-يوميات الثورة-
اليمن.. من حرية التعبير إلى سياسات التدمير
ليس في وسع أحد أن ينكر على الشعب حقوقاً كفلها الدستور في إطار الضمانات التي تتيح للناس حرية التعبير عن آرائهم، وتنظيم الأطر السياسية والنقابية التي يريدون تأسيسها أو الانخراط فيما هو قائم منها..
وكذلك فإن أحد لا يجرؤ على نفي الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع بعد تفشي الظواهر السلبية من منافقة السلطة بحثاً عن إغراءاتها إلى التصادم معها دون التفكير في مصلحة الوطن من انحراف طرق الحوار المسئول والعزوف عن المنطق بحيث غدا الحوار ثأراً، وغلبت الضغائن على ما عداها من القواسم المشتركة التي لا يمكن تجاوزها ما دمنا على ظهر سفينة واحدة..
والديمقراطية التي بدأنا نستنشق عبيرها بصعوبة بالغة نتيجة للوشائج الحميمة بين مجمل النقائض التي لا تدع ((البعض)) يقبل بخيارات العصر دون اقترانها بموروث ما قبل الوحدة من ديكتاتورية وتآمر وقمع.. هذه الديمقراطية لا تلغي دور العقل بل تستند إليه وتتشكل من خلاله..
حين لا تتوفر شروط الوعي عند ممارسة الحقوق الدستورية والقانونية، حينذاك تتساوى ديمقراطية الغوغاء وديكتاتورية السلطة..
ولعل الذي شهدته الساحة اليمنية منذ يوم الأربعاء 9 ديسمبر 92م، من مظاهرات تخللتها بعض الاتجاهات التخريبية وإذكاء النعرات الطائفية إضافة إلى افتقاد الحكومة سبل الحكمة في تعاملها مع الشارع وخروجها عن القاعدة السياسية بضبط النفس ومواجهتها العنف بمثله.. كل ذلك لا يمت للديمقراطية بصلة وإنما يضعنا في مواجهة مستقبل مجهول يقود أبناء اليمن نحو محصلة مريرة لإنهيار مجمل التطلعات والآمال التي انتصبت أمام الجماهير منذ 22 مايو 90م وإعلان الجمهورية اليمنية.
لقد أسيء استخدام السلطة العامة على كل المستويات وتراجعت الحكومة عن انتهاج سياسة الإصلاح المالي والإداري، ووضعت هموم المجتمع موضوع تحرش دائم بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام، واحتلت سياسة الإحراج المتبادل، وإلقاء كل منهما مسئولية ما يجري على الآخر..
وفي خضم الشكوك التي تزدهر عبر صحافتيهما أمكن استخدام معاناة الناس ضمن المناورات التكتيكية بغية تحقيق مصالح حزبية ضيقة لا علاقة لها في الأساس بتردي الوضع المعيشي الذي يحكم طوقه على شتى مناحي الحياة..
إن الديمقراطية منظومة متكاملة من العلاقات السوية لشرائح المجتمع وهيئات السلطة، وهي إلى كونها طريقة حضارية لتسيير وإدارة شئون الشعب، ووسيلة لتبادل السلطة سلمياً وقاعدة للتباري الخير في البرامج والخطط وأرضية للاختلاف والائتلاف ونظرة عميقة في مشكلات الحياة وظواهر الكون ورؤية للتغير.. فإنها بأهم من هذا وذاك عملية معرفية قائمة على وعي الحقوق والواجبات في تنظيم العلاقة بين الحاكم والمعارضة من جانب، وبينهما معاً وأفراد المجتمع من جهة أخرى..
والتعبير عن السخط والتذمر حيال سياسات الحكومة لابد أن يستمد قوته وشرعيته وتأثيره من خلال الالتزام بالممارسة السلمية..
وإذا كانت المظاهرات التي شملت محافظات، تعز، الحديدة، ذمار، عدن، أمانة العاصمة قد انطلقت في سبيل تحقيق أهداف مطلبية محددة كالغلاء وتدهور العملة واتساع رقعة البطالة أو لتوجهات سياسية كإسقاط الحكومة أو التنديد بواحد من رموز القيادة فما الذي يبرر لهذه المظاهرات أو للجهات المدبرة لها القيام بأعمال الشغب وحرق سيارات المواطنين واقتحام المتاجر والاعتداء على حانوت صغير يقدم للناس الساندويتش وأكواب الشاي..
وهل إلقاء الحجارة على النوافذ تندرج ضمن أخلاقيات الوعي الوطني بأسباب وأساليب الممارسة الديمقراطية؟
وما الذي يمكن القول به تجاه أشخاص يشاركون في مسيرة احتجاج ولديهم معدات مبتكرة لإشعال الحرائق ويضعون على خواصرهم المسدسات والخناجر أكان ذلك عملاً وطنياً.. أو تظاهرة ديمقراطية؟ أم هو التغرير المبيت بالبسطاء من الناس ودفعهم لمواجهة الشرطة واستغفالهم كضحايا.
وما الذي تعنيه المناطقية شعاراً وهتافاً إذا لم يكن ثمة مخطط لضرب الوحدة الوطنية وإدخال البلاد في أتون الصراعات الدموية الفادحة..
إن الذين حرفوا المظاهرات عن تعبيرها السلمي ورتبوا لإراقة الدماء وهتك الأعراض والسطو على الممتلكات الخاصة، هم في الأساس حزبيون ترقى صلتهم المتسببة في المعاناة العامة إلى درجة الشراكة في المسئولية إن لم يكونوا في الطليعة؟
وإذا ما انتابتنا لحظة تأمل فيما حدث وما أسفرت عنه أعمال العنف والغوغاء فلن نجد غير مكسب واحد أنجز بفاعلية واقتدار إنه انتقال المطالب العادلة بصدد الغلاء والفساد إلى قائمة القضايا الثنائية، وتكريس مجمل جهود القيادة واهتمامات الشعب في توزع القلق وإحصاء الخسائر والتفرغ للإشاعات وتفحص الوجوه المتشحة بالحزن..
إن على الشرفاء في هذا الوطن سواءً كانوا في الحكم أم المعارضة أن يقدموا مبادراتهم السريعة بوضع المخارج والحلول وأن يضعوا رهان الأنانية والتعصب جانباً ليخوضوا المعترك الوطني النبيل في الإصلاح والنهوض بأعباء الحاضر ورسم صورة وحدودية حضارية للمستقبل..
لقد طرقت أبواب عديدة للعقل فلم يستجب لها.. وأوصدت منافذ كثيرة في وجه المنطق السليم ولقد فتحت كل المداخل للجنون، والجنون الذي يمول من عرق الشعب وعذاباته ومهجة شقائه وغربته في الخارج واغترابه من الداخل..
إنه ليعز علينا أن يرتفع أصبع الاتهام للإشارة إلى مضغة السوء وموضع الاتهام عند تحديد المسئولية حيال أعمال العنف وإضفاء التخلف والبداوة على شخصية المواطن اليمني.. وأن نجد بيننا من يحترف الإساءة لسمعة الشعب وتحريضه ضد نفسه وتلك أساليب لا تلبث غير قليل وتجعلنا على مشارف وعي حقيقي لطبيعة الدور الذي يراد منه استغفال الجماهير وتزوير إرادتها السلمية في التغيير.
وإذا كان بمقدورنا التماس العذر لأي متسرع يبتغي الوصول إلى السلطة على نحو مغاير للمنحى الديمقراطي نظراً لمغريات الحكم وبهارجه.. فما الذي نستطيع إعماله –تفسيراً- وتبريراً- لسلوك طرف قوي من أطراف الحكم حين يندفع بتهور للاستيلاء على موقع ومهام وصوت المعارضة.. وما الذي يغري الحاكم في خصومه؟
ولماذا حين تهم المعارضة بالشكوى يسبقها الذين على سدة الحكم بذرف الدموع والتباكي على مصلحة الوطن؟!.. وكأنما القيادة تشتكي من العشب أمام سلطة غير منظورة.
إن الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي كلاهما يمتلك المال والقوة والقرار، وبيدهما مقاليد السلطة كاملة، ومن أولى مهامها، احترام مشاعر اليمنيين في الكف عن سياسة الاستهبال والاستخفاف بوعي الجماهير..
وإذا أدرك أحدهما عجزه عن أداء دوره في إيجاد المخارج والحلول للمشكلات القائمة فإن الأقرب إلى ملامسة الضمير الوطني لا يعدو الإعلان عن ذلك العجز والإنسحاب من السلطة واحتلال موقع آخر ضمن المعارضة.. أما الجمع بين النقيضين فمسألة في غاية القبح، وقديماً قالت العرب حكمتها الشهيرة (من ركب على فرسين شق دبره).
• بيت من الشعر
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
الصحيفة: الثورة العدد:
التاريخ: 18/12/1992م
التعليقات (0)