حدوث فراغ وفوضى وسلب ونهب وازدهار ثقافة التخليط والوثنية، مما دفع الكنتي إلى تفضيل وجود دولة حتى لو كانت ظالمة على غرار الدولة المغاربية على الفوضى، لأنه على الأقل يوجد عند المغاربة فكر المملكة وحفظ الأمن وإقامة المؤسسات على الشريعة الإسلامية (5)..
ركز الكنتي على أهمية إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الجهاد لاجتثاث الشر بالكلية، وشخص الشر في انتشار الفتن والبدع والفساد والغفلة ولكنه كذلك ونتيجة لتربيته الصوفية، يعطي استخدام الرفق واللين أولوية، ورفض الكنتي التقولب في مذهب واحد، كما دعا لفتح باب الاجتهاد وسعى كذلك لملء فراغ الدولة بإقامة شبكة تواصل منظمة وبتراتيب إدارية صوفية لوصل المجتمع رأسيا وأفقيا. وربما كان مرد نجاح التصوف، إلى العلاقة الروحية التي تقوم على البيعة الروحية والالتزام بنهج الشيخ وأهم ذلك الالتزام بتلاوة الأوراد، حيث إن تلاوة ورد الشيخ. تجعل الشيخ حاضرا في ذاكرة مريده حتي إن مات أو بُعد. نجح الشيخ الكنتي في نشر قيم الذكر والأوراد وتسليك الأتباع في الطريقة القادرية ومحاربة حظوظ النفس، وممن عاصروه من شيوخ القادرية العالم جبريل بن عمر القادسي– وإن كنا لانعرف الكثير عنه، غير إشادة الشيخ عثمان دان فودي به، حيث اعتبره شيخه وأستاذه قائلا ما أنا إلا موجة من موجات جبريل. ويمكن القول بأن كل هذا التراكم التاريخي لحركة الدعوة الإسلامية وجهود التجديد مهدت لبروز رائد التجديد في السودان الغربي الشيخ عثمان دان فودي، الذي نجح في التنظير والتنزيل بمعنى أنه وضع الأساس الروحي والفكري لدعوته في مؤلفاته وأشعاره، كما تمكن من خلق الجماعة النواة التي آمنت بأطروحاته وأفكاره وتربت عليها، ثم شهد قيام الدولة التي سعت لترجمة أفكاره وهي الدولة الصكتية والتي شملت نيجيريا الحالية ونواحي الكمرون وشمال شاد وبعض النيجر.
وتمثل نجاح الشيخ عثمان وحيازته عن جدارة واستحقاق لوظيفة المجدد بل وضعه بعض أتباعه في مكانة المهدي– أي مهدي آخر الزمان– لأنّه نجح في إلزام المريدين والأتباع في اتباع منهج خلقي وتعبدي خاص مع المداومة على قراءة أذكار وأوراد معلومة ، مما خلق له نفوذاً روحياً وسلطاناً دينياً ودنيوياً زمانياً ومكانياً، ومقبولية وسط الناس لسلطته وفتواه، ومما ساعده على ذلك ، تأهيله في علوم الدين واللغة العربية وسمته الحسن وهيبته التي وفرت له القبول التام من الخاص والعام.
ولد على أقوى الروايات في 8 نوفمبر 1752 وتوفي 1816 في منطقة غوبر بشمال نيجيريا الحالية (6). أقام دولة إسلامية، شملت شمال نيجيريا الحالي وأجزاء من النيجر وتشاد والكمرون ، وقامت على مفهوم دار الإسلام وقام عقدها الاجتماعي على البيعة، وتميزت بخصوصية تجديدها الذي قام فيما وراء تخوم العالم الإسلامي، مادة رقعة الثقافة الإسلامية في إفريقيا الزنجية التي لم تعرف الأديان السماوية وحينما أعلن الشيخ دعوته للجماعة ونصره الدين الإسلامي كان عمره أربعين عاما وحينما هاجر كان قد بلغ الخمسين وعندما أحرز أهم انتصاراته كان عمره 54 عاما.
نجح في إقامة دولة – خلافة صكتو – التى عمّرت لما يقرب من مائة عام ودمرتها بريطانيا في عام 1903م أي بعد خمس سنوات فقط من تدميرها للدولة المهدية في السودان عام 1898م والتي لم تعمر سوى بضعة عشر عاما، أخذ علوم التفسير والحديث والفقه والنحو والأصول وعلم الكلام وعلوم التصوف على يد أبيه ثم شيخه جبريل بن عمر القادسي ثم أنشأ الجماعة التي رباها بالعلم والتزكية، وكان همه الأكبر أن يكون الطرح من منظور إسلامي متعمق في فقه الأصول والفروع والنوازل وتجديد الدين المبني على الأصول والعلم الدقيق بثوابت الدين وتاريخ الجماعة وحركة التاريخ واختلاف الأزمنة والأمكنة(7).
وكان من آلياته التربوية ، حث الجماعة على دخول الطرق الصوفية وترغيبهم في ذلك، لأن التسلك تربية وتدريب على الصعاب من جوع وعطش وكبت حظ النفس والالتئام مع الآخرين لمواجهة الأخطار .
قامت الجماعة على ثلاث مراحل، مرحلة تكوين ودعوة ،ثم الهجرة، ثم الجهاد، واقتضت المرحلة الأولي عدم إثارة الدولة الحاكمة والتدرج في الوصول لمرحلة الهجرة– والمقصود بالهجرة قيام مجتمع منفصل، دار إسلام " مؤمن بقيم الدعوة ومبادئها مستعد للدخول في المرحلة الثالثة وهي مرحلة الجهاد وهي السعي بالقوة لإقامة الدولة المسلمة.
وفي كل المراحل تم استخدام اللغات المحلية، خاصة لغة الهوسا والفلفندي بالإضافة إلى اللغة العربية وتوظيف الشعر والنثر بهذه اللغات، وقام المربع المبارك- المكون من الشيخ عثمان وابنه محمد بلو وأخيه عبدالله فودي وابنته أسماء- بفتح المعارف الدعوية وتوفير المادة الفكرية للدعوة. والكتب والرسائل المرصودة للشيخ عثمان محمد فودي تبلغ 131 والمرصودة لأخيه الشيخ عبدالله تبلغ 58 والمرصودة لابنه السلطان محمد بلو تبلغ 96 ولابنته أسماء 6 عناوين شعراً ونثراً، ومثلت هذه المصادر معلما مهماً في تاريخ الفكر الإسلامي، فقهه وسياسته وإدارته، واقتصاده ودعوته وعلومه المختلفة، وهي بنفس القدر حركة ازدهار للثقافة العربية، لغتها وآدابها، نثرها وشعرها وحروفها وأرقامها وقيمها الفنية والجمالية (8). وتم توظيف المعرفة لتعليم الناس رجالا ونساء أداء لواجب التبليغ وقياما بمطلوبات الدعوة، يقول الشيخ عثمان في مؤلفه " نجم الإخوان " اشتغلوا بقراءة تواليف أخي عبدالله لأنه مشتغل غالبا بحفظ ظاهر الشريعة واشتغلوا بقراءة تواليف ولدي محمد بل ، لأنه مشتغل غالبا بحفظ علم سياسة الأمة، بحسب الأشخاص والأزمان والأمكنة والأحوال، واشتغلوا أيضا بقراءة تواليفي لأني مشتغل بحفظ الطرفين غالبا، وتواليفنا كلها تفصيل لما أجمل في تواليف العلماء المتقدمين، وتواليف العلماء المتقدمين تفصيل لما أجمل في الكتاب والسنة (9). ويصغر عبدالله بن فودي أخاه الشيخ عثمان باثني عشر عاماً ، ولم يزر واحد منهم شمال إفريقيا أو الحجاز على سلامة لغتهم العربية ونبوغهم فيها مما يدل على تجذر اللسان العربي والثقافة الإسلامية في دولتهم.
كان دان فودي ذا اتجاه تيسيري دون فتح لباب التساهل ، كما كان شديد الاعتناء بمذهب الإمام مالك، مع إقراره بجواز التعبد بكل المذاهب كما كان شديد العناية بإلزام أصحابه باتخاذ أوراد اليوم والليلة، ومعظم الجماعات الإسلامية التي اهتمت بالأوراد، اكتسبت مناعة وحصانة ضد التلاشي، ربما لأنّ ملازمة الأتباع لقراءة الورد يغني حتى لو اختفت قيادات ورموز الجماعة على ماهو حادث في الجماعات الصوفية، ومفهوم الجماعة متقارب عند دان فودي مع ماهو وارد عند رجال الدعوة المحدثين، حيث سمى جماعته بالإخوان وميزهم عن غيرهم من المسلمين المخلطين– أي يخلطون أعمال الكفر بالإسلام – فهم ليسوا من الجماعة وإن صلوا وصاموا ، لذا قسم الفوديون الناس إلي منتقد ومعتقد، فإما منتسب إلي الجماعة الكافرة ومنتقد للجماعة المسلمة أو العكس (10).
قسم دان فودي الدولة إلى عدة إمارات، متبعا نظام الدواوين وسماها الولايات (الامركزية السلطة) فأنشأ عشرين ولاية لإدارة الدولة وعلى رأسها مؤسسة الخلافة العامة والوزارة والقضاء ورد المظالم والجهاد وديوان الغنيمة وديوان الصدقة، ولم يأت ذلك خبط عشواء وإنما نتيجة لاجتهاد فقهي وتأصيل شريعة في كتابه " بيان وجوب الهجرة على العباد وبيان وجوب نصب الإمام وإقامة الجهاد " (11) .
وقسم الشيخ عثمان البدع في الدين إلى جائزة ومنكرة وحرام، كما دعا إلى التوسع في توظيف المسجد واستنطاق العلماء، خصوصاً في ظل شيوع الفتن والبدع حيث لايجوز المساكنة والمهادنة، ودعا إلى حضور الفقيه في كل زوايا وركن ومسجد ، آمرا وشارحا وناهيا. والتجديد عند الشيخ عثمان نهج متكامل تتداخل فيه التربية والأخلاق والسياسة والعسكرية " الجهاد ".
وإذا كان وقوع تجديد مجمل أوضاع التدين المجتمعي في السودان الغربي من نصيب أسرة الشيخ عثمان دان فودي، حيث أصبحت الأسرة مدرسة قائمة بذاتها، من الأب والابن والأخ والبنت، وربط علماء المنطقة في القرن التاسع عشر بين إسهامات هذه المدرسة والحديث الوارد في سنن (أبو داود) إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها (12) . وبهذا الفهم دخل الشيخ عثمان دان فودي وأسرته نادي التجديد الإسلامي، لقيادتهم حركة التجديد في القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي، وإذا كان السودان الغربي، قد سبق للتجديد على نطاق المجتمع والدولة إلا أن السودان الشرقي ما لبث أن لحق بما حدث في السودان الغربي وقدم مشروعه التجديدي للقرن الثالث عشر الهجري وإن اختلفت سمات ومعالم النموذج التجديدي في السودان الشرقي، عن النموذج الذي ساد في السودان الغربي.
عمل المشروع التجديدي في السودان الشرقي في النطاق المجتمعي ولم يطمح لإقامة دولة " خلافة " على غرار ما حدث في السودان ، الغربي ، ولربما كان السبب أن كيان الدولة المسلمة قد نهض واستتب منذ أوائل القرن العاشر الهجري – السادس عشر الميلادي ، باسم دولة الفونج ويحكي صاحب الطبقات (13). ( الفونج ملكت أرض النوبة وتغلبت عليها، وفي أول القرن العاشر، سنة عشرة بعد التسعمائة، خُطّت مدينة سنار، خطاها عمارة الدونقسي وخطت مدينة أربجي قبلها بثلاثين سنة، ولم تشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قراءة قرآن ، ويقال إنّ الرجل يطلق أمراته ويتزوجها غيره في نهاره وبدون عدة حتى قدم الشيخ محمد العركي من مصر وعلم الناس العدة .. ثم إبراهيم البولادي من مصر إلى دار الشايقية ودرس فيها خليل والرسالة وانتشر العلم والفقه في الجزيرة، ثم قدم الشيخ تاج الدين البهاري من بغداد وأدخل الطريقة الصوفية في دار الفونج (14).
وعلى الرغم من تحول النخبة السودانية الحاكمة للإسلام وللسان العربي والحرف القرآني، إلا أنه ظل هناك سودانان، وهما سودان النخبة الحاكمة وهو على نصيب من تعاليم الإسلام، وإسلام عامة الناس وما تغشاه من جهل وشعوذة وخرافة وتعلق بالشيوخ وإيمان بمقدراتهم على إبراء المرضى وإحياء الموتى في سودان الفونج ، أما ما وراء ذلك ، فقد كان متصالحا مع ثقافة العصر الحجري ومافيها من تخلف وتعرٍ وعبادة للطبيعة وأرواح السلف والثعابين والطوطم ، وكان العقل الاجتماعي قاصرا لايتجاوز حدود العشيرة ومطلوباتها، واعتمد النشاط على مقومات الحياة الاساسية من التقاط للثمار واكتفاء بما تجود به الطبيعة.
وفي إطار الانقلاب الإسلامي، الذي وقع 910هـ / 1504م بقيادة قبائل الفونج وعرب القواسمة، أسهم علماء وحكام وشخصيات كثيرة في الدفع بحركة الثقافة الإسلامية في الفترة الممتدة من القرن العاشر الهجري حتى الثالث عشر، المعادل للسادس عشر حتى التاسع عشر الميلادي ، ولكن كان أبرزهم على صعيد الحكام–الشيخ عجيب المانجلك المتوفى 1640هـ/ 1610م وعلى صعيد العلماء الشيخ إدريس ود الأرباب الذي عمّر 147 عاما أي مابين 1508م / 1655م.
أخذ الشيخ عجيب وضعيته في نادي التجديد السوداني لإسهامه في إعداد طليعة سودانية مثقفة ومؤهلة، وتجلى ذلك في مبادرته بإنشاء ثلاثة رواقات لإيواء طلبة العلم السودانيين في المراكز العلمية المعروفة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والأزهر الشريف، وخرجت هذه الرواقات أجيالا من المدرسين والشيوخ كما خدمت أوقافه الآلاف من الحجيج والمساكين ، ونمّي تيار التواصل مع مصر والحجاز ومراكز الإشعاع في العالم الإسلامي بما في ذلك المغرب، علما بأن والدته تنحدر من أسرة مغاربية علمية معروفة حضنت الطريقة الشاذلية واهتم الشيخ عجيب بأمور العدالة وعمد إلى تعيين أربعين قاضيا يتولون شؤون العدالة في أرجاء مشيخته ولم يك هذا أمرا مألوفا في سودان القرن السابع عشر (15).
ومن أبرز إسهامات الشيخ عجيب كحاكم، اعتناقه لمبدأ وحدة الأمة الإسلامية، وفتح ديار السودان لتوطين العلماء من مصر والمغرب والحجاز، وبلغ إكرامهم إلى الحد الذي سميت المدن بأسمائهم ، لذا فالشيخ عجيب أحد آباء الدولة المفتوحة ذات الحدود العقائدية، حيث إنها بالنسبة له جنسية المسلم عقيدته والسودان دار إسلام ومن مطلوبات دار الإسلام جذب العلماء بل والقبائل العربية المسلمة للاستيطان والإقامة وتعمير الأرض.
ويمكن القول إن الحركة الروحية والفكرية التي بذر بذورها الشيخ عجيب، ظلت أهم مؤثر عامل في تشكيل العقل السوداني ومزاجه وتكوينه لفترة مائتي عام 1610/1810 علما بأن الحركة العلمية السودانية، ظلت مرفودة بالمدد الصوفي ومافيه من مكاشفة ومجاهدة والتصرف بالكرامات وغارات الأولياء بعضهم على بعض وتصريفهم لأمور الناس من داخل قبورهم وأبعد المجتمع السوداني النجعة في مراتب التصوف وترتيبات السادة الصوفية، ولكن كان ذلك في حقيقته تعبيرا عن الأشواق الكامنة بأن تصبح الثقافة الإسلامية المجسدة في الشيوخ والفقهاء المرجع الأساسي بالإضافة إلى ضمور حركة الثقافة الإسلامية العربية في مراكز الإشعاع الثقافي في العالم الإسلامي في الفترة 1600/ 1800م، حيث ضمرت اللغة العربية لمصلحة اللغة العثمانية وبرزت الطرق الصوفية القادمة من آسيا الوسطى، على الأخص الطريقة الخلوتية والنقشبندية التي سادت حتى في ربوع الأزهر الشريف كما أصبح التصوف حاضرا في الفضاء العثماني ومدفوعا بقوة الدولة العلية.
وفي إطار موجة التصوف العامة برزت مدرسة السيد أحمد بن إدريس الفاسي 1758/1837م وأهم تلامذته في السودان السيد محمد عثمان الميرغني المولود بالطائف 1793/ 1852م وكذلك برزت تأثيرات السيد أحمد التجاني ( 1737/ 1815) المولود بالجزائر والمدفون بفاس بالإضافة إلي السيد أحمد الطيب البشير 1742 / 1823م )، وما يزال تأثير هذا الرباعي يشكل الخريطة الروحية والدينية لمعظم السودانيين، علما بأن واحداً منهم فقط سوداني الجنسية ، حسب المصطلحات القطرية الحديثة وهو السيد أحمد الطيب البشير.
ومع مرور قرابة مئتي سنة على بروز هذا الرباعي، إلا أنّ الخرطة الدينية والروحية في السودان، ما تزال أسيرة لتعاليم هؤلاء الرجال، ولو بعثوا من قبورهم، ربما أصابتهم الدهشة، نتيجة لاتساع ذكرهم ونفوذهم الروحي وكثرة المنتسبين لشأنهم والمزارات والمقامات والمساجد المقامة لشأنهم والدعاة الناذرين أنفسهم لطريقهم ، مما يستوجب طرح الأسئلة عن وضعيتهم، في إطار التجديد الإسلامي والتاريخ السوداني ومستقبل حركة التدين في السودان والمنطقة، ولا يعني ذلك أن الساحة الدينية والروحية خالية إلا من تأثيراتهم، إذ توجد حركات وطرق قديمة، ما تزال لها مراكز وتبعيات مثل الطريقة القادرية بتشعباتها وأسرها في الجزيرة وكدباس ومدرسة المجاذيب المتأثرة بالطريقة الشاذلية وجزئياً بالسيد أحمد بن إدريس وحركة أنصار السنة والحركات السلفية الأخرى ذات المدد الروحي والمادي الخارجي، والتي أصبح لها قرابة ألف وخمسمائة مسجد في السودان، أي ما يعادل قرابة 10% من مساجد السودان، علما بأن ظاهرة الحركات السلفية ازدهرت في الخمسين عاماً الأخيرة، وكذلك توجد الحركات الإسلامية الحديثة، مثل حركة الإخوان المسلمين ولكن هذه الحركات تتواصل مع كل مكونات الخريطة الدينية إذ ربما كان العضو المنتمي لهذه التيارات له طريقته الصوفية أو السلفية ولكن يعّبر عن تدينه السياسي أو طموحاته السياسية في إطار هذه الحركات ، كما أنَ هناك التيار العام للمتدينين الذين تم تكييف مزاجهم الديني من خلال مدرسة المعهد العلمي أو جامعة أمدرمان الإسلامية أو المساجد المستقلة والتعليم الحديث أو من خلال الخلاوي والكتاتيب في قرى ود الفادني وأم ضواً بان وهمشكوريب وأمثالها وقد برزت شخصيات صبت جهودها باستقلالية، إما من خلال قنوات الدولة كالمرحومين - كامل الباقر وإبراهيم يوسف النور وعوض الله صالح وعبدالله الطيب وعون الشريف قاسم وآل الضرير وبرزت أسر دينية كآل سوار الذهب والبيلاب والصابوناب ولكن مع ذلك فيمكن القول أن الرباعي الذي أشرنا إليه هو صاحب النصيب الأعلى في تكييف المزاج الديني والروحي في السودان – أي ابن إدريس والميرغني, وأحمد التجاني وأحمد الطيب البشير.
يكتنف الغموض شخصية ابن إدريس ، الذي خرج من دياره في نواحي فاس طلباً ربما للحج في عام 1798م، وكان عمره حينها أربعين عاماً ، وزهد في الإقامة في مصر، لأن مروره بها، تقاطع مع غزوة نابليون لمصر في يوليو 1798م وحدثت له مصادمات مع رجال الجمارك فيها، ربما كان مردها سخطه لوقوع درة العالم الإسلامي مصر في يد الغزاة من الكفار ومع ذلك ، فقد قضى وقتاً في الدعوة والإرشاد في الإسكندرية ثم في الأزهر الشريف، حيث كان يحضر دروسه عدد كبير من المشائخ والعلماء ولا يستبعد أن تكون دروسه قد أسهمت في ثورة الأزهر حتى اضطر نابليون لاقتحامه (16).
