-يوميات الثورة-
يوم للسكينة
إن بلادنا تنتج من القلق غولاً مهولاً لايدع للناس أي إمكانية للإحساس بعظمة المواطنة، بطهارة الانتماء، برغبة البحث عن الحلول في عطاءات الأرض التي استبدل الناس علاقتهم بها بعقم السياسة وسياسة العقم..
لم يعد في الوقت متسع للهف والإشارة وليس من مجال لإنعاش غريزة حب الاستطلاع لما يختزله العالم من أساطير وما تتسم به الشعوب من عادات وتقاليد.. فقد اختفت منذ أكثر من عشرين عاماً مظاهر التشوق لمعرفة الفوارق الطبيعية في المناخ، وتعدد الفصول واختلاف التضاريس، ولم يعد لتلامذة المدارس ذلك الدفء القديم الذي يربطهم بطابور الصباح حيث يرددون نشيدهم العذب:
(بلاد العرب أوطاني)
فبينما العرب ينسجون القصص المدهشة عن حضارة آفلة وأمبراطورية منهارة، ويوغلون في رسم التصورات الجميلة فيما تحكي عنه السير القديمة عن قاهرة المعز، وحدائق الشام، وتمور نجد، ونواسيات الرافدين ولا يجدون سبباً آخر للتعلل غير الاستناد على عكاز الماضي التليد.. فيما هم كذلك إذا بالزمن يتغير من حولهم ويدعهم وأمجادهم جانباً حيث لا رحمة لعزيز ذل.. ولا مصالحة مع واهم أغمض عينيه وملأ عقله بالخرافات ونذر حياته للجهل..
وبتغير الزمن وانتقال البشرية إلى عصر السرعة تداعت مفاهيم ظنها الناس ثابتة لا يأتي الدهر بأفضل منها، وتسمر الفارس العربي في موقعه لا يبرح الناقة يستدر ثديها ولا يترجل عن صهوة جواده ولا يغادر ساحات الوعي (مفر مكر مقبل، مدبر معاً) تتراشقه عيون المها وتحضه على الثأر من مضارب أشقائه وأبناء عمومته وجيرانه..
وفي غمرة التحولات المذهلة للعصر.. صار بوسع كل منا أن يستدعي أغلب عواصم العالم ويحشدها داخل غرفة صغيرة ويلم بكل ما تحفل به الكرة الأرضية من تطورات سياسية واقتصادية بمجرد الضغط على زر تشغيل جهاز التلفاز أو إحدى محطات الراديو.
وصار في قدرة الإنسان توصيل رسالته من أقصى الأرض إلى أقصاها في أي صورة شاء قبل أن يرتد عليه طرفه.
إنه عصر السرعة فعلاً.. فما الذي يربطنا به غير ذلك المفهوم المتخلف لطبيعة العصر وأدواته وشكل التعامل معه لا سيما حيال السرعة بوصفها النموذج الذي نتعاطاه لإثبات موقعنا من العصر إذ نسرع في الهلكة وتتخذ حياتنا ملمحاً استثنائياً مقاوماً لاعتبارات المنطق ودواعي التأمل ونباهة التفكير.
لقد دخلنا العصر من نافذة الجنون وطوعنا أدواته في تدمير الذات وإلغاء ما في الإنسان من نبوغ وقدرة على الإبداع.. إننا فعلاً نتعامل مع العصر بلغة مختلفة، وأسلوب مغاير وبمفاهيم متدنية لا ترقى إلى لغة الحداثة والتجديد، وكذلك فإن دعوتنا للمدنية لا تقوم على وعي متأصل أو باعث من تدبر.
ونحن في تعاملنا مع السرعة كتسمية مرادفة للعصر إنما نحدد على كل المستويات موعداً مع الموت وفي أفضل الحالات تكون السرعة ملتقى الإخفاق ومحطة للفشل الذريع..
وبحسبنا عند التأكيد على صحة ما نذهب إليه الأخذ بعدد من الشواهد التي تغني عن الإسهاب.. فعدد الوفيات الناجمة عن سوء استخدام وسائل النقل وحوادث المرور تزيد على مدى عام واحد في الجمهورية اليمنية ضحايا حرب فيتنام، وتعادل أكثر من ضعفي شهداء الانتفاضة الفلسطينية عام 92م..
إنك لتجد الناس هنا على عجلة من أمرهم كأنما لا وقت للتأني ولا مخرج من القلق، ويحاول المرء التماس العذر لسائق عاطل يتجاوز إشارة المرور، ولرجل يقع في حفرة مكشوفة مر منها وهو شارد الذهن لا يرى الطريق التي يمشي عليها، وحين لا نعثر على مبرر للمؤسسات الخدمية يوم تتبارى على الهدم لأن مصلحة الطرق عبدت الشوارع دون تنسيق مع مؤسسة المياه أو لأن شركة الكهرباء كانت على عجل فتركت خللاً استدعى الهدم ومحصلة هذا وذاك أننا نكاد نرسم سياسة تنموية قائمة على القضم والتدمير.. فما من زاوية في حياتنا المعاصرة إلا وبرزت فيها مواهب التنكيل بمصلحة الوطن ومجالات تطوره، وما من منشأة حكومية سليمة من الخلل، وما من مشروع استوفى حقه من الدراسة ولم ينل قسطه من الثغرات والأخطاء..
وفي بلادنا آلات ضخمة ومعدات ثمينة لم تعد صالحة للاستخدام نظراً لتلفها قبل أن يُنتفع بها أو تخرج من محاسبها..
ويمر الزمن من حولنا ونحن نقضم الأظافر ونعد الخسائر ونتخلف عن ركب العصر ونراهن على افتعال المعارك الواهمة والتغني بانتصارات زائفة ذات أثر على تعطيل دورنا في مواجهة تحديات البقاء في صراع الحضارات على مستوى الحاضر والمستقبل.
إنها مسؤولياتنا جميعاً وعلينا إدراك تبعاتها بصورة أخلاقية تخلو من انتهازية إلقاء التهم، واختلاق الأعداء الذين لا يمكنهم المس من إرادة الشعب في التغيير إن لم يجدوا فينا وسيلة طيعة وأداة رخيصة.. ومتى أخذت الأمور بدقة واسترد العقل مكانته عندئذ لن نرى حزباً متعجلاً يخطب ود المصفحات حتى يستأثر بالحكم أو يصل إلى السلطة!
وسيكون بمقدورنا أن نبدأ حياتنا بداية لا يشوبها الهلع وترقب المخاوف..
وما أشد حاجة الناس في هذا الوطن المثخن بجراح الأماني المنهارة إلى الهدوء وما أحوج البلاد لاسترداد غبارها الحبيب من الوجوه المفرغة من كل شيء أي شيء حتى الغبار..! الهدوء وحده الذي يستطيع معالجة الانكسارات المترسبة في أعماق المجتمع ويفتح مجالاً للتفكير السوي.. وهو وحده الذي يملك القدرة على إعطاء النفس القلقة جرعة من الاطمئنان والسكينة..إن بلادنا تنتج من القلق غولاً مهولاً لا يدع للناس أي إمكانية للإحساس بعظمة المواطنة، بطهارة الانتماء، برغبة البحث عن الحلول في عطاءات الأرض التي استبدل الناس علاقتهم بها بعقم السياسة وسياسة العقم..
العلماء بحاجة إلى الصفاء الذهني وتلمس الهدوء في ساعات الاعتكاف بالمساجد.. والشعراء بحاجة لبشارة الإبداع وخلع قميص الأيدلوجيا وارتداء معطف الغيوم وتعلم فن الإصغاء لزقزقة العصافير في صباحات الله الطيبة..
ثمة إعلان لابد أن يكون، عن يوم للسكينة يوم للهدوء.. تتوقف فيه نشرات الأخبار ولا يسمح بغير الموسيقى، تتوقف فيه مكبرات الصوت، زعيق السيارات، ضجيج البرلمان، صخب الأحزاب..
يوم للسكينة، والسكينة فقط..!
الصحيفة: الثورة
التاريخ: 15/1/1993م
التعليقات (0)