-يوميات الثورة-
هيبة الدولة
عندما تتحول الدولة إلى كتل متصارعة، وتسيطر عليها الدسائس، وتجرها التناقضات، ومتى أمكن منها الضعف إلى درجة إجبارها على التنازل عن بعض وظائفها وحين تسقط هيبة الدولة.. عندها يصبح الحديث عن الديمقراطية ضرباً من الهذيان الذي لا طائل منه..
إن للدولة كياناً تكاملياً منظماً تتفاعل ضمنه مؤسسات مختلفة ذات صلاحيات محددة لا يبغي أحدها على الآخر ولا يحل مكانه.. وهي بذلك أشبه ما يكون بجسد الإنسان (إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)..
وحيث أن الدولة مسئولة عن رعاية الشعب، منظمة لمجالات تطوره لذلك يتمحور الخلاف والتباين بين قوى المجتمع على دعم إيجابياتها ومراقبة الحالات السلبية في مجرى ممارساتها، ويهتم الناس بأمرها لعلمهم بأن فسادها يلحق ضراراً فادحاً بمصالحهم، ولدرايتهم بأنها إذا فقدت هيبتها حلت الفوضى، وانهارت دعائم الأمن والاستقرار..
وإنما ينتهي الناس إلى اختيار المعارضة لتقويم المعوج وإحلال البدائل وليس لإعاقة الدولة بنازع من نقمة أو طلب ثأر أو رغبة في منصب لذاته..
ولقد حرصت المجتمعات الإنسانية على أن تكون علاقاتها بأولي الأمر قائمة على عقود مبرمة لا يملك الحاكم قدرة على تجاوزها ولا يحق لفئة أو شريحة الخروج عنها، لأنها تستمد شرعيتها من إجماع الناس عليها..
وإذا اهتزت ثقة الإنسان بدولته وارتاب الحاكم من وفاء شعبه يصير من المتعذر نفاذ القوانين وأسند الأمر لغير أهله واضطربت قيم الحق والعدل ومضت حياة الناس على غير هدى، وذهب كل فرد في المجتمع يبحث لنفسه عن بديل تدخره الأنساب والأحساب..
وبتعدد مشارب البحث واختلاف مصادر القوة تتمزق سيادة الوطن وتشل إرادة الأمة..
لقد نشأت في بلادنا كيانات معيقة لحركة التطور ونشطت اتجاهات تقليدية قديمة تنازع الدولة قوتها وتفرض هيبتها على حساب المكانة المشروعة لنظام الحكم.. وبدا واضحاً أن للصراع داخل المؤسسات السياسية وللتنابذ بين الذين حفظ التاريخ لهم شرف المبادرة بتحقيق الوحدة اليمنية أثره في تغذية هذه الظواهر، ويد طولى في تشجيع ومباركة ودعم الاتجاهات الفوضوية التي تريق آخر قطرة تندى في جبين دولة النظام والقانون..
حتى العرف القبلي –كحد أدنى في تقاليد القبيلة- جرى الانقضاض عليه، وتحولت عاصمة دولة الوحدة وكثير من المدن الرئيسية إلى مسرح للجريمة ومقر للعلعلة الرصاص وقتل اليمني أخاه دون وازع من دين أو زاجر من قانون..
لقد كان أسوأ الأيام التي قضيتها في صنعاء ذلك الذي مر مطلع الأسبوع قبل الماضي إذ عدت إلى أطفالي متسللاً عبر الشوارع الخلفية واستوقفتني امرأة نائحة تسأل عن ابنها وكأنما سلمتني إياه وتريد مني رده إليها..
وأدركتني الغصة وأنا أتطلع إلى ابنتي وقد اكفهر وجهها هلعاً، وشعرت بمرارة الألم وأنا لا أقوى على مغادرة جدران البيت.. فالقبيلة لم تحسم معركتها بعد، والرصاص ما يزال منهمراً..! وحين تذكرت المليشيات الحزبية التي تصل نسبة استعدادها القتالي درجة أعلى مما لدى بعض الوحدات العسكرية، ساعتئذ هان خطر القبيلة وخلدت إلى حسرة مديدة لوطن يقتله أبناؤه ودولة يخنقها القائمون على حراستها..
وإنما تنقرض الحضارات وتندثر الأمم متى تخاذلت الدولة عن أداء مسئولياتها ونال من هيبتها الغوغاء وشجع على انتهاك القوانين، وطبعت نفسها على المداراة والممالاة حيال العبث بحق الشعب.. (دمه وماله وعرضه)..
ولسنا مع أن تكون الدولة هدفاً لتراشق الصحف ومشجباً للعاجزين عن البناء، ومجالاً للخطاب السياسي المسف ولكننا نريد من كل حسب قدرته لدعم كل خطوة شجاعة ترمي إلى بناء دولة قوية بمؤسساتها، عظيمة بأهدافها، شرعية في منطلقاتها ورموزها، قادرة على حماية مصالح الشعب.. وتعرف على وجه الدقة كيف تحدد خياراتها، وتعرف عن وعي وإلمام ماذا تريد، وكيف تنتقي أفضل الوسائل للوصول إلى أرقى النتائج والغايات..
ومن المكابرة أن تنكر مسئولياتها عن ما تمر به اليمن من أزمات، ومالحق بالدولة من ضرر فليس فينا إلا وطمع بأكثر مما له من حقوق وقصر فيما عليه من واجبات، ويخطئ الذين يعتقدون أن شخصاً واحداً أو اثنين هما سبب ما يحدث.. فالدولة لا تعرف بمجموعة من القيادات العليا ولكنها تعبير أكثر شمولية من أي نظرة سطحية أو توظيف أناني مكايد.. إنها كل هذا الحراك الاجتماعي الذي إما وظل يدور حول نفسه مرتكزاً على الفراغ القاتل أو انتقل إلى مرحلة الإنجاز وفقاً لرؤية محددة المعالم وبنهج مدروس، ومهام زمنية واضحة يستتبعها التقويم والمراقبة.. إثابة المحسن ومعاقبة المقصر والمسيء.. ولن تكون المعالجة بالاعتماد على إثراء المكتبة التشريعية بمزيد من القوانين ولا بإصدار قرارات سياسية متحمسة، فليس أقسى ولا أخطر على الدولة والمجتمع من قوانين وقرارات تصدر لمجرد الترف وتعلن ثم لا تحترم ولا يعمل بها وكأنما هدفنا من إصدارها ترويض أبناء الشعب على الاستخفاف بالقوانين والنظم وتطبيعه على الاستهتار بقرارات الدولة بل والدولة ذاتها..
ونحن إلى كل هذا، إنما نسعى –بدافع على قدر من التجرد والنزاهة- نحو وفاق وطني ليس بين أحزاب في السلطة وأخرى معارضة ولكن بين مشاريع ورؤى تجمع بين الواقعية المدروسة والتطلعات الممكنة.. وتجعل الوطن أولاً والسياسة لاحقاً..
فبهذا الوفاق المتجاوز لمرجعية الماضي الكريه وأمراض الحاضر، بذلك يمكننا خوض تجربة جادة لبناء دولة ديمقراطية حديثة يفرض القانون هيبتها، وتمنح الناس دفء الاحساس بلذة المساواة وقيمة العطاء وروعة المبادرة..
ومن أجل ذلك تنتعش أماني الوطن الذي ما برح يلملم أحلامه المبعثرة وامكاناته المبددة ويشد على أيدي الخيرين والشرفاء من أبنائه..
إن من واجبنا أن نبدأ وأنه ليتعذر النهوض بالوطن في غياب الدولة الفتية المقتدرة على الانتصار لقضايا العدل والحرية والسلام..
شاهد من الشعر:
ومن البلية جهل من لا يرعوي
عن غيه وخطاب من لا يفهم
الصحيفة: الثورة العدد:
التاريخ: 29/1/1993م
التعليقات (0)