خرج ابن إدريس إلى الحجاز، حيث قضى هناك بضع سنوات في التدريس في الحرمين، منادياً بالرجوع لمصادر التشريع الأساسية ، كما رفض المبالغة في تقديس الأموات، كما بلور منهجه في المعرفة والذي جمع بين النقل والكشف، مما جره للصدام مع علماء مكة من غلاة الظاهرية الذين رموه بالزندقة، وحينما فتح آل سعود من أنصار الإمام محمد بن عبدالوهاب مكة في عام 1803م، عاملوه باحترام وجرت بينه وبينهم مناظرة مشهورة.
عاد الشيخ ابن إدريس لمصر مرة أخرى، بعد خروج نابليون منها واستقر بالزينية ودارو بالصعيد لمدة أربع سنوات، ثم قفل راجعاً إلى مكة المكرمة، وهناك تكاملت معالم مدرسته، حيث كرس وقته في خدمة نخبة من شباب الأشراف ونبهاء العالم الإسلامي، وكان أبرز رواد مدرسته السيد محمد عثمان الميرغني من أشراف الطائف والمتوفى عام 1852م، والذي نذر نفسه للدعوة والإرشاد في السودان وإرتريا والحبشة، ثم السيد محمد علي السنوسي والذي تفرغ للدعوة الإسلامية في ليبيا وأطراف تشاد ودارفور. والسيد إبراهيم الرشيد الذي تفرغ للدعوة في شمال السودان ووصلت دعوته على يد ابن اخته إلى الصوماليين في الحجاز، حتى خرج من رحم الحركة محمد بن عبدالله الحسن مهدي الصومال.
كما أثر ابن إدريس على خلقٍ كثير من الهنود ولكن ختم حياته بالرحيل إلى صابيا في اليمن، حيث التف حوله خلق كثير وكان عمره قد قارب الثمانين عاماً وتوفي هناك ودفن والتف جزء من الشعب اليمني حول ذريته، عرفاناً بقدراته وطلبا للبركة في أبنائه، وقد توطد نفوذه الروحي وكلمته في " منطقة عسير " حتى تمكن أحفاده من توظيف هذا النفوذ في إقامة دولة مستقلة عاشت نحو أربعين عاماً (1892/ 1933) إلى أن قضت عليها الدولة السعودية وضمتها لأراضيها.
ما الذي استهوى العناصر الشابة المثقفة في السيد / ابن إدريس؟، أولاً علمه ومقدراته العلمية والبيانية التي تكشف عنها رسائله وأوراده في ظروف انحطاط العالم الإسلامي، الأمر الثاني همته في متابعة رسالته بحيث اندمج في هموم وقضايا العالم الإسلامي في السودان ومصر واليمن والحجاز والحبشة وفوج تلامذته للقيام بأعمال دعوية وتبشيرية في تلك المناطق وظل لمدة أربعين عاماً يتجول ما بين الحجاز ومصر واليمن، حتى أنه انشغل تماما عن العودة لمسقط رأسه في المغرب ولم يعد إليها لا حياً ولا ميتاً.
أسس دعوة ابن إدريس ومصادر ثقافته:
اهتم ابن إدريس بالقرآن وتفسيره والحديث والسيرة النبوية والثقافة الصوفية ومع دراسته لمنهج المتفلسفة والعقلانيين إلا أنه يميل لأهل الكشف، ومفهوم ابن إدريس لمصطلح الجماعة المسلمة، مفهوم فيه تجديد، إذ الجماعة المسلمة عنده لا تتطابق مع ما نسميه المجتمع الإسلامي، إذ لا يدخل الفرد في إطار الجماعة المسلمة باسمه أو نسبه وإنما بكسبه ، قال ابن إدريس (واعلم أن الجماعة المنبه عليهم بقوله (يد الله مع الجماعة ) هم المقتفون أثر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان واحداً فإن النبي (ص) كان واحداً في أول البعثة وكذلك إبراهيم قال تعالى (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) (17).
ولكن هذا المفهوم لم يحمل ابن إدريس على تكفير المجتمع وإنما جعله أكثر تواصلاً وحرصاً على إيقاظ الروح الديني وكذلك البعث الفكري والاستنهاض التربوي عن طريق التدريس والتربية والتصوف والسلوك، وكان حريصاً على توظيف التاريخ الإسلامي لتوحيد الصف المسلم بدلاً من توظيفه لاجترار المرارات ولذلك نهى أصحابه عن الخوض في خلافات الصحابة.
وحينما يتكلم ابن إدريس عن الملوك والعلماء ، فإنما يصير شاهد عصره حيث يقول (من أعظم مفاسد الدين والدنيا مداهنة الملوك والسكوت عن نهي منكراتهم) ويلخص ابن إدريس رؤيته في النظم السياسية السائدة في عصره (ما أخل بالملوك وأفسد عليهم أمر دينهم ودنياهم إلا الجور وعدم العدل .. فإنّ من اتصف بالعدل ولــو كان كافراً ظهر سره في صلاح أمور رعيته) (18).
ومن سمات منهج ابن إدريس العالمية ، حيث كان مشغولا بإيجاد مدرسة عابرة للحواجز العرقية والجغرافية والسياسية فالميرغني من مكة والسنوسي من الجزائر وهذا من السودان أو اليمن أو مصر أو السند إلخ ، وكان مهموماً بإيجاد النخبة وبناء النوع ولكن لم يشغله بناء النوع عن العمل مع الجماهير وكان منهجه أن بناء النخبة يتكامل مع العمل وسط عامة المسلمين ولا يتناقض بدليل أنه ترك الأزهر وقضى خمس سنوات في صعيد مصر كما أنه ختم حياته في منطقة عسير باليمن ، بل إن ميدان الاختيار للنخبة التي أعدها تمثل في إرسالها للبادية والأرياف ومجاهيل الحبشة والسودان وليبيا ، وقام منهج ابن إدريس على العمل الإسلامي السلمي الإصلاحي المترفق البعيد عن العنف والانقلاب، ومع أن أسسه النظرية تدعو للنهي عن المنكر والجهاد إلا أنه كان حريصا على فكرة الوحدة وعدم شق الصف، لذا لم يلجأ لإقامة مؤسسة خاصة به، يتم بمقتضاها بيعة شعبية له، وبمقارنته بالدعاة الذين جاءوا من بعده ، وإذا ركز السيد جمال الدين الأفغاني على بناء المسلم الثائر، ومحمد إقبال على المسلم الإيجابي، الذي يتفاعل مع مطلوبات النهضة، وحسن البنا على المسلم الحركي والعمل الاجتماعي والمودودي على المسلم الداعية، وسيد قطب على المسلم المناضل، والخميني على المسلم الشهيد، فإن ابن إدريس كان يركز على بناء المسلم الذاكر الحاضر في وعيه وذاكرته اسم الله والصدق وخلوص الأعمال، وما يزال دأب المنتمين لمدرسة ابن ادريس التركيز على الذكر والأوراد والرسم البياني المرفق يعطي فكرة عن تلامذة أحمد بن إدريس الأفارقة أو الذين عملوا في إفريقياعملوا في إفريقيا.

أحمد بن إدريس ( 1758 / 1837 )

حفيده أحمد ومحمد مؤسسا الدولة الإدريسية في تهامه وعسير (1893/ 1933)

إبراهيم الرشيد مؤسس الطريقة الرشيدية متوفى 1874م
محمد عثمان الميرغني مؤسس الطريقة الختمية
عبدالله عبدالحفيظ الدفاري المتوفي 1908م ، أخذ عنه الإمام محمد أحمد المهدي مهدي السودان أفكار وأوراد أحمد بن إدريس


أبناؤه :
الحسن الميرغني

محمد صالح ابن اخت إبراهيم الرشيد والمتوفي 1919م ومؤسس الطريقة الصالحية التي من المنتمين إليها محمد بن عبدالله الحسن مهدي الصومال المتوفي 1920

تلامذته الروحيون :
إسماعيل الولي عبدالله الكردفاني 1793/ 1893 مؤسس الطريقة الإسماعيلية وله 40 مؤلفا
محمد عثمان القريب

السيد علي

السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي حاليا

حفيده السيد إسماعيل الأزهري 1900/1970 رئيس وزراء السودان ورئيس حركة الاتحاديين


الشيخ أحمد التجاني 1150هـ/ 1230م ( 1737/ 1815م ):
ولد بالجزائر بقرية عين ماضي وقد أخذ العلم في فاس بالمغرب وتلمسان بالجزائر وتونس ثم القاهرة فالحجاز للحج في 1187هـ وعمره37 عاما، ثم التقى بالشيخ عبدالله محمد بن الكريم المشهور بالسمان والذي تخرج من مدرسته السيد أحمد الطيب البشير أشهر رجال الدعوة بالسودان وقد سمى طريقته بالسمانية اعترافا بفضل السمان عليه.
كان الشيخ أحمد التجاني حافظا للقرآن، ملما بالطريقة الخلوتية كما كان متفوقا في علم الكلام والتوحيد والتفسير والحديث وعلم السير والتصوف وعلوم اللغة الخ.. وكان يكثر من سماع البردة والهمزية وأشباههما، وللشيخ أحمد التجاني مؤلفات عديدة.
دخلت الطريقة التجانية للسودان من عدة طرق ولكن ورد اسم سوداني واحد التقى بالشيخ أحمد التجاني وأخذ عنه الطريقة وهو الشيخ الماحي الدارفوري المتوفى بمكة 1277هـ (19). ولكن أبرز شيوخ التجانية الذين مروا بالسودان، هو الشيخ محمد الحافظ المصري المتوفى في يونيو 1985م بالقاهرة، حيث كان يزور تجمعات التجانية بالسودان ويمدها بالكتب كما كان يرسل لهم مجلته (طريق الحق) المتخصصة في التجانية ولكن معظم رواد التجانية بالسودان، جاءوا من غرب إفريقيا، إما عبر طريق الحج وإما طلبا للجوء السياسي هربا من بطش الفرنسيين وغيرهم من الاستعماريين، ماعدا الخليفة محمد ود دوليب المتوفى سنة 1883م والشيخ مرزوق الأنصاري واللذين هما من السودانيين بالأصل، وبرز من تجانية الخارج الذين توطنوا في السودان الشيخ عمر قمبو المتوفي في 1918م والسيد محمد مختار الشنقيطي والشيخ محمد البدوي والشيخ يوسف بغوي وكان للتجانية إسهامات كبيرة في النهضة الدينية حيث أسهموا في بناء مسجد أم درمان الكبير ومسجد الفاشر ومسجد ود البدوي بأم درمان ومسجد قدح الدم ، كما كانوا يؤمون معظم المساجد في أم درمان وكردفان ودارفور، وكان لهم حضور في هيئة علماء السودان مثل الشيخ أبوالقاسم هاشم المتوفى 1934م والشيخ مدثر الحجاز والشيخ مرزوق الأنصاري المتوفي 1370هـ والشيخ عبدالعزيز الدباغ والشيخ مدثر البوشى المولود في 1903م والشاعر الصديق عمر الأزهري المولود في 1889م.
كما نجح السيد الحاج مضوي المولود في عام 1922م في توفير المادة العلمية عن طريق مكتبته التجارية في الخرطوم ومدني– والتجانية علي مقبوليتها في السودان إلا أن لها منتقديها على الأخص فكرتها المحورية القائمة على ختم الولاية وصلاة الفاتح لما أغلق، ومع أنه لاتوجد إحصاءات بعدد أتباع كل طريقة صوفية إلا أن المنتسبين للتجانية بزعاماتها وألويتها المتعددة في السودان لايقلون عن بضعة ملايين وهي تأتي في قائمة الجماعات الدينية الكبيرة مثل الختمية والسمانية والأنصار وإن كان حضورها السياسي أقل من هذه الجماعات ولكن لها حضور قوي وسط التجار ربما لأنه شاع اعتقاد بأن أورادهم تنمي الكسب وتبارك في الرزق، وقد رفد دعاة التجانية من السودانيين المكتبة السودانية بقرابة السبعين مؤلفا من مؤلفاتهم وكلها في التعريف بالتجانية وأورادها وشيوخها وكذلك دفاعا عنها في وسط المهاجمين لها، كما للتجانية بضع مئات من الزوايا والمساجد على امتداد السودان، غير تلك المساجد التي يعملون فيها كائمة ومؤذنين. وتعتبر الطريقة الأولى في غرب السودان من ناحية العددية– أي في دارفور وكردفان.
الصوفي السوداني الذي أصبح مؤسسا لأكبر مؤسسة صوفية في السودان الشيخ أحمد الطيب البشير المتوفي 1825م (20) :
ينتمي الشيخ أحمد الطيب لذات الحقبة الزمنية، التي أنجبت الرموز الكبار للتصوف المؤسس السوداني " أحمد بن إدريس المتوفي 1837م والميرغني الكبير المتوفي 1852م والسيد أحمد التجاني المتوفي 1815م، ولكن الشيخ أحمد الطيب البشير ينتمي لأرومه سودانية وهي قبيلة الجوامعة، بينما ينتمي أقرانه إلى طائفة الأشراف السيد الميرغني من الحجاز وابن ادريس واحمد التجاني من المغرب والقواسم المشتركة، هي:
• تأثر أربعتهم بالفكر الصوفي على الأخص المدرسة الشاذلية والتي أصبحت أورادها زادا للأربعة، كما تأثر أربعتهم بتعاليم الطريقة الخلوتية المحملة بالمزاج العلمي والروحي لآسيا الوسطى.
• ثانيا هناك من الإشارات مايفيد معرفة بعضهم بعضا، حيث التقوا في الحجاز واستفاد الشيخ أحمد الطيب البشير من إقامته الطويلة في الحجاز مع أستاذه الأساسي محمد عبدالكريم السمان (1718/ 1775) الذي كان متشبعا بتعاليم ومسالك الطريقة الخلوتية ولكنه كذلك التقي بابن إدريس وتلامذته الميرغني والسنوسي، كما أن السيد أحمد التجاني الذي وصل الحجاز في حوالي عام 1772م، التقى بعبدالكريم السمان وأخذ منه. بينما وصل الشيخ أحمد الطيب إلى الحجاز عام 1171 هـ/1759م.
• تميز أربعتهم بمعرفتهم التامة للغة العربية وآدابها، كما تميزوا بالمقدرة على تطويع اللغة شعرا وسجعا ونثرا بالإضافة إلى مقدراتهم القيادية الملهمة الساعية لتوحيد كلمة المسلمين وتجديد الدين حسب رؤيتهم وتكييفهم الصوفي.
عاد السيد أحمد الطيب البشير للسودان ربما في عام 1776م بعد وفاة أستاذه، وبذلك فإن عودته وعمله لبذر بذور الطريقة السمانية سابقة على مجيء السيد الميرغني الذي وصل لسنار عام 1813م– بسبعة وثلاثين عاما، بل في ذلك الحين لم يولد الميرغني المولود في عام 1793م بل لم يك أستاذه ابن إدريس قد وصل الحجاز بعد، إذ وصل ابن إدريس للحجاز 1798م، كما لم يعرف السودان في ذلك الوقت الطريقة التجانية ، وبذلك فإن الطريقة السمانية هي أقدم الطرق التي شكلت العقل السوداني وظلت تعمل في ميدان التسليك والإرشاد في دولة الفونج زهاء الأربعين عاما إلى أن برز منافسوها الجدد تلامذة ابن إدريس ثم بعد أربعين عاما أخرى برز كذلك تلامذة السيد أحمد التجاني.
اكتسب الشيخ أحمد الطيب أنصارا في وسط السودان بين الجوامعة والكواهلة والحلاويين. وكلك كسب قلوب طائفة من القادرية مثل اليعقوباب وتعاون السيد أحمد الطيب مع حكام سنار واشتغل بالطب الروحي وغيره. واكتسب أبناء الشيخ أحمد الطيب البشير مقدراته ومهاراته في التصوف والشعر والنثر. وبرز من أبنائه كخلفاء له الشيخ محمد الشريف نور الدائم والشيخ عبدالمحمود نور الدائم ومن غير أبنائه الشيخ القرشي ودالزين ونمت الطريقة السمانية وتعددت مراكزها وأصبحت من أكبر الطرق في السودان المعاصر، كما أنها صاحبة أكبر مكتبة ورصيد علمي وروحي وفني ، والمعروف أن الإمام محمد أحمد المهدي (1840– 1885) نما وترعرع في أكناف هذه الطريقة وارتوى من مشاربها ومثل الاستاذين محمد الشريف والشيخ القرشي أهم أساتذته. ولكن توفي الأخير قبل أن يعلن المهدي مهديته. بينما لم يعترف الأول بمهديته، كما تعرض للحبس والضرب من قبل مؤيدي المهدي، ومهما يكن، فإن الطريقة السمانية ازدهرت في السودان واثيوبيا وغرب إفريقيا.
ظل السيد أحمد البشير في علاقة حسنة مع سلطنة الفونج وتواصلت الروابط الحسنة مع ولاة الخديوي محمد علي وأمر أهل البلاد أن يطيعوهم ولا يخالفوهم، وكذلك فعل تلامذته، الذين لم ينشغلوا بالسياسة عن الطريقة حتى في ظروف الحكم الثنائي، ويمكن القول بأن الطريقة السمانية هي أغزر طرق السودان أنصارا وأكثرها تأثيرا على الصعيد الاجتماعي وأوفرها إنتاجا في المجال الأدبي والروحي، كما نبغ فيها شعراء على المستوى القومي مثل الشيخ عبدالمحمود نورالدائم وابنه الشيخ الجيلي والشيخ محمد سعيد العباسي والشيخ محمد سرور وآخرين، الخريطة المرفقة تعطي صورة تقريبة لنمو وانتشار الطريقة السمانية:



الشيخ أحمد الطيب البشير
النفوذ الروحي عبر الأبناء والأحفاد
إبراهيم أبوصالح ومراكز أمدرمان
قريب الله توفي 1930 نورالدائم

الفاتح قريب الله عبدالمحمود توفي 1915 محمد الشريف أستاذ المهدي
مركز طابت
توفي 1909
أ.د. أحمد الطيب أ.د حسن الفاتح محمد سعيد العباسي
الشاعر المعروف
محمد
الطريقة السمانية مراكز لتلامذة الطريقة وهناك
مراكز أخرى كثيرة لم ترد على الرغم من أهمية بعضها

مركز الزريبة وأشهر رجاله الشيخ البرعي المتوفى في فواتح الألفية الثالثة
مركز كرجوج مركز شمبات مركز مدني مركز اثيوبيا مراكز غرب إفريقيا
الشريف الخاتم زين العابدين الشيخ شاطوط



السودانيون والميرغني الكبير:
يختلف السودان وإريتريا التي مر عليها الميرغني الكبير في عام 1813م – أي قبل أكثر من مئتى عام عن أحوال أوضاع سودان اليوم- صحيح أنّ الصلة بين ضفتي البحر الأحمر لم تنقطع أصلاً، وأن حكام سواكن وعيذاب موانئ السودان القديم، كانوا من أشراف مكة في تحالف أو تعاون مع قيادات البجة في المنطقة. وصحيح أن الهجرات الغربية من جهينة وربيعة عمّرت بوادي السودان وربوعه، كما أن طريق الحج ظل يصل ما بين إفريقيا الأطلسي وإفريقيا البحر الأحمر ويربط تجارة إفريقيا بالحجاز ويرفد ثقافة الأطلسي بثقافة البحر الأحمر، ومثل طريق الحج الذي يخترق إفريقيا ويجمع بين قبائل غرب إفريقيا وقبائل السودان رواقاً للصهر والدمج وتفاعل التجارة والثقافة واللغات والعادات والتقاليد.
ولكن كذلك، فإن أوضاع السودان كانت في منتهى التفكك والتحلل نسبة لتحلل النظام السياسي الذي مثلته دولة الفونج من مركزها في سنار وأصبح السودان خاضعاً لمشيئة رؤساء القبائل وبعض البيوت الدينية وقادة العسكر وما تبقى من الأمراء . وكان الفقر والتخلف والبؤس والجهل والتعري القاسم المشترك بين جمهور السودانيين. وكان السودانيون ، إلا من رحم ربك، تتطلع أوضاعهم إلى المخّلص، الذي يجمعهم ويوحد كلمتهم ويربطهم روحياً بمعاني التدين وينتشلهم مادياً من البؤس والجوع والعري ويحيطهم بالأمن والسلام في هذا الظرف، وصل السيد/ محمد عثمان- المولود في عام 1793م بالطائف والمتوفى في 2 مايو 1852م والمدفون بمكة إلى الحبشة ونواحي إريتريا والسودان في ثلاث رحلات ، ابتداءً من عام 1813م حتى عام 1821م أي أنه قضى تسع سنوات سائحاً في ربوع السودان متفرغاً للدعوة– ولم يتجاوز عمره العشرين عاماً، وهل كان يستطيع تحمل لأواء السودان غير شاب صغير معد روحياً ومعنوياً ومادياً للمركب الصعب– تهامس الناس بوصول شريف من أشراف مكة ، جاب شرق السودان ووسطه وتدافع الناس حوله التماساً للبركة وانتماءً لناصر الدين وطلباً للانتماء– وذاع صيت الشريف القادم من مكة والتف حوله الناس وأصبح نجماً تداعى إليه الشباب مما سبب له المشاكل والخصومات في سنار مع رجال الدين والطرق ، الذين انزعجوا لانفضاض الناس من حولهم والتفافهم حول الشريف والشاب صاحب الحسب الذي نزل ديار الفونج.
وحينما وصل الشريف إلى كردفان ، جذب إليه القلوب وفي بارا في قلب كردفان، أبت أسرة سودانية كريمة إلا أن تصهره لبنتها، المرموز لها ببنت الجلاب، وقد نسج العقل السوداني حول هذه المصاهرة أسطورة، إنها بنت صالحة، عمّت شهرتها الآفاق، وأن الشيخ عثمان دان فودي صاحب الوقت ومجدد أمر الدين في غرب إفريقيا، كان ينوي طلب يدها ولكن سبقها إليه الشاب الشريف الميرغني في نحو عام 1814م ونحن نستبعد ذلك، لأن عثمان دان فودي كان حينها قد مات أو في فراش الموت، كما أنه بعيد وإن سمع عن السودان فمن المؤكد أنه لم يعرف بارا. وفي كردفان تعرض الميرغني لمضايقات من حاكمها المقدوم مسلم وربما أخذته الغيرة من انعطاف قلوب الناس إليه أو خوفه من شعبيته أو تحريض العلماء المنافسين له وذات الشيء حدث له في سنار من الوزير ود الأرباب وعدد من علمائها، سببوا له المضايقات وعملوا على معاكسته ولكن مع ذلك نجح في كسب قلوب العباد.
وأثمر زواجه في بارا، ابنه الحسن الميرغني الذي جدد الطريق وساق الناس في طريق أبيه الختم.
كما أن العائلة بحسبها ونسبها ومظهرها وحسن سمعتها، مثلت كذلك فكرة الحضارة والتمدن واستهوت الشباب وأصحاب التطلعات الذين يريدون النموذج الذي يقلد ويتبع، حتى إن ابن الميرغني، عرف وسط عراة السودان بالحسن أب جلابية، بمعنى أنه تميز بكسوة وهندام غير معهودين ولافتين للنظر، فالتجديد كان على مستوى الفكرة والهيئة، وحتى الأكل لأن الختمية كذلك أدخلوا الأطعمة الحجازية من قمح وأرز ولوازمهما.
ومما يبدو من الرسائل المتبادلة بين الميرغني وابن ادريس ، أن الثاني كان يريد ألا تطول مهمة الأول في السودان وكان يريده كساعد أيمن له في الحجاز ولكن الميرغني استغرقته هموم السودان ومشاكله وأهواله وصعابه. وازدادت خبراته بالدعوة وقضاياها ومطالبها بعد أن أخذ في التنزيل على الواقع والتأطير على ما في ذهنه من تنظير.
وتكشف ثقافة الميرغني، عن ثقافة عميقة شعراً ونثراً مكنته من بسط السيرة النبوية شعراً في مولده، كما برز له كتاب " تاج التفاسير لكلام الملك الكبير" (21) على نمط تفسير الجلالين المشهور للحلي والسيوطي.
ويمكن القول، بأن تاريخ الطائفة مشوب بالسياسة، مرتبط بالحكم ووسائطه، والسلطة وعدتها (22)، فالميرغني الكبير كان معروفاً لدى حكام الحجاز ومصر واليمن والسودان وكان مهاباً من قبلهم، بعضهم نظر إليه بحذر وبعضهم عاداه والبعض الآخر سعى لكسبه. والعائلة كانت معروفة على مستوى العالم الإسلامي في مكة والطائف وآسيا الوسطي ومصر وتكلم عنها المؤرخ الإمام الجبرتي في تاريخه وكذلك فأن مؤلفات عبد الله الميرغني الجد معروفة مثل "أزاهير الرياحين" التي كثيراً ما أشار إليه الميرغني في تفسيره.
وكان الميرغني من رجال الدعوة العابرين للحواجز الجغرافية والسياسية ولذلك انتشرت ذريته ما بين الحجاز ومصر والسودان وإريتريا وأصبح لها وضع ونفوذ وسط الحكام والأسر والقيادات الدينية وأورثت الطريقة للذهنية السودانية، ديناً وعلماً وأحدثت إصلاحاً أخلاقياً واجتماعياً. درس الميرغني أصول معظم الطرق الصوفية، التي اشتهرت في زمانه وهي النقشبندية في آسيا الوسطى وقادرية العراق والشاذلية القادمة من المغرب والجنيدية الحجازية والمرغنية طريقة جده عبدالله المحجوب.
السودانيون والميرغني الكبير:
سعى الميرغني ثم ابنه الحسن للتواصل والمصاهرة والتعارف مع العوائل الكبيرة كآل سوار الدهب، والإنقرياب وآل كباشي والبادراب والإسماعيلاب والمريوماب والخوجلاب وقيادات الطرق كالقادرية والمكاشفية والعركيين والشيخ حسن ود حسونة والجعلي في شمال السودان الخ..
وبلغ عدد خلفائه في السودان ألف خليفة، في مرحلة من المراحل، يقومون بالإرشاد والدعوة وتصريف أمور الطريق. وقد أكثر الله ذريته، حتى أنه دفن من أولاده سبعين نفساً بين ذكور وإناث ،فقد كان كثير الزواج والتسري ولكن قام على أمر خلافته ست من أبنائه منهم محمد سر الختم الذي كانت إقامته ووفاته بمكه وله مؤلفات عديدة واشتهر ابنه محمد الميرغني بمصر وله تكايا في القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد، وثاني أبنائه عبد الله المحجوب كان بمكه وثالثهم السيد عثمان تاج السر بسواكن، ورابعهم محمد الحسن في السودان وتوفي بكسلا، وأنجب محمد عثمان القريب والذي عاش فقط 39عاماً وصادم المهدية في السودان وتوفي بمصر. وقد سعى مهدي السودان لكسب المراغنة وكتب لمعظم أعيان العائلة ولكن كما هو معروف هاجر السيد محمد عثمان الغريب إلى مصر وتوفي في 17 يناير 1886، بعد وفاة المهدي بستة أشهر. ومن أولاده كذلك السيد هاشم وشقيقته ما بين مصوع وطوكر في شرق السودان.
مع تركيز الميرغني الكبير على النخبة والأسر المعروفة، إلا أن معظم أتباعه من العامة الذين لا دراية لهم بحقيقة العلوم والمتواصلين معه بالحب والطاعة، لذا فقد ألف لهم كتباً تتماشى ومقدراتهم العقلية، تقرب لهم مفهومه ومنطوقه، وكتبت بالعبارات الجزلة، حمالة الأوجه والمعاني، فيكتفي العامي بتصريح العبارات ويقتني العالم دقيق الإشارات.
اختلفت الميرغنية (الختمية) عن المهدية في رفضها للعنف والتماسها الإصلاح بالإرشاد والدعوة السلمية المترفقة كما رافقتها حركة علمية، ونجحت في كسب مناطق المحاكمة الحضارية في وسط السودان وكذلك نجحت في مناطق الهامش والتخلف في شرق السودان وارتريا، بينما اعتمدت المهدية (1880/1898) على التعبئه والاستنفار والجهاد ، ولم تصب نجاحاً في مناطق المحاكمة الحضارية ولذلك اتجهت إلى الهامش وكسبت بالعصبية ونجحت في فرض برنامجها الإصلاحي ، حيث إنها حركة جهاد وتعبئة ونفير ضد السلطان الظالم، وسعت لكسر شوكة الدولة الفاسدة الظالمة، ولكن رفضت ركائز علماء الدولة الفكرة المحورية القائمة على مهدي آخر الزمان الذي يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً، ومع نجاح لاهوت التحرير في المهدية إلا أن لاهوت التعمير وإقامة الدولة النموذجية لم يثمر، نسبة للحروب الداخلية والخارجية والصراعات ولكن مع ذلك دخلت المهدية في التاريخ السوداني وأصبحت جزءاً من مكونات الأمة السودانية وعقلها وأصبحت شريكاً في إداره مشروع السودان إلى يومنا هذا.
التجديد ليس صنعة وليس أمراً – يمكن تعلمه، وإن كان التعليم يصقله ويلطفه ويمكنه من الوصول بأحسن الطرق لأهدافة. الإصلاح والتجديد هبة رحمانية ومنحة علوية، تتنزل على العقل الإنساني فتكسبه الإرادة والقوة للأخذ بالمشروع المطروح أو قل هو استعداد فطري، والاستعدادات الفطرية تتفاوت بين الناس، فقد يكون كثير من الناس على تقوى وشجاعة الإمام محمد أحمد في السودان ولكن يذهبون دون أن يسمع بهم أو يحس بدورهم– وما يزال مهدي السودان مثاراً للجدل – أهو مهدي أم لا؟ أحدث فتنة أو إصلاحاً ولكن لا يختلف اثنان أنه قد دخل في مشروع السودان وتاريخ السودان وأنه أكثر شخص حرك السودانيين واستقطبهم في تاريخ السودان معه أو ضده وأن ثورته أدت إلى حراك سكاني رهيب ملأ الدنيا وشغل الناس، وقامت على هذا الحراك مدن ودمرت آخرى، كما تكونت القومية السودانية نتيجة لهذا الحراك، الذي جاء بقبائل دارفور وكردفان وأقاصى السودان، في دائرة الضوء العالمي والأجندة العالمية واستدعت المهدية تدخل الأجنبي الذي قهر الثورة وفتح السودان. ولكنه أعطى السودان ما كان يريده من التنمية ومفاتيح النهضة من تعليم حديث وجيش حديث وسكك حديدية ومشاريع زراعية وربط بالاقتصاد العالمي.
والمجدد ، تصادف موجات فكرة الاستقبال عند الجموع – الصفوة والجمهور، مثله مثل الفنان، ألم تصادف موجات حنجرة أم كلثوم الصدى والقبول عند الجمهور– علماً بأن ما رددته من شعر أبي نواس أو أبي فراس الحمداني أو حتى أحمد شوقي كان معروفاً ولكنها أعطت الجميل دفع الانتشار والقبول والتجديد.
وكذلك فعل أحمد شوقي– هل كان يمكن أن تقوم للشعر العربي الحديث قائمة دونه ودون رفيقه حافظ إبراهيم.
وفي التجديد المعاصر، قد تكره الإمام الخميني أو تحبه ولكن لا يمكن أن تنكر أنه نقل العقل الإيراني من لحظة استغراقه في الحضارة الغربية إلى قلب المشروع الإسلامي ومطلوباته، مثل العناية باللغة العربية، تحرير القدس، مواجهة العولمة. وحتى إن اعتبرته مجدداً للمشروع الشيعي، فقد قام تجديده على قوائم نظرية برزت في فتاويه في مجلده الكبير "تحرير الوسيلة" ورؤيته السياسية في "ولاية الفقيه" ولكن فوق ذلك إرادته ومجاهدته وزهده وتقواه، حتى صادفت موجته الروحية والفكرية الهوى والقبول وسط الأغلبية فوقع التجديد.
وحسن البنا الذي مات وعمره لم يتجاوز 43 عاماً، ما يزال يحكم أهم حركة إسلامية من قبره وما يزال شيوخ الحركة الإسلامية في سبعينياتهم وثمانينياتهم يحتكمون إلى فتاوي حسن البنا الأولي وهو في عشرينياته وثلاثينياته.
ويبدو أن العالم الإسلامي كله، يعمل في تمهيد السبل لوقوع التجديد، فالخطاب الإسلامي السائد وبناء المساجد وبروز الحركات والجماعات الإسلامية الشاخصة والفائزة إنما هي تمهيد لوقوع التجديد، عبر شخص أو مؤسسة أو جماعة – ويبدو لي أن من مطلوبات التجديد:
1. أن يكون الشخص أو المؤسسة أو الجماعة منطلقاً من مطلوبات الثقافة الإسلامية وعلى قدم في علمها وتاريخها. وأن تكون القيادة عارفة وملمة بمطلوبات المرحلة وأولوياتها.
2. أن تكون له الإرادة والهمة مع المشروع وكلما كان على شباب زادت فرص النجاح.
3. مما يسهل مهمته أن يكون سليل أسرة معروفة أو بيت دين أو قائد يبرز من بين صفوف جماعة غير مجروحة.
4. أن يكون حاله ميسوراً، بحيث لا يشغله كسب العيش عن مطلوبات الجهاد والتضحية والعيش للناس ومع الناس وبالناس.
5. أن تصادف دعوته القبول من الجماهير– وأن يكسب النخبة القادرة على تعميق المبادرة وتهيئة فرص النجاح لها. والله أعلم


