أنا أمشي... أنا أفكر.

                                        أنا أمشي... أنا أفكر.

    كان أرسطو مشهورا بأسلوب فريد في تعليم الفلسفة لتلامذته. فقد كان يمشي في ساحة الأغورا وهو يشرح الفلسفة والمنطق لطلاب الحكمة، حيث عرفت الأرسطية ب" مدرسة المشائين " نسبة الى المنهج الأرسطي في تلقين الفلسفة والتعبير عن أفكاره. ويبدو أن هذا الأسلوب لم يكن مسا من الجنون كما قد يتبادر الى أذهان البعض... واليوم تثبت آخر الدراسات العلمية أن أرسطو كان محقا جدا في طريقته تلك.
    الدراسة الجديدة قامت بها " سابين شيفر" من " معهد ماكس بلانك " في برلين بألمانيا. حيث أجرت فحصا للذاكرة على مجموعة من الأطفال والراشدين الذين خضعوا للاختبار وهم جالسين أمام مكتب، وبعد ذلك قامت بنفس التجربة وهذه المرة كان المفحوصون يجيبون عن أسئلة الاختبار وهم يسيرون بسرعة من اختيارهم. وتطلب التمرين الاستماع الى سلسلة من الأرقام الصادرة من مكبر صوت، وبعد ذلك يسأل المفحوص عما اذا ورد في السلسلة رقم معين ( 5 مثلا)، ثم يتذكر آخر أربعة أرقام سبقت الرقم الوارد في السؤال. وهكذا تستمر العملية الى أن ينتهي الاختبار... وقد أسفرت النتائج عن ارتكاب الممتحنين أخطاء أقل وهم يجيبون عن الاختبار سيرا. وكانت نسبة الأخطاء التي ارتكبها الممتحنون من الأطفال في سن التاسعة، وهم يمشون، أقل بنسبة 40 بالمئة عن الأخطاء التي وقعوا فيها خلال اجابتهم جلوسا. وتنطبق النتائج ذاتها على الراشدين ولكن بنسب أقل عما هو الحال عند الأطفال.
    تفسر الدراسات السيكولوجية هذه الظاهرة بكون المشي يجعل الدماغ حذرا ومنتبها، ويضعه في درجة عالية من التركيز والاستعداد. وهذا يعني أن المشي يبقي الدماغ متيقظا على عكس الجلوس الذي يبقي الخلايا الدماغية مسترخية وساكنة... و قبل الدراسة العلمية المذكورة، اختلف المفكرون في الموضوع. وهكذا كان الفيلسوف الألماني " نيتشه " يقول : " الأفكار الصالحة تأتينا عندما نكون في حالة مشي "... بينما كان " فلوبير " يرى على عكس ذلك تماما أنه: " لا يمكن أن نفكر أو نكتب الا عندما نجلس. " ويبدو بناء على نتائج الدراسة العلمية أن السجال حول هذه الظاهرة قد انتهى أخيرا لمصلحة " نيتشه " في انتظار مزيد من المفاجآت العلمية مستقبلا...
    لقد فطن أرسطو منذ وقت بعيد الى هذه العلاقة بين المشي و اليقظة الفكرية. لذلك لا بد أن تجربته التعليمية كانت مندرجة في السياق الذي أكدته دراسة " سابين شيفر ". وهي دعوة لنجرب التفكير مشيا، مع أننا في مجتمعاتنا لا نفكر بأي حال من الأحوال.
                                                  محمد مغوتي. 09/03/2010.