كيف تم توقيع إعلان الدوحة؟
بلال الشوبكي
إن المراقب للحالة الفلسطينية منذ عام 2006، يدرك جيداً أن تعقيدات الملف الفلسطيني أكبر من فتح وحماس، وأن الخلاف الماثل بينهما ما هو إلا تعبير عن خلاف أوسع بين قطبين على المستوى الإقليمي، تماماً كما كان الحال مع نزاعات دول العالم الثالث بالإنابة عن موسكو وواشنطن. كما أن المتابع لتفاصيل الخلاف بين فتح وحماس يدرك أن الانقسام الماثل في المجتمع الفلسطيني ما هو إلا تعبيرٌ عن نهجين لا مصلحة مشتركة تجمعهما، أي أن تصوير الانقسام على أنه نتيجة خطأ ما بحسن نية الطرفين ويمكن حلّه بمصالحة على الطريقة العربية هو مجرد مضيعة للوقت. لن يكون هناك شراكة بين فتح وحماس ما لم يكن هناك مصلحة لدى الطرفين، أمّا الحديث عن المصلحة الوطنية العليا فهذا شعارٌ يتاجر به الساسة لا أكثر.
هذا الأمر لا يعني أن التفاهم بين فتح وحماس غير مطلوب، بل هو ضرورة، لكن من الواجب عدم النظر إلى قضية المصالحة كقضية أخلاقية مثالية وتضخيم مسألة الوحدة بشكل يرهن كل القضية الفلسطينية باتفاق شخصين. إذا ما كان المقصود من الوحدة أن يذوب الطرفان في إطار واحد فهذا وهم لا يمكن تحقيقه، بل لا تجب المطالبة به لأنه تناقض صارخ مع أسس الديمقراطية وحرية الاختيار، أمّا إن كان المقصود تفاهماً على أسس العمل وقوانينه في ساحة سياسية تضم جميع القوى السياسية فهذا هو المطلوب، وتحقيق هذا التفاهم مشروط بإيجاد لغة مصالح مشتركة بين الجميع. لقد ثبت للمواطن الفلسطيني أن الشريحة الأوسع من الساسة ليسوا سوى موظفين لجهات عدّة، وإن استعدادهم للتفاهم مع غيرهم من الموظفين سيرتّب عليهم تبعات جديدة أو يحيلهم إلى التقاعد، وهذا ما لن يرضوا به إن لم يكن متوازياً مع مصلحة تقدّم لهم أو لمن يقف خلفهم.
في الدوحة تم إعلان المصالحة على أساس واحد، وهو استلام عباس رئاسة الحكومة. ابتداءً، لا بد من التنويه أن هذه الخطوة أطاحت بشعارات المؤسساتية والديمقراطية وفصل السلطات التي نادى بها عباس وعلى أساسها أصبح رئيساً للوزراء في عهد عرفات. أي أن الأساس الأول للمصالحة نفى عنها المثالية والتغنّي بالمبادئ والأخلاقيات. كيف تحوّل أبو مازن من رئيس منتهية صلاحيته حسب تصريحات حماس، إلى رئيس وزراء حكومة المصالحة؟ كيف قبلت حماس بذلك؟ ولماذا تم الاتفاق في الدوحة؟
إن تجاوز فتح وحماس مسألة قانونية الخطوات السياسية حالياً، وتناسي فترة سابقة وقف فيها الطرفان ولم يتزحزحا قيد أنملة عن تفسيراتهم للقانون الأساسي الفلسطيني حين كان الحديث عن ولاية الرئيس وصلاحيته وقانونية جلسات وقرارات التشريعي، كل ذلك ما هو إلا تعبير عن قناعة الطرفين أنّهما فقدا أي شرعية قانونية، فكلّاً من المجلس التشريعي والرئيس لا يمتلكان الحق من الناحية القانونية في التحدّث باسم الشعب وإدارة شؤونه، وما استمرارهم في الحكم إلا نتاج شعبٍ صامت، تجرّع العبودية بقطّارة الفصائل فارتضاها بعد أن لفظ استبداد إسرائيل لعقود.
موقف فتح وتحديداً أبو مازن وتوقيعه لإعلان الدوحة يأتي في ظل الفشل المتراكم لمشروع المفاوضات والفشل الأكبر في الصمود كرافض للتفاوض، فالمفاوضات التي حدثت في عمّان وأسموها بالمحادثات الاستكشافية تلطيفاً لها جاءت لتدلل على فشل المفاوضات مرة أخرى وعلى فشل السلطة في الصمود كرافضة للمفاوضات ما لم تتحقق مطالبها بوقف الاستيطان. مضافاً إلى كل ذلك، فإن السلطة الفلسطينية لم تبق فرصةً واحدة للمواطن كي يقتنع بأن لديها مخرجاً من مأزقها، فحين حشدت كل الطاقات لإعلان الدولة وروّجت له إعلامياً معتقدةً أنّها بذلك تربح جماهيرياً لم تع أن هذه الجماهير تحوّت إلى حَكمٍ ينتظر نتيجة كل هذا التضخيم لما أسموه استحقاقاً. لم تنتظر هذه الجماهير طويلاً حتى اكتشفت أن خطوة أيلول لم تكن سوى ملهاة لا أكثر. عادت السلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن من عمّان بخفي حنين، والوضع الاقتصادي في الضفة الغربية آخذٌ في التدهور، وانهيار الديكتاتوريات في المنطقة وصعود الإسلاميين إلى الحكم كلّها عوامل يدركها أبو مازن جيّداً، ويدرك أن تجاهلها سيختم تاريخه بكارثة. لذلك، ليس غريباً على السلطة في رام الله أن توقع إعلان الدوحة.
هذا بالنسبة لفتح، أمّا عن العوامل التي دفعت حركة حماس للتوقيع على إعلان الدوحة والقبول بأبو مازن رئيساً للوزراء فهي ذات العوامل التي دفعت فتح لكن بشكل مغاير. فحين تفشل السلطة في المفاوضات وتفشل في إدارة الوضع الاقتصادي في الضفة وتنظر بعين الشك للتغييرات الاقليمية حولها كلها عوامل تزيد من قوة حماس وفقاً للعلاقة العكسية بين جماهيرية فتح وحماس. لكن، هل يمكن لقوة حماس أن تدفعها للقبول بأبو مازن رئيساً للوزراء؟ خرج علينا بعض الكتّاب الذين بالغوا في مثالية حركة حماس حين قالوا أنّها أرادت إنقاذ فتح من كل المشاكل سابقة الذكر، وأن أخلاقية حركة حماس دفعتها لمحاولة الإبقاء على حركة فتح كجزء من النسيج الوطني الفلسطيني. إن مثل هذا التفسير فيه عجز عن تبرير هكذا خطوة من قبل الكتّاب المقربين من حماس فلجؤوا إلى تصويره كخطوة طبيعية في ظل مثالية حماس. حقيقة الأمر، إن قبول حماس بعباس رئيساً للوزراء لا علاقة له بمثالية طرف، فقبول حماس نتج عن قوّة امتلكتها مؤخراً أمّنت لها مكاسب سياسية أكبر من منصب رئيس الوزراء.
العوامل سابقة الذكر والتي أدت إلى تقوية حماس، دفعتها إلى الزهد في منصب رئاسة الحكومة لأنّها ستربح مناصب أهم في المنظمة، والأهم من ذلك أنّها ووفقاً للمتغيرات الإقليمية قد كانت شريكة في الربح، فخرجت بشكل هادئ من سوريّا، وعادت إلى الأردن بشكل مشرّف وأصبحت جهة مرحّب بها في دولٍ كانت حصوناً يصعب اختراقها وآخرها كانت الإمارات، فيما على المستوى الدولي كان واضحاً أن أعضاء المجلس التشريعي التابعين لحماس قد استضيفوا علناً في أوروبا.