الهوامش :
1. انظر مادهو بانيكار، الوثنية والإسلام ، تاريخ الإمبراطورية الزنجية في غرب إفريقيا ، ترجمة وتعليق أحمد فؤاد بلبع، المشروع القومي للترجمة الطبعة الثانية القاهرة ص 547- 550
2. المصدر السابق ص 117
3. المصدر السابق ص 691
4. Uuman Mhammed Bugaji, The Tradition of Tajdid in Western Blilad–Sudan– Astudy of the Gensis, development and Pattern of Islamic Revovalisim in the Regopm .900- 1900 A.D. Ph.d thesis, University of Khartoum IAAS.1991.P. 195- 74
5. مصدر سبق ذكره ، ص 212 Umsman Bugaji
6. جامعة إفريقيا العالمية– المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ، الشيخ عثمان بن فودي (دان فوديو) بحوث الندوة العالمية التي عقدتها الجامعة بالتعاون مع المنظمة احتفاء بذكراه الخرطوم 26/28 جمادي الآخرة 1416هـ : 19–21 نوفمبر 1995م، تحرير الاستاذ عمر أحمد سعيد الاستاذ عبدالقيوم عبدالحليم حسن ، الخرطوم 1417هـ / 1996م بهيجة الشاذلي: مكونات الفكر السياسي الشيخ عثمان بن فودي، ص 79.
7. المصدر السابق، عثمان سيداحمد البيلي، ملاحظات وخواطر حول الحياة الفكرية في الخلافة العثمانية، الصكتية ص 218
8. المصدر السابق، عثمان سيدأحمد البيلي ص 219
9. المصدر السابق، عثمان سيدأحمد البيلي ص 212
10. المصدر السابق، عبدالرحمن أحمد عثمان ص 197
11. مفاهيم وآليات امتلاك السلطة ، تحقيق فتحي حسن المصري ، الخرطوم، 1977م، راجع كذلك مصدر سابق ، مهدي رزق الله.
12. سنن أبي داود كتاب الملاحم ، باب ماذكر في قرن المائة، حديث رقم 4291– 12 د.– ابن حزم ، بيروت ط 1419 هـ.
13. محمد النور بن ضيف الله، كتاب الطبقات في خصوص الأولياء الصالحين والعلماء والشعراء في السودان، حققه وعلق عليه وقدم له يوسف فضل حسن، دار التأليف والترجمة والنشر ، جامعة الخرطوم، الطبعة الرابعة 1991م.
14. المصدر السابق ص 39/40 – وصل الشيخ تاج الدين البهاري في 985هـ / 1577م وأقام بالسودان " الفونج " سبعة أعوام
15. حسن مكي محمد أحمد، الثقافة السنارية المغزي والمضمون، إصدارة رقم 15، مركز البحوث، جامعة إفريقيا العالمية 1990.
16. حسن مكي محمد أحمد، السيد احمد بن إدريس الفاسي ( 1760/ 1837م)، منهجه في الدعوة وفكره السياسي، إصدارات المركز الإسلامي الإفريقي بالخرطوم، 1990م، ص 9
17. أحمد بن إدريس الفأسي، العقد النفيس في جواهر التدريس، مطبعة مصطفي بابي الحلبي، ص 17
18. المصدر السابق 171
19. زينب الشيخ حمزة عمر، الطريقة التجانية في السودان، رسالة ماجستير مركز البحوث جامعة إفريقيا العالمية، 2002م ، ص 56.
20. راجع: طارق أحمد عثمان، الطريقة السمانية وأثرها الديني والاجتماعي في السودان، منذ دخولها سنة 1776م– 1955م، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة افريقيا العالمية، الخرطوم ص33– الشيخ احمد الطيب البشير من أسرة دينية معروفة جده محمد بن سرور من تلاميز الشيخ حسن ود حسونة، وبني سرور مسجدا في قرية أم مرح.
21. زينب الشيخ حمزة عمر ، الطريقة التجانية في السودان ، رسالة ماجستير مركز البحوث جامعة إفريقيا العالمية ، 2002م ، ص 56.
22. راجع: طارق أحمد عثمان، الطريقة السمانية وأثرها الديني والاجتماعي في السودان ، منذ دخولها سنة 1776م – 1955م، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة افريقيا العالمية، الخرطوم ص33 – من أسرة دينية معروفة جده محمد بن سرور من تلاميز الشيخ حسن ود حسونة ، وبني سرور مسجدا في قرية أم مرح.
23. السيد محمد عثمان الميرغني، تاج التفاسير لكلام الملك الكبير، طبعة دار الفكر ، الطبعة الثانية.
24. طارق احمد عثمان، تاريخ الختمية في السودان، الناشر دار السافنا والمأمون، الخرطوم 1999م، ص3.

.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !