-يوميات الثورة-
حديث في التعددية
أراد الله لهذا الكون أن يكون حافلاً بالتناقضات، وطبع الحياة على التنوع والتعدد، وجعل للناس مدارك لتمييز الأشياء والتعامل معها وفقاً لمعارفهم التي يكتسبونها من خلال ثقافتهم الدينية ووعيهم الإنساني، وما تحدده البيئة من خصوصيات..
وعلى هذا الأساس تخصب الحياة وتتجدد مظاهرها وتنمو في المجتمعات مواهب الإبداع تأملاً في الوجود، واكتشافاً لأسرار الكون التي يذهب الإنسان إلى هتك حجبها المسدلة مدفوعاً برغبته الجامحة للتفوق وإزاحة الغموض الذي يكتنفها متخذاً من العلم وقوة الإرادة وسيلته لتحقيق أهدافه.
ولأن من مميزاتنا عدم المعرفة فمن سجيتنا القول في كل ما يتبادر إلى الذهن، وأن نجعل من ثقافتنا العامة في أحسن الأحوال تشريعاً للإفتاء وقليلاً ما تكون الفتوى معبرة عن دراية وفهم لا سيما تجاه العديد من الظواهر السياسية التي نحار في تعريفها وتشخيصها ووعي مبرراتها ورصد اتجاهاتها الرئيسية وما تسعى إليه أو تعبر عنه.
وإذ نعرض لوجهة نظر عن التعدد كحكمة الإلهية فطرت الحياة بها، ومسحة من الجمال الذي نستشفه في الطبيعة وضرورة تقتضيها طرائق البحث عن الأفضل في الرأي والرأي الآخر حري بنا التأكيد على حقيقة طالما حرصنا على تجاهلها وهي أن التعدد مرتبط بدواعي الحاجة لملء الفراغات التي تنجم عن الأحادية وادعاء الفرادة وفرض النمط الواحد دون اعتبار لحرية الإنسان في الاختيار والمفاضلة.
وبهذا الصدد يتعين علينا أن نفرق بين التعدد الموضوعي والتعدد الفوضوي الذي ينزع إلى التقليد بعيداً عن أي ضرورة منطقية تدل عليه عند التثبت من مشروعيته..
وبحسبنا في هذه التناولة أن نختصر الأمثلة ونرشد الاستشهادات في طبيعة التعددية الحزبية كظاهرة سياسية تعد الأشهر من أي مثل آخر وذلك لاعتبار واحد، أنها لا تعني في واقع الأمر شيئاً هاماً بالنسبة للتجربة الديمقراطية وللناس عموماً.
ولربما كان لحداثة التجربة دور في القصور الراهن بالإضافة إلى عناء الانتقال المباغت من القديم إلى الجديد ومن الشمولية إلى التداول ومن السرية إلى العلنية.. وهي انطلاقات حاسمة لا يمكنها القدرة على التحقق دون عناء وطول ممارسة وتدرج مدروس وإدراك لأهمية الخطوة الأولى باعتبارها أهم معيار للنجاح وأول مدخل للانهيار.
وكأي من قضايا الوطن التي نالت منها يد العبث وطوقتها غائلة الفساد، كذلك حال التعددية حين تبارت على هدمها مختلف القوى السياسية وتنافست على تشويهها كل الجهات، نكاية بالديمقراطية، وطمعاً بنقائضها، ويقع على هذه القوى والجهات أن تتحمل مسؤولية موقفها المشجع على الابتزاز السياسي الذي مورس في صورة سافرة، وبأشكال متعددة، أهمها ظهور أحزاب وهمية وأطر مناطقية وكيانات سلالية وانتشار لافتات جديدة لمسميات يتغلب عليها الحنين إلى الماضي المعتم ولا تلبث أن تجد لنفسها مكاناً بين الأطراف الحقيقية وتكتسب شرعية دورها الهادف إلى إفساد التجربة الديمقراطية عبر تعاملها مع قنوات التأثير السياسي الرسمي والحزبي..
إننا لا نخشى على الديمقراطية من بعض خصومها في السلطة، كما نخشى عليها من العبث المحمول على كاهلها، وأن تتمخض عن جنين مشوه وتقترن بداياتها بأسباب فنائها.
إن هذا العدد الكبير من الأحزاب والتنظيمات والتجمعات السياسية ليس له ما يبرره عدا التحجج بالنص الدستوري دون اعتبار للقيمة الكلية في الدستور والغاية منه في تنظيم حياة المجتمع وإرساء قواعد تقاليد تحول دون الطغيان، وتوازن بين مصلحة الفرد وتطلعاته وبين مصالح الشعب وحرمة كيانه، وتمنع الاستهتار الطائش في القضايا التي تمس مصالح المجتمع وتحولاته نحو المستقبل.
ولكم هو مؤسف أن ندخل إلى الديمقراطية بكيانات هشة مشفوعة بهزال في الفهم ومثابرة على تكريس الأخطاء..
إن التعددية الحزبية على مدى ثلاث سنوات من تحقيق الوحدة لم تطرح بعداً أيديولوجياً يتجاوز المعنى السطحي المقروء في لافتاتها ولم تستبدل شعاراً قديماً بأخر ذي علاقة بالجهد اليومي المتصل بعملية عن هوية هذا الحزب أو ذاك، فالبرامج السياسية متشابهة، ونمط التفكير متقارب والوجوه ذاتها.. الحيرة على أشدها لأننا لا ندري أين يكمن التعدد..؟
ومن أين لنا أن نهتدي إلى ذلك وأوجه التطابق لاتدع مجالاً لتحديد (الفارق بين الفرق)!
لقد أريد لهذه التعددية أن تكون مدخلاً للانطباعات السيئة لدى أفراد الشعب اليمني، ومنفذاً لحماقة يشعل فتيلها الحماس العاطفي المشبوب بآمال العودة إلى الماضي وإن على جثت الشهداء ودم الأحرار وبالمقابل استحالت الديمقراطية مطية للتطرف والعصبية، وسياجاً يواري عقم الارتهان للتخلف وسبيلاً لهيمنة الولاءات الخارجية على طهارة الولاء لله والوطن والثورة.
ولم يعد في الشأن العام غير انتماء الحزب في حضرة القبيلة وجلبة أعرافها على انكساراته.
وبما أمكن من صبر وأناة تستحكم ضائقة التعددية.. وبما في الناس من لهف إليها لكنهم لا يجدون فيها الهدف المنشود والأمنية الغائبة.
إننا لنكابد تعباً بالغاً إزاء البحث عن جوهر التعدد في برنامجي الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام، ويصيبنا الإجهاد كلما أردنا أن نميز أحزاب المعارضة عن التي في الحكم .
وعند مقارنة الأهداف العامة والممارسات اليومية نجدهم جميعاً، بيد أنَّا لا نجد البديل وتلك مشكلة عصيبة لا تحدث أزمة في الضمير وحسب وإنما تضع الوطن وكأنه في حد ذاته مصدر الأزمة وملهمها.
على أن من المفارقات الغريبة التي يقابلها المجتمع بالتندر والاستهجان قيام بعض الشخصيات القيادية لعدد من أحزاب المعارضة بإنكار الديمقراطية على السلطة في حين تتصف ممارساتهم داخل أحزابهم بنتاج أصيل من الديكتاتورية وركام من الخيلاء والنرجسية وعبادة الذات. وبينما ينادي كثير من هؤلاء بالتداول السلمي للسلطة إلا أنهم على استعداد للمواجهة والعنف مع أي دعوة لتداول المواقع القيادية في تنظيماتهم..
ولئن كان القاسم المشترك في خصم التعددية والحزبية هو حالة التضاد بين القول والعمل، النظرية والتطبيق فماذا ننتظر إذاً؟
إن الشعوب التي تشقى بمنظرين لاصلة لهم بالواقع وبحكام أبعد ما يكونون عن تحسس حوائج المجتمع وبمواطنين لا يقدمون أفضل من هذين الصنفين هي ولا محالة شعوب زائفة عن الحق رابضة في الجهل مدموعة بالإفلاس تفتقر إلى من يوقظها من سباتها ويأخذ بيدها إلى اجتراح مآثر التجديد واللحاق بركب العصر في إبداعاته ومواكبة المتغيرات التي تجعل الزمن عنصر اختبار يتخلف عنه السذج، ويلحق به الذين يقيمون لحياتهم وزناً ولوجودهم معنى.
وفي بلادنا متسع لآلاف الأحزاب والتنظيمات والتجمعات السياسية التي تتقدم ببرامج ومشاريع تعبر عن تنوع في ميدان العمل والإنتاج، ولكنها لا تتسع لحزب بالأصالة عن نفسه، ونيابة عن مستخدميه..!!
ومن حرصنا على الديمقراطية أن نتوخى الدقة في تمثلها فنوطد أركانها بتعددية تعبر عن تنوع في الرؤية واختلاف في تقدير الأولويات، وتباين ينم عن خصوصية يتمتع بها كل حزب عند تعبيره عن مصلحة الفئة أو الشريحة الاجتماعية التي يدافع عن حقوقها.
تعددية لا تتسابق على إصدار بيانات التنديد أو التضامن بقدر ما تتمايز في تقييم الواقع فتختلف دراساتها، وتتباين استقراءاتها حتى إذا ما تبلورت مشاربها الاجتماعية ومناهجها الفكرية وأهدافها السياسية واستطاع كل منها تقديم نفسه (ما هو.. ماذا يريد.. من يمثل) عندها يمكن القول باعتداد هذه هي الديمقراطية التي يدافع عنها الشعب ضماناً لاستقراره واستقلاله وتقدمه، كما يغدو الاستقطاب الحزبي رأياً يحترم فيه الإنسان نفسه وقناعة يختارها الحزب عند توخيه خطابه إلى المجتمع. وفي مثل ذلك الوقت ستخلو جيوب المنتفعين من ازدواج العضوية ولا يكون ذكاءً احتفاظ أحد بعضويته في خمسة أحزاب..
خلاصة الأمر أن التعددية الحزبية في بلادنا ما برحت مشروعاً غير مكتمل ومحاولة متواضعة في طورها المبتدئ اللهم إلا في حالات نادرة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وما دون ذلك فهو تعدد فرضته ملهاة التقاسم والدعاية السياسية الحميمة بين حزبي السلطة.. وسيأتي اليوم الذي يستغنيان فيه عن ثلة من الأدوات كيما تستقيم الحياة السياسية على مقومات أخرى أكثر فاعلية وأفضل جدوى، وحينها سوف يتجلى الفرق بين الحزبية وفساد الأخلاق..
بيت من الوطن
يا قافلة عاد المراحل طوال
وعاد وجه الليل عابس
الصحيفة: الثورة العدد:
التاريخ: 8/1/1993م
التعليقات (0)