لم يكن ينقص المجتمع السعودي تحديداً سوى أن يستهلك أيضا سخافات المسلسلات التافهة والفارغة من كل العناصر الفنية، هذا مع رضائنا بمبدأ "الفن للفن" فلا نريد من أي عمل "فني"سوى توافر عناصره الفنية الاحترافية على الأقل من إخراج جيد وسيناريو مقبول وأحداث منطقية، بحيث لا يتم إطلاق ألف رشاش وإلقاء مئة قنبلة على البطل وتحاصره الفرق العسكرية فينجو منها جميعا .... ولم نعد نريد واقعية ممدوح عدوان "حين صفع بلادتنا بالزير سالم" معلنا أن البطل يموت ويخطئ ويدفع الثمن .. وأن الخيال الشعبي المتوارث عن الأبطال هو نوع من الكوميديا.. وأن صورة شخصية "الرجل الملهم" ما هي إلا جزء من العقل الخرافي الذي لم يتصد للوقائع والتاريخ إلا بالتخريف.
لم نعد نريد قضية، ولا تنويراً، ولا "تثويراً"، ولا إثارة، كل طموحنا الآن الإثارة و احترام البقية الباقية من العقل العاقل ولكن يأبى هذا العقل في كل حقبة سوى أن يعبر عن أنه مجرد: حاوية.!
في حقبة ماضية كانت الأفلام الهندية سيدة الشاشة، وكان هناك نوع من الهوس بهذه الأفلام، فتجتمع العائلة كل يوم جمعة لتتابع فيلم الأسبوع، وكان يعرض في يوم الراحة قصدا لأن مدة الفيلم لم تكن تنقص عن أربع ساعات، فمتابعته تحتاج فعلا ليوم عطلة وراحة! ليس هذا فحسب .. فالفيلم الهندي عادة مليء بالأحداث والمفاجآت والخوارق والمعجزات. وهذه كلها تحتاج إلى تفرغ تام حتى يتم هضمها .. فالبطل الذي يتمتع بقدرات خارقة من تجاوز الحرائق وضرب عشرات الأشخاص والطيران لبعض الوقت في الهواء وسرعة في الركض تفوق سرعة الضوء ليصل في الوقت المناسب لينقذ حبيبته من المجرم الحقير وفجأة تتدخل امرأة في المشهد لتكشف أن الرجلين شقيقان وأنها حبلت به ولم يعرف به أحد حين كانت في غابات أفريقيا قبل أن تعود إلى الهند على ظهر سفينة كبيرة ابتلعها حوت ضخم ثم ظهر الابن الضال فجأة حيث أرضعته "كلبة ماوكلي" فتى الأدغال وهكذا..
وكنت ألاحظ أن الأفلام الهندية يتخللها الكثير من الأغاني والرقصات ومحاولات التقبيل ولكنها كانت خالية من مشاهد التقبيل الفعلية..فقط مجرد محاولات فاشلة..ما كان يصيبني بصراحة بخيبة أمل. ومن شدة تضمن الفيلم الهندي للخوارق، سرى مثل أو مقولة شائعة كنا نقولها تعليقا على أية رواية أو حادثة غير منطقية، فنقول: هذا فيلم هندي.
في مقابل هذه الأفلام الخارقة، كان هناك على الضفة الأخرى سطوة للأفلام المصرية، وكانت أغلبيتها تتمحور حول مقولة ( الجوازة دي لا يمكن تتم ) وأكثر قصصها تدور حول البحث عن شقة للزواج .. وبعضها كان يتضمن بعض مشاهد العنف والشجار حيث يطير الشخص عدة أمتار لمجرد قيام "عادل إمام" بتوجيه لكمة فتسمع صوت ( دش ) من خارج المشهد والنهاية يجب أن تكون سعيدة دائما يعبر عنها البطل والبطلة بقبلة تجعل النهاية "تبلل القلب" قليلا.
بعد هذه الحقبة، تسللت إلى شاشاتنا بعض المسلسلات المكسيكية، التي تتكون من مئات الحلقات وليس لها أي محتوى فني أو اجتماعي سوى عرض مفاتن الفنانات والفنانين المشاركين في المسلسل، وهي، وإن كانت جميلة، إلا أن ذلك لا يبرر الاهتمام والمتابعة لمئات الحلقات خصوصا من قبل النساء، هل تذكرون مسلسل (كاسندرا) .. سرعان ما ضجت الأسواق بأزياء وفساتين وإكسسوارات تحمل اسمها. شعب يحاول الكثير منه أن يتمسك بالتوعية الدينية، وهناك شعب آخر يشكو انقطاع التيار الكهربائي وتقنين المياه .. والكل يريد أن يقلد كاسندرا ..!
الآن ..وما يعرض من مسلسلات تركية مدبلجة تجمع بين مساوئ كل ما ذكرنا أعلاه : الخرافية والتكرار والعبثية والملل والفراغ . ومع ذلك، الناس مهتمة ومتابعة بكل حواسها .. بل هناك أخبار عن وقوع حوادث طلاق بسبب هذه المسلسلات وأبطالها وأن هنالك أزياء بدأت تغزو السوق تحمل اسم الممثلة "لميس" ..هل يوجد شعب ديناميكي أكثر منا نحن السعوديين؟!
لم لا إنه يحق له ما لا يحق لغيره إنه شعب مرتاح وقد أنجز كل طموحاته وحل كل مشاكله وقضى على الفقر والجهل والتخلف والأمية والبيروقراطية، وأنجز كل الاستحقاقات التاريخية المفروضة عليه ويعيش في سبات ونبات..فلم لا يرفه عن نفسه قليلا .. وربما يقول قائل: لأنه لم يفعل فهو هكذا.
المجتمع السعودي والخليجي أيضاً يتابع بكل شغف المسلسلات التركية المدبلجة ومنها "سنوات الضياع"، وهنا ولا عجب أليس عنوان هذا المسلسل يصلح أيضا أن يكون عنوانا لتاريخ بعض المجتمعات والشباب والفتيات أيضاً ، لست متشائماً ولكن أعتقد أن هذا هو الواقع!
" احترامي للـحرامي .. صاحب المجد العصامي " ..!!
الوطن 10/3/2008م
التعليقات (0)