ليس هذا فحسب، بل إن موافقة حماس على أبو مازن كرئيس للوزراء جعلها تدفع فتح لإنهاء سلام فيّاض بيديها. فالتضخيم الذي رافق عمل فياض في سنوات الانقسام عن طريق فتح وإعلامها يواجه حملة مضادة من نفس الجهة، لقد روّجوا له وضخّموا إنجازاته إن وجدت، وجعلوا منه حلّاً سحريّاً لكل المشاكل الاقتصادية، واليوم تداعوا على الرجل من كل حدب وصوب حارقين كلّ ما حققه من صيت في السنوات القليلة الماضية. أبو مازن وحركة فتح تقوم بذلك بشكل ممنهج لسبب واحد، وهو إدراكها بأن رئاسة الوزراء ستتغير وحين يكون رئيس الوزراء أبو مازن فلا بد من تضخيم المشاكل الآن حتى يكون أبو مازن هو الشخص الذي بقدومه تنعم الرعيّة. لكنّ حركة فتح وللمرة الثانية تخطط للأمور بشكل غير سويّ وتتجاهل فطنة المواطن رغم بساطته، فالشارع الفلسطيني يدرك جيّداً أن فيّاض كان خيار أبو مازن دوماً وأن الأخير هو من أطلق يدي فيّاض اقتصادياً وأمنيا، وأن تكليفه لم يكن عن طريق التشريعي ذي الأغلبية الحمساوية إنما عن طريق شخص الرئيس. لذلك، فإن أي فشل لفيّاض سيكون فشلاً لفتح ولرئيس السلطة من وجهة نظر الشارع.
لكن ما علاقة كل ذلك بقطر؟ وإذا كانت المسألة متعلقة بوضع كل من فتح وحماس ودول الثورات، لماذا لم يتم التوقيع في مصر؟ الإجابة تتلخص في ما تمتلكه قطر من مقوّمات لإنجاح هذا الاتفاق، فرغم وصول فتح وحماس إلى مرحلة أصبحا فيها على استعداد للتوقيع إلا أن البيئة الحاضنة للتوقيع يجب أن تكون مناسبة. قطر لديها طموح بأن تقوم بدور ريادي في الشرق الأوسط ولذلك هي معنية أكثر من غيرها برعاية القضايا العالقة في المنطقة، فالمسألة ليست اهتماماً بالفلسطينيين وحدهم. إضافة لذلك، فإن أي اتفاق فلسطيني يعني تبعات مالية قطر أهلٌ لها، بالإضافة إلى أن قطر تعني في بعض الأحيان مجلس التعاون الخليجي. المسألة ايضاً ليست ترغيباً فقط من قبل قطر بل إن بيدها عصا الجزيرة التي خبرت سلطة رام الله أثرها في قضية وثائق عريقات.
ليس هذا فحسب، بل إن جزء من الفوائد المتحققة لحماس بخصوص علاقاتها مع بعض الدول العربية، لا يمكن أن تتحقق دون تدخل قطر، فمن الطبيعي أن تُفتح أبواب تونس ومصر أمام حماس لما حصل فيها من تصعيد لمكانة الإسلاميين، لكن أن تُفتح أبواب دول أخرى كالبحرين والكويت والإمارات أمام قيادة حماس فإن لقطر دور رئيسي في ذلك. قد يتساءل البعض؛ وما الذي ستجنيه قطر من ذلك؟ إن لقطر مصلحة بأن لا تبقى حماس بخيار وحيد هو سوريا، فحين تفتح لها آفاقاً جديدة فإنّها تسهّل عليها إدارة ظهرها للنظام السوري.
مجلة القدس المصرية
التعليقات (0)