مواضيع اليوم

مراتب الإحسان وثمراته

رهن المحيس

2011-11-16 15:50:27

0

 الإحسان مستمد من حديث الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فهل الإحسان بهذا المعني ركن واحد أم أننا نتحدث عن ركنين للإحسان؟

إن الذين جعلوا الإحسان ركناً واحداً، إنما قصدوا أن نعيش معني مراقبة الله تعالي في كل أحوالنا، فلا يصدر عنا تجاه خلق الله من العلاقات، إلا الإحسان وإن أساءوا، وإلا ما أحسن وأحكم وأتقن من الأفعال والصناعات.

فالذين قالوا إن الإحسان ركن واحد ركزوا علي مسألة المراقبة تلك، والذين جعلوا الإحسان ركنين، جعلوا الرتبة الأولي الأعلي أن نعيش ونحن مدركون أن الله ناظر إلينا، فإن لم نكن نراه فإنه يرانا، في كل أحوالنا ومعاملاتنا، فمن صبر علي ذلك، ارتقي إلي الرتبة الأعلي أو الركن الأول من أركان الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فالأمر يحتاج إلي مجاهدة واجتهاد، ولهذا قال الله تعالي: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) «العنكبوت ٦٩»، فربط مجاهدة النفس بالتوفيق والهداية للسبل التي تكون ثمرتها معية الله تعالي.

فالمرتبة الأسمي من الإحسان أن تشهد الله تعالي في سائر معاملاتك، أي أنك تري الله أمامك، استحضاراً يحملك علي أن تحسن للآخرين في معاملاتك، أو تتقن العمل في صناعتك ومهنتك لا من قبيل الخوف أو الرجاء أو الحياء، وإنما أنت تعمل وأنت تشهد الله من قبيل الثقة والطمأنينة بأن الله معك، كما في قول سيدنا رسول الله عليه وعلي آله وصحبه الصلاة والسلام في الغار جواباً علي قول الصديق رضي الله عنه وأرضاه: «يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، أو ما نجده في طلب سيدنا إبراهيم خليل الرحمن: «ولكن ليطمئن قلبي»، أي طمأنينة من شاهد الله تعالي في قدرته علي إحياء الموتي.

فالمقصود من الحديث عن الإحسان أن تحيا دون أن يغيب عن نظرك أن هناك غاية وهدفاً أسمي من حياتك، وهو أن ترتقي في كل علاقاتك ومعاملاتك وعملك إلي رتبة المراقبة لله تعالي، ثم إلي المشاهدة والحضور. فإن الله تعالي (كتب الإحسان علي كل شيء)، ولأن الإحسان دعوة إلي إيجاد الشخصية المثلي، الشخصية التي اتجهت حركة المجتمع وجهود التربية إلي إيجادها، هذه الشخصية تمثل المثالية التي تحققت في واقع المجتمع المسلم في الماضي، ويمكن أن تتحقق في واقعنا إذا توافرت الشروط الموضوعية لتحقيقها.

وهناك قصة نعرفها جميعاً في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأة التي قالت لابنتها: «قومي فامزجي اللبن بالماء»، تريد أن يكثر اللبن فيكثر الثمن، لأن الإنتاج لا يكاد يغطي حاجتهما فغلبتها نفسها ودعتها حاجتها إلي الغش، إلا أن البنت الصغيرة التي تربت علي الصدق وعلي الإحسان قالت لأمها: «أوما علمت بما كان ما أمر أمير المؤمنين بعدم غش اللبن؟ قالت الأم: قومي إلي اللبن فإنك بموضع لا يراك فيه عمر، فأجابتها البنت في كلمة صادقة خالدة: إن كان عمر لا يرانا، فإن رب عمر يرانا».

إنها بنت صغيرة يأتيها خوف الفقر وطمع المال ليصارعان ثباتها علي الإحسان، فتضرب لنا المثل الأعلي في معاني مراقبة الله تعالي، لاحظوا كم من أمورنا لا نتعامل فيها إلا مع عمر دون رب عمر؟، هل لاحظتم أن المعاكسات الهاتفية اختفت بعد خدمة إظهار رقم الطالب؟ هل كان المعاكس يتعامل مع عمر أم مع رب عمر؟ متي نضع حزام الأمان..متي نلتزم بحدود السرعة المقررة ..متي نذهب إلي العمل ومتي نعود منه وماذا نعمل فيه، من الممكن أن نكون في مكان لا يرانا فيه عمر، ولكن أين ذلك المكان الذي لا يرانا فيه رب عمر؟ لا تعتذر بكثرة المخالفين فأنت سوف تسأل وحدك، ولا تعتذر بالحاجة أو بالضرورة فإن البنت الصغيرة كانت تستطيع أن تجد لها نفس التبرير.

والشاهد الآخر في تلك القصة أن عمر لم يكن غائباً كما ظنت الأم، بل كان حاضراً يسمع وينصت فهو مسؤول عن رعيته وعن رعاية حق الله فيهم بالمراقبة والإحسان، فدعا أولاده وجمعهم وقال: «هل فيكم من يحتاج إلي زوجة، لو كان بأبيكم قوة إلي النساء ما سبقه أحد منكم إلي هذه الجارية»، فزوجها ابنه عاصم فولدت بنتاً كانت أماً لعمر بن عبد العزيز أعدل بني أمية وخامس الخلفاء الراشدين.

ما الذي نتعلمه من هذه القصة ونحن نتحدث عن زمان تعاني فيه الأمة من الضعف والهوان، ومن سفك الدماء وهتك الأعراض واحتلال الأوطان ومن التخلف والفقر والتناحر والتباغض، إذا أردنا أن نتخلص من ذلك كله فعلينا أن نتحري الصدق مع الله ومراقبته عز وجل في كل أحوالنا وسلوكنا، فأول الإحسان صدق مع النفس في التعامل مع الله تعالي ثم تعامل مع مخلوقاته وإحسان إلي الآخرين،

والإحسان في أمور الدنيا يشمل الحياة كلها، إذ إن الحياة لا تنمو ولا تزدهر، والحضارات لا تبني ولا تتقدم إلا بالإحسان، إحسان التخطيط وإحسان التنفيذ وإحسان التقدير، والمسلم لا يتربي علي الإحسان إلاّ إذا قصد الإحسان في تفاعله مع المجتمع، ليس بقصد اللياقة الاجتماعية المظهرية، بل بقصد مراعاة حق الله تعالي وحق سائر مخلوقاته التي أمرنا بالإحسان فيها علي قاعدة من الأمانة والصدق والإخلاص والتقوي والمسؤولية الاجتماعية المتجذرة في وجدانه وكيانه، إحسان نتحدث عن ثمراته في مقال قادم.يختلف الناس في دوافع سلوكهم نحو الإحسان، بين من يحسن لمصلحة وقتية، ومن يحسن بدافع إنساني محض، ومن يحسن مراقبة لله تعالي وسعياً إلي كمال العبودية، وتتنوع مجالات الإحسان في دوائر مترابطة متلاحقة تمثل حقيقة دور الإنسان في العطاء والبذل، سواء في مجال العمل الذي يقوم به وهو مطالب فيه بالإتقان والإحسان أو في تنوع دوائر العطاء وشبكة العلاقات الاجتماعية، التي يحيا في محيطها لنصل إلي بناء الإنسان ذاته كهدف أسمي من تحقق الإحسان.

إن الأمر بإتقان العمل وإحسانه لا يجعله الشرع أمراً يختص بالدنيا فحسب، بل يجعله أيضاً أمر عبادة، يتقرب به إلي الله تعالي، فالدعوة إلي الإتقان هي حث علي التخلق بأخلاق الله تعالي في إتقان الصنعة وإبداعها، ودفع للإنسان إلي خلق الإحسان سعياً إلي محبة الله تعالي، فإن الله «يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»، وفي رواية أخري «إن الله يحب من العامل إذا عمل عملاً أن يحسن».

