يؤكّد الامام محمد عبده رفضَهُ قيام سلطة دينيّة في المجتمع الإسلاميّ بأيّ صورةٍ كانت، فهو يقول:" ليس في الإسلام سلطة دينيّة،
سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشرّ، وهي سلطة خوّلها الله لأدنى المسلمين، يقرع بها أنف أعلاهم،
كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها مَن أدناهم "، بل انه يري أنّ إحدى غايات الإسلام الرئيسة هي الحرب ضدّ السلطة الدينيّة، واجتثاثها
من جذورها، ويقول عن الأصل الخامس للإسلام:" أصلٌ من أصولِ الإسلام قلب السلطة الدينيّة والإتيانِ عليها من أساسها، هَدَمَ الإسلامُ
بناء تلك السلطة ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهلهِ اسمٌ ولا رسم، لم يدع الإسلام لأحدٍ بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة
أحد ولا سيطرةٍ على إيمانه "، ويتابع الإمامُ حديثه بالقول:" لكل مُسلمٍ أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسولهِ من كلامِ رسولهِ، بدون
توسيط أحد من سلفٍ ولا خلف، وإنّما يجب عليه قبل ذلك أن يُحصّل من وسائله ممّا يُؤهّلهُ للفهم ".
ويسعى الإمام محمّد عبده إلى تقديم نماذج من التاريخ الإسلاميّ تؤكّد رؤيتهُ العقلانيّة إلى الإسلام،
فهو يصف الفتوحات الإسلاميّة بأنّها أعمال سياسيّة وحربيّة تتعلّق بضرورات المُلك ومقتضيات السياسة،
وبالتالي فهي ليست حروباً " دينيّة "، وإنّما قام المسلمون بهذه الفتوحات:" دفاعاً عن أنفسهم وكفاً للعدوان عنهم،
ثمّ كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة المُلك "، ثمّ يُطبّق ذات الرؤية على الحروب التي جرت بين الفرق الإسلاميّة المتناحرة،
مؤكِّداً أنّها لم تكن حروب " عقيدة دينيّة " بل هي حروبٌ سياسيّةٌ بامتياز، إذ لم " يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصُروا
عقيدة، ولكن لأجل أن يغيّروا شكل حكومة ".
من زاوية أُخرى، أسهم الإمام محمّد عبده في بلورة رؤى من التعدديّة والمواطنة في أواخر القرن التاسع عشر،
ما نزال نرجو تطبيق بعضها في بدايات الألفية الثالثة، فها هو ذا يقول في المادة الخامسة من برنامج
الحزب الوطنيّ المصريّ الذي صاغهُ الإمام في عام 1888م مع مجموعة من شيوخ الجامع الأزهر:
" الحزب الوطنيّ حزبٌ سياسيّ لا دينيّ، فإنّهُ مؤلّفٌ من رجالٍ مختلفي العقيدة والمذهب،
وكلّ مَن يحرث أرض مصر، ويتكلّم لغتها مُنضمٌّ إليه، لأنّه لا ينظر لاختلاف المعتقدات،
ويعلم أنّ الجميع أُخوان، وأنّ حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مُسلّمٌ به عند
أخصِّ مشايخ الأزهر الذين يعضّدونَ هذا الحزب ويعتقدون أنّ الشريعة المحمديّة
الحقّة تنهى عن البغضاء، وتعتبر الناس في المعاملة سواء .
التعليقات (0)