عندما استضافت ألمانيا مونديال 2006 قامت جماهير منتخب كوريا الجنوبية بتجميع القمامة وتنظيف المدرجات التي كانوا يشجعون فيها فريقهم عقب انتهاء المباراة وتركوها كما دخلوها قبل بداية اللقاء.
هذا السلوك العفوي من قبل الجماهير دفع الحكومة الألمانية آنذاك باتخاذ قرار بتعديل النظام التعليمي في البلاد ودراسة المناهج التربوية في التعليم الكوري وتطبيقها في المدارس الألمانية حتى يستطيعوا أن يخرجوا جيلا له نفس الأخلاقيات الراقية.
هذا الموقف ومعه مئات الأمثلة الأخرى نستنتج منها أن مدرجات كرة القدم ما هي إلا مرآة للسلوك العام داخل أي مجتمع ، فملعب كرة القدم عبارة عن دولة صغيرة يظهر فيها الحب والانتماء والحماس واحترام الآخر وتقبل الخسارة والكفاح من أجل الفور واحترام القانون واحترام آدمية المواطنين ، كما أنه يظهر فيه التعصب والعنصرية والعشوائية والهمجية ورفض الآخر والاستهانة بالقيم والقانون وتدمير آدمية المواطنين.
فإن كل ما يتواجد داخل مجتمع يظهر جليًا داخل مدرج ملعب كرة القدم ، فأي جماهير في أي ملعب إنما هي شريحة تعبر عن سلوكيات الوطن الذي تعيش فيه والعقلية التي ينتهجها الشعب في التعامل مع الأحداث والمواقف والآخر أيضًا.
بالتأكيد لا نستطيع أن نصف مجتمع بأكمله بالعشوائية ومجتمعًا آخر بالكمال ، فالعشوائية والعنف والعنصرية والهجمية متواجدون أيضًا في العالم المتقدم ويوجد من المتعصبين من يصل بهم الأمر إلى ما هو أبعد من السباب والانتقاص من قدر الآخر ومحاولة فرض الرأي بالقوة.
ولكن بنظرة سريعة على السلوك المنحرف في تلك البلدان فسنجد أنه أيضًا ورغم العنف الشديد إلا أن احترام القانون يكون أيضًا هو المسيطر على سلوكياتهم.
فالفيلم الأمريكي الواقعي "green street hooligans" والذي يرصد حياة بعض الشباب المشجعين لكرة القدم بتعصب في انجلترا يبين بطريقة غير مقصودة أنه أشّد المتعصبين لكرة القدم في العالم وهم الإنجليز المعروفون بـ"الهوليجانز" عندما قرروا أن يقتلون بعضهم البعض وينهون خلافاتهم اتفقوا على مكان بعيد عن الأنظار من أجل المواجهة بعيدًا عن المناطق العامة والمواطنين المسالمين الغير مطالبين بدفع ثمن تعصبهم!!
وحتى بعيد عن كرة القدم وفي أحداث أخرى لها علاقة بالسياسة والاقتصاد وغيره من أمور المجتمع يكون مسموح للمواطنين بالتعبير عن رأيهم بكل حرية ولكن عندما يتخطى الأمر حدود القانون التي "تطبق على الجميع" يكون الرد بمنتهى الحسم والحزم حتى تحافظ الدولة على سيادتها ويبقى دائمًا جميع المواطنون تحت مظلة القانون.
وإذا تركنا الغرب المتقدم وعدنا مرة أخرى إلى أرض الوطن "الممزق" وحلّلنا سلوكيات جماهير "الألتراس" في مصر والتي ظهرت في أوج همجيتها وبلطجتها خلال الأيام الماضية فسنجد أنه على الرغم من الرفض التام لتلك السلوكيات المنحرفة والتي لا تعبر سوى عن نفوس مريضة وأخلاق منعدمة ، فسنجدها أيضًا إنما تعبر بشكل واضح ومباشر عن سلوك عام لمجتمع .. شباب الألتراس هم جزء لا يتجزأ منه.
فالمجتمع المصري بات من أكثر من مجتمعات العالم عنصرية على المستوى الداخلي والخارجي أيضًا .. فإذا تابعنا مواقع التواصل الاجتماعي مثلا وراقبنا اللغة التي يتحدث بها المصريين عن أنفسهم وغيرهم فسنجد أن لديهم قناعة لا أعلم مصدرها أو أدلتها بأنهم خير شعوب الأرض وأن سلالتهم هي الأنقى ويتحدثون عن غيرهم بقمة الاستهانة والتقليل ، أما داخليا فالمجتمع أصبح في حالة تفكك لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر طويل إذ تحول المجتمع إلى مجموعة من الفرق على المستوى السياسي والاجتماعي والرياضي وكل من هذه الفرق يرى نفسه هو الحق وهو الواعي وهو المدرك أما الفرق الأخرى فما هي إلا أعداء لابد من محوها من على سطح الأرض حتى تنصلح الأحوال تبعًا للمبدأ الشهير أن "من يختلف معي فهو عدوي" وبالتأكيد فإن روابط شباب الألتراس بمختلف ميولها هي أحد تلك الفرق المتناحرة في البلاد والتي أعلنت كثيرًا ولا تزال تعلن أنها لا تنتمي لأحد سوى عقلية الألتراس.
فشباب الألتراس والذي لم يعد مقبولا لأحد الدفاع عنهم بعد الآن اكتشفوا أنهم يعيشون في دولة بدون قانون وبدون قيم أو أخلاق تحكمها أو تحكم سلوكيات أهلها فكل شيء بات حسب الهوى بدءًا من الدين ووصولا إلى الرياضة وأن كل يوم يمر يؤكد أن قانون الغاب وسياسة البقاء للأقوى هي الورقة الرابحة الآن ، وهم أقوياء ، شباب صغير ومندفع ومتحمس إلى درجة التعصب أحيانًا لم يجد من يقومه أو يستغل اندفاعه فيما يجب أن يستغل فيه ولم يجد أيضًا من يحاسب عند الخطأ فأدرك قوانين اللعبة وبدأ في استخدامها بما يوافق مصالحه أو ما يراه هو صحيحًا من وجهة نظرًا أحادية مثل الجميع.
إن معظم الخلافات والاختلافات بين جميع أطياف المجتمع الآن لم تصل بعد "حمدا لله" إلى درجة الخطورة رغم كل ما يحدث ، ولكنها شارفت على الوصول إليها مالم يتم تدارك الأمر في غاية السرعة واحتواء كل الأيديولوجيات المتضادة وإتاحة المساحة الكاملة للجميع.
فنحن لا نتحدث هنا عن مجموعة شباب قد يكون منحرفًا بعض الشيء وسيحاسب وانتهت القضية ولكن نحن على شفا مجتمع ينهار ومالم توضع الأمور في نصابها وتضافرت جميع الجهود من أجل وضع حلول فعلية وجذرية لهذه المشكلات المجتمعية العميقة فالعواقب ستكون مخيفة ووخيمة.
فحل الأزمة الجماهيرية في الوقت الحالي لابد أن يسير على محورين في نفس التوقيت وبغاية الجدية أولهما هو المحاسبة الحازمة بـ"القانون" لكل من تسبب في ترويع أو عنف أو استهان بالقوانين وسيادة الدولة على شعبها ومنشآتها دون إتخاذ أي نوع من أنواع الشفقة أو الرحمة حتى تعود الدولة لإحكام قبضتها على كل من ظن أن الحرية هي الهمجية والعشوائية وفرض أفكاره وأراؤه بالقوة.
أما المحور الثاني فهو تفعيل دور علماء الاجتماع سريعًا والإصلاح الجذري للمنظومة التعليمية والتربوية داخل المؤسسات التعليمية بكل أنواعها مع برامج التوعية والتدريب لأولياء الأمور من أجل إعادة الأخلاقيات والسلوكيات وأداب الحوار للمجتمع ككل للقضاء على العنف الشديد الذي سيطر على كل تصرفاتنا وسلوكياتنا.
التعليقات (0)