كان يعيش في قمة الجبل لا يسمع صوتا ولا يكلم أحدا ولا يرى إنسانا إلا بعض الرعاة عن بعد او بعض الحطابين الخشنين الذين يمرون به وهو يرعى القطيع وقد لا يلقون عليه التحية . ولم يكن له أي اتصال بغير عالمه الذي يتكون من قطيع من الضأن وكلب حراسة . كان يحمل إليه طعامه كل أسبوع على دابة تصعد بصعوبة دربات الجبل يسوقها صبي المزرعة في بعض المرات ، ومرات أخرى العمة ( نورا ) ويكون ذلك عادة بعد ظهر يوم ألأحد وكان يعرف ذلك من صوت ألأجراس المعلقة في رقبة الدابة التي تحمل المئونة ، وكان الراعي ينتظر ذلك ليس من أجل الطعام فقط وإنما ليسمع إخبار ابنة صاحب المزرعة الآنسة ( سيفيت ) المعروفة بحمالها ولطفها في قريتها والقرى المحيطة فقد كان يسترق أخبارها منهم دون أن يبدو عليه أي اهتمام بها ،كان الراعي يجد السعادة في عيشه على سفوح الجبل وكان يشعر بالسعادة أكثر عندما يحدثه صبي المزرعة او العمة ( نورا ) عن إخبار القرية والمنطقة وما تم من أعراس او ولادة او مآتم او غير ذلك من مناسبات وذات يوم من أيام ألأحد تأخر وصول المئونة وعبثا أنصت ليسمع صوت أجراس الدابة ولكن دون جدوى وبعد العصر سمع صوت ألأجراس فخرج يستطلع ألأمر وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى ألآنسة (سيفيت ) هي التي تقود الدابة وتصعد بها شعاب الجبل ولما وصلت قالت إن صبي المزرعة مريض وأن العمة ( نورا ) قد ذهبت للمدينة لبعض شأنها وتأخرت هناك . وقد عقدت الدهشة لسان الراعي وهو يتأمل الفتاة الحسناء في ثياب ألأحد الجميلة فقد كان يبدو عليها أنها قادمة من حفلة رقص ، وكانت عيناه لا تنفكان تتأملان حسنها . لم يكن رآها قبلا إلا اختلاسا وها هي ألآن تقف أمامه مزدانة وبكامل حسنها وزينتها . بعد ان انزل الحمل عن الدابة راحت هي تنظر حولها في دهشة واستغراب وطلبت منه ان يريها الحظيرة وأين ينام ودخلت ورأت الفراش الذي ينام عليه وجرة الماء الذي يشرب منها وبندقيته المعلقة وعددا من فراء الخراف حول فراشه وسرها ذلك وقالت : إذن أنت تعيش هنا أيها الشاب الطيب لا شك أنك بوحدتك تشعر بالملل فما تراك تفعل وبم تفكر ؟ وكم تمنى ان يجيبها انه يفكر فيها وبحسنها إلا أن اضطرابه بلغ به حدا لم يستطع به أن يتكلم كلمة واحدة .
ساقت الحسناء الدابة وسارت في طريق عودتها وراح الراعي يتبعها بنظره وهو يسمع وقع حوافر الدابة وصوت ألأجراس يبتعد وراح يفكر في هذه اللحظات السعيدة التي مرت عليه بوجودها . واختفت الشمس خلف الجبل وراح يجمع القطيع ليدخله الحظيرة وقد ارتفع عواء الكلب وثغاء الخراف عند ذلك سمع صوت ألحسناء يناديه عند سفح الجبل فخف إليها جزعا فإذا هي قد ضلت الطريق وكذلك أخافها ارتفاع منسوب مياه الوادي بسب هطول ألأمطار على السفوح فطلب منها ان تصعد إليه فلم يكن باستطاعته ترك القطيع والذهاب معها لإرجاعها إلى القرية وكان الليل قد بدأ بالهبوط فأشعل نارا تدفأت بها وجففت ملابسها ودخل الليل وظهرت النجوم تلمع في السماء ولم تستطع الحسناء النوم فجلست بقربه غير بعيد عن النار وألقى على كتفيها فراء خروف وراح يوقد النار وساد صمت وسكن كل شيء حولهما ، إن لليل سحرا لا يعرفه إلى من ساهر النجوم ، إن عالما من السحر يستيقظ في مثل هذه ألأوقات من الوحدة والصمت ولا تعود تسمع غير نشيد الكون المنبعث من خرير المياه وحفيف أوراق الشجر وصرير صرصار الليل ، فيخيل للإنسان أن حوريات الجبل تتنقل في السفوح حرة طليقة وان صوت خرير الماء في الوادي أسفل الجبل يحكي صوت فرقة موسيقية شعبية وكلما تصورت الحسناء ذلك تشعر بخدر ورهبة فتزداد التصاقا بالراعي ثم رأت نجما ينساب ثم ينحدر متقوسا في السماء فسألته بصوت خفيض ناعم ما هذا ؟ فأجابها أنها نفس مؤمنة تدخل الفردوس ، واستمرت مشدودة تنظر إلى السماء ثم راحت تحدث نفسها همسا ما أجمل السماء وما أروع نجومها ثم سألته : هل تعرف أسماء هذه النجوم أيها الراعي ؟ فرد نعم يا سيدتي وأشار بيده إلى السماء ، هذه درب التبانة وهي أم النجوم وهذه بنات نعش وتلك المنيرة اللامعة هي نجمة الرعاة التي تنير دربهم في المساء وعند الفجر أيضا ، وهذا هناك جنوبا نجم سهيل الذي يهرب من بنات نعش وراح يشرح سبب هروبه منهن فأحس بشيء لطيف ناعم يثقل على كتفه قليلا ، لقد كان رأس الحسناء مثقلا بالنعاس وقد غفت وظلت كذلك دون حراك حتى شحبت نجوم السماء وراحت تخبو في ضوء الفجر الوليد ، لقد هزه ألاضطراب من أعماقه لم يلمسها وكأنها شيء مقدس وظل يتأمل حسنها على ضوء النار الخافت واستمرت النجوم فوقهما نحو مغيبها وكأنها قطيع من الخراف البيضاء ، في حين كان يخيل للراعي أن إحدى نجوم السماء بل أجمل نجمة وأطهرها وأكثرها لمعانا قد ضلت طريقها وأتت تستريح وتنام على كتفه .
التعليقات (0)