مواضيع اليوم

- هل هنالك فائدة من أن تعرفوا أن "روز" رحلت؟

سلطان القحطاني

2010-02-10 21:11:27

0

 

الثلاثاء- التاسع عشر من شهر يناير
 

تلقيت ظهر اليوم اتصالا من صديق كبير كان له الأثر الأبلغ في حياتي المهنية، قصيرة الأمد، ولا أتجاوز حين أقول إنه أحد آبائي المؤسسين!. إنه من ذلك الرعيل المهني العظيم الذي يمكن أن يشعل حرباً نووية لأن نقطة تاهت عن السطر، أو أن فاصلة جاءت في غير محلها، أو أن العبارة المختارة في الجملة لم تكن بالدقة المطلوبة. واحدٌ من أولئك الرجال الذين عايشوا صحافة العرب وثورتها في لندن، يوم كانت صفحات الرأي فيها مثل "مجلس اللوردات" لا يدخلها ضعاف النفوس، والعقول، والأقلام. (وهم كثر هذه الأيام!).

قال لي وهو يحاورني: "لماذا يختفي الجانب الشخصي من المفكرة... أين سلطان؟". قلت: "إنني موجود وأحاول على قدر الممكن والمستطاع". قال بصوته القاطع: "لا لا، هذا لا يكفي". وما هي إلا ساعات قليلة جاءني بريد الكتروني، لم أتوقعه، من سطر واحد": العزيز سلطان... "روز" أصيبت بالسرطان وتوفيت في العاشر من ديسمبر".

توقف الوقت حينها، وشعرت بأن ثمة رابطا بين الهاتف الداعي، والغراب الإلكتروني، وهكذا إذاً جاء نداء القدر.

"روز" أمي الإنكليزية التي قضيت في بيتها أكثر من عام دون أن أشعر بأنني غريب، أو مسافر، أو عابر. كنت خيطاً من النسيج كله في ذلك البيت الفيكتوري الجميل، في "هيستنغز" الصغرى، حيث تهب الرياح، ويضطرب البحر.ماتت في اليوم الذي جاءتني فيه انقباضات – غير معتادة- في الصدر، والقلب، والأحلام، ولم أكن أعرف سبباً واضحاً لها.

كان موتها غير متوقع بالنسبة لي، كعادة الموت، وجماله، ورهبته. كل مرة كنت أفكر في الهرب من لندن، وصخبها، والالتجاء إليها، ولكنني كنت أؤجل الرغبة مرة تلو الأخرى، حتى فاتت علي الفرصة إلى الأبد.

لقد رحلت قبل أيام فقط من رغبتي في مهاتفتها كي أعود إلى بلدتي الأولى، إلى البيت الذي كونني من جديد، وجعلني أعرف قيمة النظام لأول مرة في حياتي. أن أتناول إفطاري في الثامنة، وغدائي في الواحدة والنصف، وعشائي في السادسة. أن أعرف قيمة الوقت، وأنه ليس ساعات، ودقائقٍ، وثواني، تطير من ساعات اليد أو الحائط، بل هو أسلوب حياة في المبتدأ والخبر. ألم يقل القدماء أن الأسلوب هو الرجل، والرجل هو الأسلوب؟!.

كنت أخطط أن أعود إليها، إلى القرية الكبيرة، إلى المكان الذي صار جزءاً أنيقاً من ذاكرتي، وعمري، وجنوني. إلى "هيستنغز"، إلى البحر، إلى النوارس البيضاء، إلى ضحكة "كارولين"، وغنج "ماريا"، وجنون "صالح"، وغباء "لوكاس"، و"المطعم الكردي"، وصلوات الجمعة، و"باربرا"، التي كانت تجسيداً حياً لإحدى شخصيات ديكنز، ولا تتلكم إلا لغة الإنكليز الكبار التي نحتاج إلى عشرات المترجمين كي نفهمها.

الآن تهبط علي صورة "روز" برداً وسلاماً. أتذكرها كما لو هي أمامي الآن، ونحن ندير حوارنا اليومي، على طاولة العشاء، التي كانت درساً مفتوحاً في التاريخ، والفكر، والأمل."روز" من مواليد العقد الذي كانت فيه بريطانيا العظمى... العظمى!. يوم كان سقوط ملعقة في لندن، يسمع صداه عبر جهات الكرة الأرضية كلها، فما بالك بقنبلة أو تصريح. حين كانت الإمبراطورية في وهج عنفوانها، وخيلائها، إلى الحد الذي حمل تشرشل على أن يقول، قبل مؤتمر يالطا، إن العالم خلال المؤتمر سيُقسّم إلى قسمين: نصف لبريطانيا، والنصف الآخر للإتحاد السوفيتي، وحين راح مساعده يذكره بأميركا، تمتم قائلاً :" حسناً سنترك لهم المناظر الطبيعية!". ( أكتشف بعدها أن أميركا أخذت كل شيء، ولم تتمكن بريطانيا حتى من التمتع بالمناظر الطبيعية).

وكبرت "روز" وهي ترى كيف بدأت الإمبراطورية في التخلص من نفسها بنفسها. وكبرت، وكبرت، وكبرت، وهي تزداد إيماناً بدور التاريخ في المستقبل، وعظمة بريطانيا في الماضي، وكلاهما رافدٌ للآخر، ودرس حيٌ ومتوقد منه.على طاولة المساء، سمعت لأول مرة، أسماء مثل: "اللورد هانكي"، اللورد "سالسبوري"، الجنرال "كيتلي"، و"سلوين لويد"... وآخرين من الذين كانوا يؤدون دوراً جانبياً على مسرح بلد لا يفهم إلا لغة الأساطيل، والقاذفات بعيد المدى.

طبعاً دون أن أنسى "تشرشل" و"عديقه" اللدود، الذي ورثه حياً، "انتوني ايدن، وغنج زوجاته "كلارسيا"، ودور "مونتجمري" في التاريخ والجغرافيا.

لا زلت أتذكر غضبها الشديد حين أسرت إيران بحارة بريطانيين عندما كانوا يقومون بأعمالهم الدورية، في الضفة الفارسية من الخليج العربي. وفي كل صباح كانت تسألني:"أيها الصحافي، هل قصف جنود جلالتها موانئ إيران كلها؟". وأجيب مصراً على أن اجعلها تعيش بريطانيا التي عرفتها ذات يوم:" ليس بعد لكنني أتوقع ذلك قريباً!". ولم أر ردة فعلها وأنا متأكد أنها علمت كيف تمرغت بريطانيا العظمى في الوحل حتى عاد جنودها أذلاء إلى بلادهم.

ومضت "روز" إلى حياة أخرى، وبقيت أنا هنا، أشعر بالوحدة، والفقد. الشوق إلى الغرفة التي كانت آية من سورة الحنان، وغرفة المكتب التي كانت نافذتها جزءاً من السماء، حيث يمكن للنجوم قراءة ما أكتبه، وللقمر سماع صدى الأفكار والموسيقى، وللمطر أن يطرق النافذة، ويغسل الأحزان.

لماذا يا "روز"..؟ أما كان من الممكن أن تعيشي عاماً آخر، كي أعود إلى البيت، واللحظات الجميلة، ولا أفعل شيئاً سوى القراءة والكتابة، والتذمر من البطاطس المسلوقة التي كنت تتعبينني بها؟. لم أتصور أن امرأة في الستين من عمرها، تمارس السباحة كل ثلاثاء، وتمضي ساعتين كل مساء، لتسلية كلبيها في الحديقة العامة، وتذهب في الصباح إلى باريس للتبضع، وتعود في اليوم نفسه، أن تصاب بوعكة صحيّة، أو أن ترحل بسبب المرض.

كنت أتوقع يا "روز" أن تموتي في معركة، أو داخل خندق، وانت ترتدين خوذة الجنود المقاتلين، وبجوارك صحيفة "دايلي ميل" التي عرفتني إليها، والتاريخ الذي أحببته، يوم كانت بريطانيا العظمى... عظمى!باركك الرب يا "روز" !.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !