-يوميات الثورة-
موعظة للمرشحين
الانتخابات على الأبواب، والسباق على أشده، والوطن أشبه ما يكون بالأضاحي الكبيرة التي يتوزع سكان الحي ثمنها، ويتقسمون لحمها كل بقدر ما دفع، ولكل في كبدها نصيب..
وما دامت الانتخابات على الأبواب فليس ثمة مجال للحديث عن النقاء، والصدق، وحسن النية.. فالطريق إلى البرلمان مفروش بالمكابرة والتزلف.. وأرخص السلع وأكثرها بواراً في متناول المرشحين هي الوعود، وكل شيء يبدأ بسوف وينتهي بـ(مصلحة الوطن) ورغد ورفاهية (المواطن)..
أما الناخب فيستمع إليهم جميعاً، وينسج من الوعود اللماعة، والقبل السخية، والابتسامات العريضة خيالاً لذيذاً ساحراً أخاذاً لمستقبل جميل حافل بالمسرات، عامر بتقوى الله، رائق كوجوه الصبايا الحسان، عذب كالابتهالات الورعة.. مستقبل خال من النكد، يسوده الحب والعدل، العطاء الوفير والخير الكثير.
وليس بالضرورة أن يشترك كل المرشحين في خلق هذا المستقبل، كما ليس من الضرورة أن تتحقق الأحلام الوردية عن طريق الواحد والثلاثمائة من أعضاء مجلس النواب القادم، ولكنه قدرة خارقة يمتلكها كل مرشح على حدة..
وما من مرشح لا يثبت للناس هذه الحقيقة عن نفسه وينفيها عن غيره..
ومع اقتراب الموعد نحن على لقاء بالمفاجآت السارة.. فمكاتب الخدمات المختصة بتأجير الشقق المفروشة، واستقدام الشغالات الفلبينيات سوف تتحول إلى مراكز للبحوث وأكاديميات علمية تعد البرامج الانتخابية للمرشحين بحسب أذواقهم.. فهناك برامج يتم صياغتها بالشعر الشعبي، وأخرى بالعربية الفصحى، وثالثة بالمهرية الأصلية..
وستلعب هذه البرامج التي تراعي ذوق المرشح دوراً بالغ التأثير في إحداث تحول حضاري لا مثيل له في تاريخ البلاد.. وهي لا تقود إلى النجاح فقط بل توفر جانباً من المتعة والإدهاش..
وفيما يتعلق بالأحزاب فليس في عدادها من يشك بشعبيته الساحقة.. ذلك لأن الحزبية في اليمن غيرها في بقية أرض الله.. فهي التي تصنع الشعب وليس العكس، وهي التي من كرامتها تتقاضى ثمن الشعار قبل التفكير في عباراته أو رفعه..
وهي التي تريد معارضة قوية على نفقة الحكومة، وهي تتكلم في كل صغيرة وكبيرة، وتتحدث عن علوم الذرة أكثر من حديثها عن محو الأمية وسبل الاهتمام بالأمومة والطفولة.. وهي التي تتعاطى الديمقراطية عن طريق (لله يا محسنين).
ولأن الحكومة لا بد أن تكون استخلاصاً نادراً من عينة الواقع.. فإنها ستدخل الانتخابات عبر عملية إنزال مظلي عظيم.. إنها حكومة متعددة الأهداف والأغراض والوسائل، وهي حكومة دولة الوحدة وحكومة النظام السياسي القائم على التعددية السياسية، وهي حكومة الانتخابات ثم هي (وحسبنا الله) حكومة كل المراحل بما في ذلك مرحلة التتويج الديمقراطي لما بعد الانتخابات..
وإلى هذه وتلك فإنها ستخوض المعترك الانتخابي بصفتها الرسمية (كحكومة) ولن تقبل بالمساواة ولا بتكافؤ الفرص، ولن تسمح لنفسها بالتنازل عن الحقوق المكتسبة في الحكم ونزول أعضائها إلى الشعب بصفتهم الأقدم والأجدر كمواطنين شأنهم شأن أي مرشح..
وهي التي تجعلنا ندرك أهمية الدستور من خلال تفسيرها لبعض نصوصه على نحو يجعل المواطنين غير متساوين في الحقوق والواجبات السياسية..
وإذا يختلط الحابل بالنابل، والغث بالسمين فإنه من غير المتوقع أن تسلم رؤية الناخب من الإرباك والحيرة وسيكون من الصعب التسليم بإمكانية (التداول السلمي للسلطة) فيما إذا رجح موقف الحكومة.
وإذا كانت البداية بمثل هذا القدر من الطوباوية فإني أخشى أن تكون النتيجة مخيبة للآمال وباعثة على المزيد من سأم الناس وحنقهم البائس من الديمقراطية، وعدم اكتراثهم في المستقبل تجاه أي دعوة للتغيير.
لقد كان في وسع الذين تشتملهم رقعة السباق على الترشيح عمل شيء أفضل.. وتقديم بدائل أكثر دلالة على حب الوطن وأبنائه.. وكان في مقدورهم الخوض فيما ينفع الناس وتقديم بعض المعالجات التي تجعلهم أقرب إلى قلوب الناخبين.. وما كان أحوج هؤلاء من مستقلين أو حزبيين أم وزراء لزيارة السجون وتنظيم حملة إنسانية ضد النزعة السادية التي تتمتع بها بعض الجهات المسؤولة عن صون العرض، وحقن الدم، وحماية حرية الإنسان في وطنه..
وما كان أجدرهم بتبني قضايا إخوانهم الذين يزج بهم في السجون لقضايا تافهة وشبهات غير ثابتة وتمضي بهم الأيام والأشهر دون النظر في قضاياهم.. ومن غير أن تهتز شعرة في هامة العدل.. وكأنما تريد أجهزة القضاء والنيابة أن تبني في السجون مجتمعاً قوامه مئات الأبرياء..
لقد غابت عن هؤلاء المرشحين مجمل الهموم والأرزاء التي يعاني منها أبناء المجتمع..
إني لأتساءل مستغرباً.. كيف لنا أن نمارس الديمقراطية، بيد نتوانى عن مواجهة الظلم ونعجز عن نصرة الحق والوقوف ولو بالكلمة في صف الأبرياء..
ولست أدري والحال كذلك.. لماذا تبدو السلطة مغرية إلى الحد الذي يجعل الكثيرين منا على استعداد للجنون، ولتجاوز الاعتبارات المنطقية، والتضحية في سبيل الوصول إلى مقعد البرلمان..
ألأنهم رأوا السلطة تغدق على أعضاء مجلس النواب السابق ولذلك يطمع كل منهم بمكاسب على نفس الشاكلة..
وهل السلطة رائعة إلى درجة تنسي المرء نفسه وقدراته وتضطره للمغامرة..؟
وهل الظهور على شاشة التلفزيون قضية تستحق اللهف بحرارة كهذه.. أو ليس مما يدفع للعبرة والخوف مشاهداتنا السابقة لنواب لم يقولوا كلمة واحدة ضد الفساد ولم يفندوا نصاً قانونياً ولم يصوبوا عبارة ولم يكن لهم وجهة نظر في كل ما صدر عن البرلمان من تشريعات واتفاقات ومواقف..؟
أليس غريباً أن تتقدم بعض الأحزاب بمرشحين أميين حيناً.. وحيناً بمرشحين أكثر أمية ممن لا يجيدون القراءة والكتابة!!
ولو كان الطموح سبباً رئيساً لما يحدث لتملكنا الزهو وأدركنا الإعجاب.. لكن الذي نأسف له أن كثيرين يتطلعون للسلطة باعتبارهم وسيلة عبث ومصدر ثراء غير مشروع، وحقيبة لا يسمح بتفتيشها..
إن من الجهل أن تصبح قضية الوصول إلى السلطة نزعة تغوي الناس، وتستأثر باهتماهم الكلي في حين تسقط من ذاكرة الشعب مقومات البناء ومسؤوليات العمل والانتاج.. ومن أين للسماء المطيرة أن تبدو مباركة أمام سد منهار أو بركة جدرانها متشققة..
قبس من محكم التنزيل: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) صدق الله العظيم..
الصحيفة: الثورة العدد:
التاريخ: 1/3/1993م
التعليقات (0)