لم يتمخض دخول مفهوم الانتقال الديمقراطي إلى القاموس السياسي المغربي، عبر بوابة العهد الجديد، حتى الآن، عن ترجمة سليمة على ساحة الممارسة السياسية و لا عن تصريف نوعي للفعل السياسي و الحزبي، فيبدو الوضع، نتيجة لذلك، اقرب ما يكون إلى مسرح لعروض، أحيانا هزلية وتراجيدية أحيانا أخرى، لا تنسجم مع سلوك الفاعل السياسي المقتنع بوجود حاجة ماسة لتثبيت أسس دولة الحق والقانون. لهذا فمن حين لآخر يسقط قناع "التمثيل" السياسي لنكتشف الملامح الحقيقة التي تحيلنا، دون التباس ، إلى الاعتقاد بان المستوى الرديء لاينبؤ بتحقق حلم الانتقال الديمقراطي بل إلى مجرد تكرار لعنوان على صفحة جديدة و مادة للاستهلاك الإعلامي ترعى الأحزاب ضمان نجاح تجربتها في مختبر الخطاب لتحتفظ، بعد ذلك، بفوائد ممارسة المهام على رأس هرم الدولة، نتيجة لبراعتها وقدرتها على التسويق والتوزيع في سوق السياسة الرائج.
فإذا كانت واقعة الناطق الرسمي باسم الحكومة، خالد الناصري، الذي تدخل عوض القانون لتخليص ابنه، فضيحة أخلاقية، فهي تشكل دليلا آخر على التناقض الصارخ بين الخطاب والممارسة ، وخطورة الفعل وتداعياته القانونية تقل، وبكثير، عن الكارثة السياسية التي جعلت من القانون اكبر ضحاياها.
إن سلوك الوزير يعد تجسيدا فعليا لاستغلال النفوذ وإهانة لكرامة المواطنين و ترسيخا لاعتقاد لدى الجميع بان القانون، هنا، يحمل فصلا عنصريا، إذ يستطيع حماية الأذكياء إذا كان المغفلون، حسب ما يُدرس، محرومون أصلا من حمايته.
إن النتيجة الأسوأ التي تصل إليها الدولة هي عندما تقف مكتوفة الأيدي أمام خرق واضح فاضح للقانون بطله وزير يفترض أن يكون أول الحريصين على تطبيقه واحترام حياده بحكم موقعه الذي يعتبر محط أنظار العالم، و الذي من خلاله تُشَكل صورة حول قيمة المواطن بالخارج و مدى احترام الدولة للحق و للقانون بالداخل.
فعندما يذبح القانون قربانا أمام مؤسسة تشريعية، والتي تعتبر إحدى التعبيرات الحضارية لرغبة الشعب في الاحتكام للقانون واحترامه، لتحقيق الخلاص الفردي والاحتماء من العقوبات المنصوص عليها، فان الدولة مدعوة إلى إعادة النظر في وجودها أصلا، وعليها أن لا تفاجأ إذا ما سارع المواطن إلى إعمال قوته لتحقيق عدالته ولا أن تفاجأ بسلوك جماعة قررت اللجوء إلى طرق أخرى مخالفة للقانون.
لقد شاهد العالم كيف كان رد الدولة القمعي على احتجاجات سيدي افني، إذ لم تتردد في إرسال الآلاف من القوات العمومية لفض اعتصام لعشرات من طالبي الشغل، حين فشلت في صياغة الجواب المناسب على رسائل المواطنين السلمية، وكيف كان خطابها يطفح بمفردات الحق والقانون لتبرير عملية العقاب الجماعي.
وكم كان اندهاش هذا العالم نفسه أمام إنكار الوزير الأول لوقوع أحداث السبت الأسود في 7 يونيو 2008، اندهاش قاد إلى خيبة أمل كبيرة، حين استمر الرجل بعينه وزيرا أول ورقي مسؤولوه المتورطون في الاعتداءات على المواطنين. ولم يقف الأمر عند حدود ذلك بل تجاوزه إلى عزل منتمين إلى السكرتارية المحلية من وظائفهم ورميهم إلى شارع يعج بالمئات من المعطلين.
الم يكن عباس الفاسي مسؤولا قبل ذلك بسنين عن إغراق 30 ألف معطل في بحر الوهم بعد أن باعهم تذكرة أمل خادعة على متن سفينة "النجاة" في أكبر صفقة نصب واحتيال عرفها المغرب المعاصر؟
لقد خرج الوزير عباس الفاسي، بالأمس، ناجيا من العاصفة، ليجد رياح عهد جديد تقوده إلى شاطئ أكثر أمنا، ليقود من جديد سفينة حكومة معطلة، وبعيدا، اليوم، تحت غطائها عن إي محاسبة أو مساءلة. فتهديد حزب الأصالة والمعاصرة بمساءلة الوزير الأول عن فضيحة النجاة سرعان ما تبخر على وقع حرارة العلاقات الشخصية، لان المسألة لم تكن لتتعدى مجرد مزايدة سياسية هدفها رفع الأسهم في الرصيد السياسي لأحد المساهمين الرئيسيين، وهو فؤاد عالي الهمة، والذي كان يشغل حينها منصب كاتب الدولة في وزارة الداخلية، ورغبة الأخير في تذكير الرأي العام بان الحزب محسوب على معارضة قوية، وانه باتخاذه هذه الخطوة "التصعيدية"، إنما يريد أن يطلعنا على شكل جديد من معارضته "النوعية" التي سبق أن وعد بها حزبه.
إن تراجع ثقة المواطن في المشاركة ليس مرده إلى غياب الشروط الموضوعية و عدم تغيير حقيقي للأوضاع نحو الأحسن فحسب، وإنما لامتعاضه من استحضار القانون تحت طلب الأقوياء والخارجين عنه لحماية أنفسهم، والأطم من ذلك كله إدراكه لطول المسافة بين الخطاب والممارسة.
فلقد اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن المحاسبة ظلت ولا تزال مصطلحا أجنبيا عن قاموس الممارسة في المغرب، وحتى إذا استخدمت في لحظة من اللحظات فلغاية تصفية الأصوات المزعجة للأذان التي تعودت على التطبيل والتزمير أو لبسط سلطة الرأي الواحد الذي لا يجب معارضته.
فواقعة الهروب الكبير، الذي جسد واقعه السيد الوزير، الناطق باسم حكومة "الحق والقانون"، تدفعنا اليوم إلى تسليط الضوء على جانب مظلم من واقع الانفصام السياسي الذي جرد الأحزاب والحكومة على حد سواء من مصداقية يفترض وجودها لرفع شعارات الدمقرطة وتخليق الحياة السياسية.
فسلوكاتها المنافية لمبادئ احترام القانون والرافضة لتطبيقه بكل نزاهة وشفافية، جعلها تخدم المساعي إلى تكريس الطبقية على سلم المواطنة المهترئ، بل وأصبحت هي من يلقي حجر عثرة على طريق أمل الشعب في تحقيق انتقال نوعي في الممارسة السياسية بالمغرب، لتُجهز بذلك، أمام كل محك جديد، على مكاسب التراكمات النضالية التي أدت إلى تشكيل قناعة لدى أعلى سلطة في الدولة بضرورة توسيع وتسريع الإصلاحات السياسية والدستورية.
لم تتحرك أي خطوة لا من داخل حزب الاستقلال ضد الوزير الأول عباس الفاسي لدفعه إلى الاعتذار ومحاسبته على كوارثه السياسية ولن تتحرك أي خطوة باتجاه إقناع الوزير بضرورة تقديم استقالته حرصا على كرامة المواطن ومصداقية حزبه، التقدم والاشتراكية، لسبب واحد هو موت المؤسسة الحزبية اختناقا لغياب هواء الديمقراطية السليم و ثراء النقد القويم.
فما جدوى وجود حكومة تفتقر إلى الإحساس بالمسؤولية أمام المواطن حتى نقتنع بحقيقة شعاراتها وبرامجها وحصيلتها وهي التي لا تجد حرجا في الدوس على حقوق المواطن والمرور بعدها إلى ضفة الأمان دون عقدة أو حساب أو حتى اعتذار يذكر.
لم يعد المواطن ينتظر منها لا برامج ولا انجازات بعد أن بات يرى فيها خطرا من احتمال عبثها بما تحقق من مكاسب، أمام جرأة المسؤولين على زرع سلوكات مخالفة للقانون تعتبر بمثابة قنابل داخل حقل العمل السياسي، تنسف كل خطوة أمل لتثبيت دعائم الديمقراطية الحقة و خلق الانسجام البَيًِن بين الخطاب والممارسة.
لهذا فمفهوم الانتقال الديمقراطي تخلى عن محتواه على طريق الممارسَة ليَجُر معه اليأس بديلا سيقود لا محالة نحو مقاطعة المشاركة في لعبة اختزلت قواعدها في صناعة صناديق زجاجية للانتخابات، في الوقت الذي لا يجد القانون طريقا شفافا لمحاسبة المسؤولين ولا حتى إعفاءهم من مهامهم وذلك اضعف الإيمان.
إن الشخصيات السياسية في دول الحق والقانون تسارع إلى اللجوء إلى وسائل الإعلام لتقديم اعتذارها للرأي العام وحتى استقالتها إذا لزم الأمر لتعديل صورتها في أذهان الشعب، كما فعل غولدن براون، رئيس الوزراء البريطاني. حيث بادر هذا الأخير إلى قطع حملته الانتخابية وتوجه إلى بيت العجوز، جيليان دوفي ، التي احتجت على برنامجه السياسي في موضوع الهجرة، ليلتمس الصفح منها لمجرد نعتها بالمتعصبة خلال حديثه إلى مرافقه داخل سيارته، و الذي التقطت كلماته وسائل الإعلام، علما أنه سبق وأن قدم اعتذارا لها، عبر موجات الإذاعة ، رافقه شعور بالذنب والخطيئة.
أما في المغرب فالحكومة تفاجئنا من حين لأخر، من خلال وزرائها، بقدرتها الكبيرة على تكذيب الحقائق والتملص من المسؤولية عن وقوع أحداث.
الم يحن الوقت بعد لإعلان حقيقة تحولها إلى أداة تقوض عجلة التطلع إلى التغيير و كونها المسؤولة ، في محطات كثيرة، عن تفجير قاطرة الآمال العريضة نحو ديمقراطية الخطاب والممارسة بعد خروجها عن سكة القانون؟
التعليقات (0)