فإتقان العمل أو إحسانه يرتبط بمحبة الله تعالي لهذا العمل فيكون الإتقان محوراً لسلوك المؤمن في كل أعماله، فهو يحسن القيام بالمهنة وبالعبادة وبالمعاملة، ثم هي مسؤولية كل واحد منا، حتي الأطفال الصغار يجب أن يتعودوا الجودة والإتقان والإحسان في لهوهم وألعابهم، فالإتقان لا يقتصر علي عمل دون آخر، لا من حيث النوع ولا من حيث الطبيعة، فلا يقولن أحد: هذا عمل ثانوي أو تافه لا يستحق بذل الجهد فيه وإحسانه.

والإحسان من أهم أسباب نجاح الصناعات الحديثة وتقدم ورقي الدول، لاهتمامها بمراقبة الجودة النوعية في كل مراحل الإنتاج ووضع معايير ومقاييس للجودة، بل يأوجدت بعضها جائزة سنوية للأداء المتميز الذي يتسم بالإحسان وأنشأت روابط ومنظمات دولية لمراقبة الجودة النوعية.

والإسلام في حثه علي الإحسان يتجاوز ذلك كله ويرتقي به، إلي أن يصير الإحسان نوعاً من التحقق بالعبودية لله تعالي، فلا يمكن للمسلم أن يرتقي إلي درجة العبودية إلا بإتقان كل ما يقوم بأدائه من أعمال تعبدية أو مهنية أو غيرهما، ففي مسند أحمد عن سيدنا عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: توَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ هَذَا الْوُضُوءَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ إِلَي الصَّلَاةِ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا كَفَّرَتْ عَنْهُ مَا بَينَهَا وَبَينَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَي مَا لَمْ يصِبْ مَقْتَلَةً يعْنِي كَبِيرَةً».

بل جعل الرسول عليه الصلاة والسلام من عدم الإتقان نوعاً من السرقة ينطبق حتي علي الصلاة، ففي مسند أحمد عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يسْرِقُ صَلَاتَهُ، قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيفَ يسْرِقُهَا ؟ قَالَ: لَا يتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا»

.فإتقان العمل أمانة يجب أن يؤديها علي أكمل وجه وأحسنه، وأي وقت يضيعه الإنسان وهو في عمله، يكون قد أخذ عليه أجراً فهو من قبيل السرقة، ومن أبلغ الصدقات إتقان العمل، ومن أوجب ما يقرب العبد إلي ربه العمل المتقن الجيد.

ثم إن الإتقان هو دعوة للمبادرة والإبداع واكتساب المهارات فيما ينفع الناس ويحسّن من أحوالهم، فالإتقان يرتقي في السلوك إلي مرتبة الإبداع القائم علي المبادأة والمبادرة والتجديد، طالما كان فيما ينفع الناس، أما الإبداع فيما لا يفيد الناس فهو هدر للطاقة وتضييع للجهد والوقت.

لذلك يروي عن المأمون أنه قد جيء إليه برجل لديه مهارة لا توجد عند أحد غيره، فغرس إبرة في الأرض، ثم رمي نحو سم الخياط مائة من الإبر ما أخطأ واحدة منها، وهي مهارة عجيبة بالفعل أذهلت المأمون الذي أمر له بمائة دينار مكافأة له علي مهارته، ولكنه أمر أيضاً بجلده مائة جلة لتضييعه موهبته فيما لا يفيد.

وهناك مجال آخر لثمرات الإحسان، يبدو في معاملة الإنسان وحركته في الحياة والعلاقات الاجتماعية، حيث تختلف دوائر الإحسان فهناك من يحسن وبفيض رحمة لمن يعرفهم ويحبهم من ولد ووالد وصديق وزوج، لكنه لا ينفتح بذات الإحسان علي ما يتجاوز هؤلاء من دوائر العطاء والبذل، فلا يتعاطف مع آلام الآخرين الذين لا صلة له بهم، بل قد يقابل حاجتهم للعطاء ببرود مشاعر وقسوة قلب.

لكن المسلم حسن التخلق بالعبودية تصبح كل حركته تحقق بمقامات الإحسان، فيفيض رحمة تجاه كل من يعرف ومن لا يعرف، وتتوسع دائرة إحسانه لتشمل كل ما يحيط به، ففي صحيح البخاري ومسلم «عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَينَمَا رَجُلٌ يمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَي الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»، ودوائر التحقق بإحسان العبودية لا حصر لها فالمسلم» يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها إلي الصلاة صدقة، ويميط الأذي عن الطريق صدقة»، فهو إحسان ينتظم الوجود كله ويجعل المسلم مسؤولا عن الإحسان لكل ذي كبد رطبة .

فعن سَعِيدُ بن جُبَيرٍ- كما في المعجم الكبير- قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ، فَمَرَّ عَلَي قَوْمٍ قَدْ نَصَبُوا طَائِرًا اتَّخَذُوهُ غَرَضًا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَعَنَ اللَّهُ مِنْ فَعَلَ هَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ينْهَي عَنْ هَذَا».

وتتنوع مجالات البذل والعطاء بالإحسان، ومنها العطاء من المال ومن كل ما يمتلك الإنسان من أشياء ينتفع بها، ومنها عطاء العلم والمعرفة، ومنها عطاء النصيحة، ومنها عطاء النفس من حلو الكلام والابتسام وطلاقة الوجه، ومنا من يعطي من وقته وجهده ومن يعطي من دعائه وحبه ورحمته، ومنها العطاء من طاقات الجسد وقواه المادية والفكرية فيمشي في مصالح الناس ويسهر من أجل راحتهم، ويرتقي العطاء حتي يصل إلي مرتبة التضحية بالحياة ذاتها كما في المجاهد والمقاتل في سبيل الله تعالي.

فلا تحقرن من المعروف شيئاً، ولا يمنعك ضيق ذات اليد من التحقق بمقامات الإحسان في غير ذلك من ميادين البذل والعطاء، وقد كفل الله تعالي لك أجر السعي وثوابه، ففي صحيح مسلم عن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتْ الطَّيرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ».

 لكن أصدقكم القول، إن الثمرة الحقيقية للإحسان ومجاله الذي يحتاج إلي عناية وجوهر التحقق بالعبودية لله تعالي هو بناء الإنسان ذاته، وهو موضوع المقال القادم بإذن الله تعالي.في معرفة الصحابة لأبي نعيم عن الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، قال: «لما أمر الله تعالي نبيه عليه السلام بأن يعرض نفسه علي قبائل العرب خرج، وأنا معه وأبو بكر رضي الله عنه، فانتهينا إلي مجلس عليه السكينة والوقار، ولهم أقدار وهيئات، فقال لهم أبو بكر : ممن القوم ؟

قالوا: نحن بنو شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلي رسول الله، صلي الله عليه وسلم، فقال له : بأبي أنت وأمي، ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم، وكان في القوم مفروق بن عمرو، والمثني بن حارثة، وهانئ بن قبيصة، والنعمان بن شريك، فتلا عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم...) (الأنعام:١٥١)، فقال مفروق: ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان...) (النحل٩٠)، فقال مفروق : دعوت والله يا قرشي إلي مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك».

ذلك لأن الله تعالي يأمر بالعدل الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوي، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغني والفقر، والقوة والضعف . إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع.

وإلي جوار العدل ويليه الإحسان يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثاراً لود القلوب، وشفاء لغل الصدور . ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحاً أو يكسب فضلاً . والإحسان أوسع مدلولاً، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعاً .

ويرى الإمام الغزالي أن الله تعالي قد أمر بالعدل والإحسان جميعاً، وأن العدل سبب النجاة فقط، وهو يجري من التجارة مجري رأس المال. والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة، وهو يجري من التجارة مجري الربح، ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة، فلا ينبغي للمسلم أن يقتصر علي العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان.

ويدل لفظ الإحسان علي معان ثلاثة وردت في القرآن والسنة: الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( كما في الحديث المتفق عليه)، والإحسان إلي الناس كالوالدين والأقربين واليتامي والمساكين وسائر الخلق، وإحسان العمل وإتقانه، ومن مجموع تلك الدلالات يمكننا تحديد مكانة الإحسان في سلم القيم والأخلاقيات في علاقات العبد بربه وبالناس وبالأشياء.

فبداية الإحسان ومنتهاه وغايته الارتقاء بالعبد في مراتب مراقبة الله تعالي وشهوده في كل أعماله وسلوكه، درجة ثالثة بعد الإسلام والإيمان وفوقهما وبناء عليهما لا تحليقا، فلا إيمان بلا إسلام، ولا إحسان بلا إيمان، إحسان يراه المؤمن في كل أحواله وفي العبادة بالمعني الشامل الذي لا يقصرها علي النسك والنوافل، بل لقد وردت للحديث روايات أخري «الإحسان: أن تعمل لله» (مسند أحمد وصحيح ابن حبان)، وفي أخري «الإحسان: أن تخشي الله كأنك تراه» (صحيح مسلم)، مما يجعل من الإحسان سلوكاً معتاداً من المؤمنين في كل أعمالهم وأحوالهم.

ولك أن تتأمل مدي أهمية التربية علي الإحسان من ترتيب حادثة تلفت النظر وتحلق بالخيال وتخاطب العقل والوجدان، وهي نزول جبريل، عليه السلام، لمدارسة الرسول عليه الصلاة والسلام بين أصحابه في لوحة خالدة للتعليم والتربية يسأل الملك ويجيب الرسول، عليه الصلاة والسلام، فيصدقه فيعجب الصحابة، ليقرر لهم أن هذا هو جبريل جاء يعلم الناس دينهم.

ويؤكد ذلك المعني الراقي للإحسان ويكمله قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (صحيح مسلم وأصحاب السنن)، فالإحسان هنا مرادف لكلمة الإتقان، وقد أراد الرسول صلي الله عليه وسلم أن يزرع بذلك الرحمة في قلب المسلم ويكسبه عادة الإتقان في العمل حتي ولو لم تكن للعمل آثار اجتماعية كالذبح الذي ينتهي بإتمام العمل كيفما كان.

الأمر الذي يشكل علاقة متداخلة بين الإتقان والإحسان، غير أن الإتقان عمل يتعلق بالمهارات التي يكتسبها الإنسان، بينما الإحسان قوة داخلية تتربي في كيان المسلم، وتتعلق في ضميره وتترجم إلي مهارة يدوية أيضاً، فالإحسان أشمل وأعم دلالة من الإتقان، ولذلك كان هو المصطلح الذي ركز عليه القرآن والسنة، وقد وردت كلمة الإحسان بمشتقاتها المختلفة مرات كثيرة في القرآن الكريم، منها ما ورد بصيغة المصدر اثنتي عشرة مرة، بينما وردت كلمة المحسنين ثلاثاً وثلاثين مرة، وبصيغ اسم الفاعل أربع مرات، واللافت للنظر أنها لم ترد بصيغة الأمر إلا مرة واحدة للجماعة: «...وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» (البقرة ١٩٥).

والإتقان في المجتمع المسلم ظاهرة سلوكية يجب أن تلازم المسلم في حياته،والمجتمع في تفاعله وإنتاجه، فلا يكفي الفرد أن يؤدي العمل صحيحاً؛ بل لا بد أن يكون صحيحاً ومتقناً، ليس ذلك فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلي رقي الجنس البشري، وعليه تقوم الحضارات، ثم هو قبل ذلك كله هدف من أهداف الدين يسمو به المسلم ويرقي به في مرضاة الله والإخلاص له ...لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه... وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه.... فصفة الإتقان وصف الله بها نفسه لتنقل إلي عباده «..صنع الله الذي أتقن كل شيء...» (النمل٨٨).

كذلك يمثل الإحسان - من خلال قوله تعالي :(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَي وَالْيتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَي وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) (النساء ٣٦)، انفتاحاً علي قطاعات كثيرة في المجتمع، يطالب المسلم بالتعامل معها والتفاعل علي أساس من التقوي والحرص علي الجماعة، حتي يكون الجهد المبذول في سبيل الإحسان إليها ذا قيمة اجتماعية يراعي فيها رضاء المولي عز وجل.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !