مواضيع اليوم

المستبدّون الجدد

بلال الشوبكي

2012-03-06 00:57:41

0

  المستبدّون الجدد  
  بلال الشوبكي  


    يقول الأديب الإيرلاندي جورج برنارد شو في وصفه للحرية بأنها "المسؤولية، ولهذا يخافها معظم الناس." ربما لهذا السبب طال الصمت العربي على الظلم والإستبداد، فقد عاشت الشعوب العربية ذليلة تتوارثها العائلات الحاكمة في معظم الدول. الحرية لا تعني فقط التخلّص من سالبها، بل هي ممارسة الدور الإنساني الفردي والجماعي بشكل مسؤول، وهنا قد لا يُتاح لفرد أو جماعة ما ممارسة هذا الدور دون التخلّص من فرد أو جماعة تحول دون قيامهم بهذا الدور. وإن كانت الحرية مسؤولية، فإنّها بذلك تعني أن يحقق الإنسان توازناً بين عالمه الذاتي وعالمه الموضوعي، فيختار لنفسه مكاناً في العالم الموضوعي وفق إمكانيّاته الذاتية كما يشير عبد الستار قاسم في كتابه حرية الفرد والجماعة في الإسلام.


اتفاقاً مع ذلك، فإنّه لا يمكننا الإدعاء بأن شعباً ما قد نال حريته لمجرد أنه أسقط سالبها، فما قاموا به ليس إلا خطوة على طريق الحرية ولا يعني الحرية بأي حال. إن الحرية مفهوم مطلق، وتطبيق المفهوم المطلق ليس ممكناً إلا من خلال الفعل المطلق، والفعل المطلق يستهلك كل طاقة ممكنة، أي أن امتلاك الفرد للحرية المطلقة يعني حقه في ممارسة فعل قد ينهي كل طاقة لديه وهذا يعني الموت، ولا يمكن لفرد أن يُقبل على فعل مطلق إلا في حالتين، الأولى: جهله لمكانه في العالم الموضوعي فيحدث الخلل ويفقد صلته الذاتية بعالمه المحيط فيسعى للانتحار ناهياً كل طاقة لديه؛ بمعنى أن فهمه المغلوط لذاته أو موضعه قد قاده لفهم مغلوط للحرية. أما الحالة الثانية فهي اعتقاده بأن دوره الإنساني في ظل واقعه يتطلب فعلاً حرّاً ومطلقاً قد ينهي حياته، أي أنه يصل إلى مرحلة يقتنع فيها أن موته هو الفعل الحر والمطلق الذي سيقود إلى تحقيق مهمته في الحياة، وهذه الحالة تظهر جليّة في فترات الحروب والصراعات.


هذا بالنسبة للمفهوم المطلق، أمّا نسبية الحرية أو محدوديتها فهي التي يطالب بها المعظم ويناضل من أجلها، وهي أن تؤدي دورك الإنساني وفق قواعد ومحددات لا تتجاوزها، أي أن الفرد حرٌّ ضمن دائرة معينة، إن تجاوزها ترتب عليه ما قد يسلب حريته المحدودة أيضاً. الشعوب العربية التي استيقظت مؤخراً لتطالب بحريتها المسلوبة، اعتقدت في بعض حالاتها أن الحرية إسقاط للديكتاتورية، فإن هي نجحت في ذلك فهذا يعني من وجهة نظرهم أن كل ما هو مناقض لمرحلة ما قبل سقوط الديكتاتور يعتبر أمراً بواحاً يصوّر الحرية في أبهى مراحلها، وأن كل ما هو مناقض لمرحلة ما بعد الديكتاتور يعتبر ضرباً من الخيانة وتواطؤاً مع فلول العهد الإستبدادي ولا ينطلق من أي أساس للحرية. كما أن الجهل بماهية الدور المطلوب من كل فردٍ أو جماعة لم يرتبط لدى الثوار بمفهوم الحرية، ولذا نقول: إن الثورة العربية ضد الأنظمة الفاسدة والمستبدة وإن كانت ثورة حق إلا أن هذا لا يعني أنّها ثورة حرية، فلم يعطِ القائمون على الثورة في كثير من الحالات أي مؤشرٍ على أنّهم يتمتّعون بمسؤولية تضمن لكل فرد أو جماعة دوراً عادلاً ينطلق من الإمكانيات في ظل الظروف.


إن هذا التقديم وما تليه من سطورٌ للتدليل عليه، ما هي إلا رسالة نصح للثوّار من أجل الحرية، فإن من عايش قسوة مراحل الثورة والعنف والفوضى قد لا يتسنّى له إدراك خطورة المرحلة المقبلة، ليس لعجز لديه ولا لقصور في الفهم أو سوء نيّة وإنّما لأن الغضب الذي يتملّك المعظم في الثورة قد يفقدهم كل سلطان على أنفسهم كما يقول أرسطو. لكل ذلك، فإن الكتابة نقداً للثورة أو بعض صورها لا تعني رفضاً للمبدأ وإنما حرصاً على التقويم، وهنا نورد بعض الملاحظات السريعة التي يمكن أن تخلّ بمفهوم الحرية كمسؤولية فردية وجماعية.


أولاً: المستبدّون الجُدُد
هل من المنطق أن يكون المناضل من أجل الحرية محارباً لها؟ إن ذلك ليس من المنطق في شيء لكنّه واقع الحال في الوطن العربي وخصوصاً في المناطق التي حصلت فيها الثورات، فالثوّار والأنصار والكتّاب والإعلام الذين أسقطوا رموز الإستبداد في بعض الدول قبلوا كلّ دعم جاءهم ورفضوا أي نصح أو نقد. لقد نظروا إلى أي محاولة ترشيد للسلوك على أنّها إجهاض للثورة، وعلى كل تشكيك بمصداقية بعض الداعمين الدوليين على أنه مرض نفسي عنونوه بضحايا نظرية المؤامرة، وعلى كل مطالبة بتوضيح الخطوات التالية على أنّها المحاولات اليائسة من فلول الأنظمة السابقة كي يقلّلوا من قيمة الثورة.


لقد وصل الأمر إلى أن يقوم كبار الكتّاب والمحللين إلى تخوين من يناقش جدوى الثورات، علماً أن بعض المنتقدين للثورة هم من المنتقدين أساساً لأنظمة الحكم السابقة لكن ذلك لم يشفع لهم. ليس هذا فحسب؛ بل إن الشعوب التي صمتت على الظلم والاستبداد لعقود متتالية لم تغفر لأشخاص وجهات أخرى صمتها واتهمتها بالخيانة والمتاجرة بالدماء. لقد تحوّل الثوّار والإعلام الداعم لهم إلى ما يمكن تسميتهم بالمستبدّون الجُدُد، ولا يمكن الحكم عليهم بالنوايا وصدق المشاعر وإنما بمدى مسؤوليتهم وانضباط سلوكهم، وهنا لا بد من التأكيد على أن الثورة حوّلت الجيل الصامت الخانع إلى جيل ثائر أخذته الحماسة فغدا مغروراً لا يقبل النقد والنصح، ومن ذلك نستثني ثلّة قليلة حكّمت عقلها فلفظت مظاهر الاستبداد الجديدة.


ثانيا: الموقف من الدعم الخارجي
مثيرٌ جدّاً للاهتمام ومحفزٌ قوي على الدراسة ذلك التعامل من قبل الثوار مع قوى دولية متعددة، فأحد أهم الأسباب التي شحنت الثوار كي يُسقطوا الأنظمة الاستبدادية هو تبعية تلك الأنظمة لقوى غربية وخصوصاً التبعية الواضحة للإدارة الأمريكية، بل إنّ الشريحة الأوسع من الثوّار هم ممن يؤمنون بأن الغرب وظّف القيادات المطاح بها كي تعبث بمقدّرات دولهم وتنهب خيراتها، ومع ذلك تجد أن هؤلاء الثوار باتوا يتلقون دعماً كاملاً من تلك الجهات الأجنبية، فالثوار قاموا من جهة بمحاربة التبعية لأميركا ومن جهة أخرى قاموا بتجديدها بأشكال مختلفة، قد يقول أحدهم: إن هذه الإستعانة بالغرب مشروعة ما دامت في خدمة قضية الثورة، هذا صحيح إن كانت كذلك، لكن من الواضح أنّها دعم مفروض للإبقاء على الوجود في تلك البلدان وليست استعانة مختارة.


ثالثاً: تجّار الثورة
كما ذكرنا سابقاً فإن معظم الثوار وأنصارهم قد رفضوا أي رأيٍ مخالف لهم حتى من أولئك الذين كانوا يناضلون بكتاباتهم ضد الاستبداد حين كانت الشعوب صامتة. المثير للاشمئزاز أن يتقبّل الثوار شخصيات إعلامية وساسة ومحللين كداعمين لهم فيما كانت حروفهم قبل أشهر معدودة مساميراً تزيد كراسي الحكّام ثباتاً. ليس ممنوعاً أن يغيّر الفرد من رأيه ويعيد تشكيل قناعاته، لكنّ ذلك لو حدث سيكون بشكل تدريجي مقنع ووفق أسس فكرية وجدالات علمية، أمّا ان يتحوّل الفرد بين ليلة وضحاها ودون أي مقدّمات من خادم في بلاط الملك والرئيس إلى حارس الثورة ومكتسباتها فإن في ذلك تملّقاً ونفاقاً وتجارة بعقول الناس. يا ثوّار الوطن العربي، إنّ الحكومات والرؤسات ما هم إلا جزء من منظومة متكاملة وجب التعامل مع كل أجزائها بالإطاحة أو التهميش أو التقويم. لقد أطحتم برأس النظام لكنّكم لم تحاولوا تهميش أو تقويم تلك الأبواق التي طالما عملت جنوداً مخلصة لذلك الرأس. ألا ترون في الأمر غرابة أن تبقى نفس الرموز الإعلامية هي المسيطرة في كلا العهدين؟

 


رابعاً: الصمت على الفتنة
من أخطر ما كانت تقوم به الأنظمة السابقة في دول الثورات أنّها خلقت بؤرَ فتنةٍ طائفية داخل المجتمع وخصوصاً في مصر، فقد وصل الحد إلى القيام بعمليات اعتداء ممنهجة على الأقباط واتهام جهات إسلامية، والهدف هو زعزعة الاستقرار الداخلي بحيث يبقى المجتمع مشغولاً في قضايا ثانوية ولا يلتفت إلى قضايا سياسية وسيادية وتنموية قد يعني التفكير بها الإضرار باستقرار الحكم. الأمر لم يقتصر فقط على الفتنة على الصعيد الداخلي، بل تعدّاه ليحاول النظام خلق مشاعر الكره بين شعوب المنطقة وخير مثال على ذلك الأزمة المصرية الجزائرية بعد لقائهم في مبارة كرة قدم، علماً أن الرموز الإعلامية والفنّية التي سخّرها النظام لتغذية هذه الفتنة هي ذاتها التي باتت تتحدث باسم الثورة.


بناءً على ذلك، فإن الثورة لا بد لها أن تستهدف بؤر الفتنة وأن لا تقوم بتغذية هذه الآفة التي صنعتها الأنظمة السابقة. الأمر المربك في الحالة المصرية والليبية أن الثورة لم تنجح في وأد الانقسام بل إنّها كانت فرصة للمندسين وأصحاب الأجندة الخارجية كي يدفعوا بالفتنة لتتجلّى بشكل أخطر وأكثر حدة. لقد نجح النظام المصري سابقاً في خلق دائرة فتنة متحكّم بها وهي دائرة العلاقة بين الأقباط والمسلمين، أمّا في عهد الثورة فقد بقيت الفتنة حاضرة لكن دون قدرة من أي جهة على التحكّم بها، وقد أدخلوا إلى المجتمع فتنة جديدة على أسس جغرافية اتّضحت في مجرزة بورسعيد. في هذا المقام نقول: إن حالة عدم الاستقرار التي خلقتها الثورة ليست مبرراً لحوادث العنف بين الطوائف أو المحافظات أو الأحزاب السياسية، فالمسؤولية التي تترتب على نيل الحرية تتطلب حزماً وسرعة في احتواء الأوضاع.

 

موقع الحملة العالمية لمقاومة العدوان




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات