مواضيع اليوم

أيام معلم :-4في البدء كانت المعاناة

يوسف الحلوي

2012-10-15 00:28:12

0

ليس من السهل أن تكون معلما، هنالك الخيبة والألم، هنالك المعاناة والتهميش، وإبحار وسط لجج الزمن المتلاطمة، دون أدنى أمل في الرسو بأمان بمرفأ الأحلام التي يخدع المرء نفسه بها ردحا من سنين الطيش والاندفاع...
حملت إحساسي بكوني أصبحت شخصا مسؤولا ذا أهمية بحجم الأمانة الملقاة على عاتقي، واتجهت صوب نيابة التعليم لأتعرف على المدرسة التي سأعين بها، حتما الحظوظ لا تتساوى... هذا قريب فلان، وتلك أوصى بها أحدهم خيرا... ولم يذكرني أحد بخير لدى المسؤولين، فكان نصيبي المنفى، أحدهم قال لي وهو يسمع اسم المدرسة التي عينت بها، هناك بإمكانك أن تعيش حياة الزهاد، فلا تبتئس الشر نسبي والخير كذلك، لم تطربني نكتته، ولحماسي الغبي رحت أردد لازمة الأمانة والمسؤولية بيني وبين نفسي، كفارس مقبل على المعركة بلا خوف ولا وجل، عدت إلى منزلي، حزمت حقائبي وأقبلت على الحياة الجديدة مفعما بالنشاط...
هييييه ...افتحي ذراعيك يا "أفراس" هذا فتاك العاشق قادم... ودعت أيام اللهو والعبث، منذ اليوم أصبحت مربيا للأجيال، سأكد وأجتهد، سيتخرج على يدي الطبيب والمهندس والأستاذ والصحافي... وغرقت في أحلام اليقظة، ضربت موعدا مع زميليّ في العمل "م" و "س" لننطلق معا نحو عالمنا الجديد، رحنا نسأل بعد وصولنا إلى مرنيسة التي تقع على بعد ستين كيلومترا في اتجاه الشرق من مدينة تاونات، عن الطريق المؤدية إلى "أفراس"، فوجئنا بأن العديد ممن نسألهم لم يسمعوا قط بهذا الدوار، وأخيرا أشار علينا أحدهم بسلوك طريق زراعي يبتدأ حيث تنتهي حدود جماعة مرنيسة الحضرية وينتهي حيث ينتهي العالم على حد تعبير"س" ...وبدأت رحلة العذاب، الطريق جبلي وعر، والأمتعة ثقيلة جدا، كنا نتوقف بين الفينة والأخرى لنسب ونشتم كالمجانين ثم نواصل المسير، أين أنت يا بياجي؟ ويا واطسون؟ أين أنت يا مكارنكو؟ اللعنة عليكم جميعا وعلى نظرياتكم التي سقتنا كأس العذاب حتى ثمالته، لم يتحدث أحد منكم عن وسيلة تقلنا نحو المدرسة قبل الحديث عن التربية.
بعد مسيرة ساعتين أو يزيد على الأقدام وصلنا إلى شاطئ الخيبة، تحلق الأطفال حولنا وأحدثوا ضجة بتعليقاتهم على هيئتنا... انظروا الى المعلمين الجدد، هاقد وصلوا... صب "س" جام غضبه عليهم، أيها الكلاب، هذا ما لديكم؟ وصلنا...!! ألا تعرفون كم قطعنا من الطريق؟ ألقينا بصخرة"سيزيف" عن ظهورنا داخل قسم خرب، واستلقينا على الأمتعة لنأخذ قسطا من الراحة، فراح" م" يغني بصوت شجي... يا مي لاتبكيش هذاهو مكتابي...، لمحت جرذا ضخما يغازل مغارة في السقف فقمت بفزع ورحت أستظهر ما قرأته عن خطورة الجرذان وعن نقلها لأمراض خطيرة و... قاطعني "ج"، أحد المعلمين القدامى، الذي اقتحم القسم ليرحب بنا، إنها لا تؤذي المعلمين على كل حال، ستتعايش معها مع مرور الوقت، ثم ابتسم بخبث وأردف، ومع أصناف أخرى من الكائنات لم تخطر على بالك من قبل، بدا كحكيم بيننا وهو يلقننا ما يجب علينا فعله لنعيش بهذا المكان النائي... لنجلب الماء علينا قطع مسافة تزيد عن ساعة يوميا، وجدنا صعوبة كبيرة في التأقلم مع الحياة الجديدة، الكهرباء لا وجود له والخبز كذلك، "س" تكيف بسرعة مع هذه التغيرات اشترى الكثير من القنينات المائية... كان يسلمها للأطفال ليجلبوا الماء من العين، أصبح واجب جلب الماء أهم من حل تمارين الرياضيات، سمعته يوبخ بعض التلاميذ لأنهم نسوا إحضار الخبز أو تناسوا ذلك على الأرجح، إنني لا أضيع أحدا، كل الذين يلتزمون بواجباتهم أسجل أسماءهم، سيحصلون على نقط جيدة، أما أنت أيها الحمار وذاك الجحش الجالس بجوارك فانتظرا السنة المقبلة لتنجحا... ذات ليلة نفذ طعامنا، فرحنا نلتهم بقايا الخبز الفاسد التي علتها الفطريات فاستحال لونها أخضرا، ألقينا بها في وقت سابق، لكنها مع الجوع بدت لذيذة... توالت المشاكل بعدها دورة المياه معطلة، ليس هناك مجاري للتصريف، كان علينا فعل شيء،قلت لصديقيّ بلهجة ساخرة بعد معاينة المشكل... علينا إجراء عملية قيصرية فكونا على استعداد، تطوعت لإدخال يدي في ثقب المرحاض لجذب العوالق التي منعت تدفق الماء نحو الأسفل، وبحنكة الممرضين المتمرسين أحضر كل من "س" و "م" أكياسا بلاستيكية لفا بها يدي ووضعا منديلا على أنفي وفمي، وسلماني عودا كمشرط الجراح، بدأت العملية... كنت ألقي بالقاذورات في أحد الأكياس متأففا، الصبر طيب... لكن هذه الروائح غير طيبة بتاتا، بعد برهة تبادلنا نظرات ذات مغزى وهتفنا بسرور...نجحت العملية... ألقينا بالفضلات بعيدا وعدنا لنحتفل بإنجازنا الباهر، فقمنا بتهييئ شاي بالنعناع رحنا نحتسيه بنشوة بالغة قطعها علينا صوت نقرات على الباب الخارجي للبيت، الذي تعارفنا على تسميته بالفيلا، دخل "ج" وحين استقر بمقعده قدمت له الشاي مرحبا، فتساءل عما إذا كنت قد أحضرت النعناع من الحوض المجاور للبيت قلت: بلى، فاعتذر عن تناول الشاي، نظرت إليه مستغربا: ماذا هناك؟ قال وهو يغالب ضحكته بصعوبة: إن الكلاب تتبول على هذا الحوض باستمرار لذلك فالنعناع فيه من النوع الممتاز... آآ ...آآه، إليك عني يا أفراس فقد استحال العشق بغضا، وعلى القلب تمطى ألف جرح منك، ومن العين تدلت ألف دمعة.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !