-يوميات الثورة-
نكسب الحزب ونخسر الوطن
ما أحوج السلطة في بلادنا لمعارضة واضحة تدافع عن المصلحة العامة وتوجه السواد الأعظم من أبناء الشعب نحو القضايا المصيرية ذات الارتباط المباشر بعجلة النمو، ورفع وتائر الإنتاج، والمساهمة في خلق قاعدة اقتصادية كفيلة بخلق الحراك الاجتماعي وإيجاد تناغم في الغايات والوسائل وتحدث تقاربـًا ملموسـًا بين النظرية والتطبيق.
معارضة متغلغلة في أوساط الجماهير تضع في مقدمة أهدافها الانطلاق بالوطن نحو آفاق من التقدم والاستقرار والنماء وتؤكد على عظمة أهدافها عبر الممارسة العملية وتحويل قناعاتها إلى سلوك يومي تبرز بصماته في واقع الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
معارضة تثبت -للرأي العام بمستوياته المختلفة- قدرتها على مواجهة التحديات والإقناع بأن وجودها يمثل ركنـًا من أركان النظام السياسي وليس مجرد ظاهرة صوتية ترمي إلى اكتساب الشهرة وإسقاط الأخطاء وتسجيل المواقف دون دراسة متأنية أو تقدير لردود الفعل وسلامة الوجهة.
إن المعارضة التي لا تقف على النقيض من أخطاء السلطة لا تعدو أن تكون في تسرعها وسيطرة الانفعالات على مواقفها مجرد نسخة من الوجه السلبي لأجهزة الحكم.
ومن هذا المنطلق تدركنا الحاجة الملحة لمعرفة الاختلالات العميقة في مجرى العمل الديمقراطي إذ من غير ذلك تتراكم الأخطاء وتصبح قضية الديمقراطية في بلادنا محل سخرية التاريخ وربما يقود التغاضي إلى درجة الاقتراب من الخطر الذي يجعل من الديمقراطية سلاحـًا يرتد على صدورنا ووعاء للمصالحات المريضة بين أدوات القمع ونزوات التخريب والارتهان ومخلفات العهود البائدة.
ولشد ما طغت الاختلالات على جوهر الديمقراطية ذاتها.. وفجأة على نحو مغاير للنوايا الحسنة والتوقعات المتفائلة كدنا ندخل في معادلة معقدة جعلت الاخفاقات الكبيرة تهيمن على كل ما عداها وبحيث تحول الخلل إلى قاعدة والممارسة الوطنية الواعية إلى استثناء وغدت الديمقراطية ميدانـًا واسعـًا ورحبـًا لكنه لا يتسع لغير الأخطاء والتباري في الفصام السياسي، وإلقاء المصائب والمصاعب على كاهل الحلم الوحدوي الوليد..
لقد سادتنا حالات مرضية تعذر معها البحث عن الحقيقة.. أو القرب منها، واستهوانا التعصب وبواعث المصلحة في استحضار عقلية الماضي وبات من المستحيل ترشيد الخطاب السياسي وترجيح موضوعية هذا الخطاب على موازين الانتماء العاطفي وحسابات المنفعة الذاتية وصار علينا أن لا نرى إلا في إطار الأحكام القطعية التي نتواصى بالثبات عليها عبر التعاميم والنشرات الحزبية الداخلية ولم نسأل بعد لماذا لا نكون في هذا الوطن وله؟.. ولا كيف تكون رؤيتنا الجماعية أساسـًا لرؤية النخبة مهما كان شكلها..؟.
بل نحن في الأساس لم نبحث في ماهية الديمقراطية ولا كيف نتعامل معها.. وما علاقة ما يحدث في بلادنا بجوهر الديمقراطية.
إن مؤشرات عديدة تلتقي عند دلالة واحدة تنبئ بخلل ما من شأن دراسته وتحديد أسبابه والإفصاح عنه.. وتنادي الأحزاب والمنظمات والنقابات وذوي الخبرة من المستقلين بهدف الخروج بمعالجات وطنية له.. من شأن ذلك أن يمكن لليمنيين بدايات طبيعية للوقوف على أرضية صلبة وانتهاج الطريق القويم والمرتقى الحضاري الصحيح.
ولا شك في قدرتنا على التجاوز ما دمنا نرغب بالخروج من النفق والعودة إلى ما ينفع الناس، والنأي بوطننا عن المخاطر التي ستقرع كل الأبواب بلا استثناء.. وما زال في اليد إمكانية لاتقاء المخاطر، وتجنب المحاذير وتنحية المراهنات التي يعتقد كل طرف أنها منبع حكمته ومصدر إلهامه ومكمن قوته ونعود إلى الوطن خياراً مشتركـًا تتنوع فيه مصالحنا وتتضافر من أجله الطاقات والجهود.
ولن نخسر كثيراً جراء استجابتنا الحية لضمائرنا في لحظة انسجام مع النفس وتصالح مع الذات حيث يعترف كل بأخطائه ثم يكشف عن أخطاء سواه.
فلم تكن المعارضة في يوم من الأيام ولا في بلد متطور أو متخلف بمثل ما هي عليه في بلادنا، ولم يحدث على وجه الإطلاق قيام تجربة ديمقراطية لا يرى فيها عدا السلطة من أجل السلطة، والمعارضة لذات المعارضة.
وعند قياس وتقييم التجارب الديمقراطية في العالم تغدو السلطات دليل إثبات على ضرورة وأهمية المعارضة في المعترك السياسي، وبالمقابل تكون المعارضة شرطـًا لوجود السلطة وجهداً مكملاً لها قلمــًا تعجز عن أدائه، ومتى اختفى أحدهما لحق به الآخرون وترك للشعوب حرية اختيار البديل الملائم لكلا الجانبين.
وما لنا لا نتأمل مليـًا في بضع كلمات وردت على لسان الأخ المهندس العطاس رئيس الحكومة ضمن موضوعات رسالته الصادقة لمجلس الرئاسة وسندرك ما الذي تعني المعارضة وهي تفقد ذاتها في المحكات الحقيقية وتنقسم على نفسها وتصبح من ملاحق الاشتراكي أو الشعبي متى أراد أحد الشريكين أو كلاهما اختبار أتباعه ومريديه.
إن في الذهن أسطورة خرافية أكبر مما يجنح إليه الخيال عن بيانات الأحزاب وصحفها بيد لا تقتنص الذاكرة من بين هذا الركام موقفـًا عمليـًا ينم عن تمثل واع لدى الأحزاب لمسئولياتها تجاه الوطن والشعب ولو بأقل مما تنهض به الكشافة المدرسية في أسبوع المرور.
وتكتظ ذاكرة الوطن بسجل خالد من مآثر المماحكات بين السلطة والمعارضة وبدورنا نسمي الأمر ديمقراطية، بينما يبحث المجتمع عن حل لمشكلات البطالة والغلاء، عن حل لمعضلات الثأر وتدني الصحة العامة، عن معالجة لترشيد الأداء الديمقراطي الذي يجني الناس ثماره من عودة التلاميذ إلى منازلهم دون جدوى نظراً لإضراب المدرسين.
ثمة خلل.. فما العمل؟..
أيكون من الوعي أن نكسب الحزب ونخسر الوطن.
أيكون من الوعي بالديمقراطية كسمة من سمات العصر أن نتعامل مع التخلف ونبتغي مصلحة الوطن في إحياء النعرات والمناطق.. وإحياء الأبوة الروحية التي لا تجارى وترسم الوصولية في أسفه اتجاهاتها، وانحلال الذي بيننا من عقيدة وثورة ووطن..؟
أولى بنا أن نستجمع كل شجاعة ممكنة ومختزلة لكي لا تكون الفتنة، ولا نغدو طعامها.. والقابض على وطنه مشتعل بالنار..
بيت من الشعر:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُّ
الصحيفة: الثورة العدد:
التاريخ: 24/12/1992م
التعليقات (0)