يحيى البوليني | 2/12/1428 هـ
يدور المرء حول نفسه بين شقي رحى لا تهدا ولا تسكن , يذكر حينا وينسى أحيانا , ينشط قليلا ثم يعود للكسل والخمول , يهيم على وجهه طالبا رزقه رغم أنه ينتظره لا محاله ! , فيبذل من أجل مالا يستحق أعظم ما يملك ! , فهل استبق لنفسه حينا تناديه فيه روحه أن : قف وانتبه , فالعمر يجري , والأجل يقترب , ولقاء الله لا محالة قادم ؟!
إن أعظم مصائب القلب الذي يبتلى به المؤمن هو إلف النعمة , وطول الأمد , تلك التي حذرنا ربنا عز وجل منها : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ) ..
إن ما تألفه عينك لا تشعر بحسنه ولا بقبحه , وما تعتاده من النعم التي أنعم الله بها عليك لا تشعر بقيمتها إلا إذا فقدت منه شيئا.
ويأتي الحج سبيلا للخروج من الضيق إلى السعة , ومن أسر العادات والشهوات إلى الحرية الكاملة , حيث تكسر قيود العادة , ويتجرد الجسد من كل مخيط ..
إنه انتفاضة روح تريد أن تتحرر وتتسامى عن الأرض بقيودها وشهواتها ومكدراتها وتتطلع إلى سعة رحمة ربها , ولهذا إذا خرج الإنسان من بيئته ومن اهتماماته ومن برنامجه اليومي أعطى الفرصة لروحه للوقفة والمراجعة والمحاسبة والتقييم
وفي كل عام في مثل هذه الأيام تهب علينا نسائم الإيمان وعبير الطاعة والقربى بعشر قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني الأيام العشر- قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ) البخاري
يذهب وفد الرحمن إلى مهبط النبوة التي احتضنت نزول القرآن - مكة المكرمة – ليشهدوا موكب النورانية الأسمى الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : " وفد الله ثلاثة : الغازي والحاج والمعتمر " النسائي وصححه الألباني , فينطلقون في ساحة مغفرة بيضاء , كل ما فيها نقي شفاف , القلب والثوب والمكان , تتنزل عليهم الرحمات , ويغمرهم الفضل والإحسان ..
إنه الحج إذن , مكفر الذنوب , ومطهر النفوس , وبستان التوبة , ومراح العبودية والرجاء , فعن أبي هريرة رصي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) البخاري وقال صلى الله عليه وسلم (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد ) صحيح الجامع
إنها دعوة لكل من أراد أن يطهر روحه , ويخلص نفسه من دنس الآثام ووحشة البعد , أعلنها الخليل إبراهيم منذ آلاف السنين لازال رجع صداها يدفع النفوس من كل حدب وصوب إلى البيت العتيق :" قال الله تعالى على لسانه :( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)
إنها دعوة للتخلص من ربقة الدنيا وقيودها , حيث لا متاع يرتجى , ولا زينة يتفاضل بها الناس , وإنما سعي دؤوب نحو غفران الذنوب , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " متفق عليه
وكل منا يحتاج لوقفة تجاه نفسه لكسر جموحها , وترويضها حتى يسلس قيادها , تؤمر فتأتمر, وتزجر فتنزجر , فيتحرر عندئذ من ضغوطه , منطلقا بإرادته إلى ربه , متخليا عن كل شيء , تاركا خلف ظهره كل ما شغل قلبه عن ربه , ملبيا من أعماق قلبه : لبيك اللهم لبيك
وليس الناس في الحج كلهم مرتبة واحدة , فمنهم من يعي هذا الدرس العظيم فيعيد تقويم نفسه من لحظة الإعداد للحج إلى أن يعود إلى بيته مرة أخرى , فتكون أيام حجه أعظم أيام عاشها في عمره , ويعود بقيم ومفاهيم جديدة , ونظرة للنفس وللكون مختلفة أيما اختلاف عما كان , ومنهم من يذهب ثم يعود ولا يتأثر ولا يتغير ..
ولا عجب ههنا أن كان الركن الأساسي والأول في الحج هو ذلك اليوم الذي يقف فيه الحجيج على عرفات يوما كاملا لا هم لهم ولا شغل يشغلهم إلا ذكر ربهم وتذكر ماضيهم وندمهم وتوبتهم لربهم , حقا إنها وقفة يقفها كل من أراد أن يعود إلى بيته كيوم ولدته أمه , إنها أعظم الوقفات التي يقفها الإنسان مع نفسه ربما لا يحتاج مثلها إلا مرة في عمرة قد يسبقها أويلحقها وقفات أخر , ولكنها الأهم ولاشك في حياته , إذ يخرج منها بأعظم الدروس التي ربما سار على نهجها حتى آخر لحظة في عمره .
يعلم كل من ذهب للحج بهذا الشوق وأدى المناسك بهذا الحرص ووقف مع نفسه تلك الوقفة الحقيقية يعلم أنه ما من عمل ترك أثرا في قلبه مثل هذا العمل , وما من أيام عاشها في سعادة وسكون نفسي مثل تلك الأيام .إنها تمثل علامة فارقة في حياته تختلف فيها شخصيته وأفكاره قبل الحج وبعده ..
والحج سفر إلى الله يحتاج للزاد , وخير زاده : محبة لله خالصة , وخوف من تقصيره بالغ , واستسلام لمنهجه كامل, ورضا به ربا وبرسوله نبيا وبقرآنه دستورا , إنه زاد المسير للحاج , ولعله معنى التقوى التي أشار إليها الله سبحانه في قوله للحجيج : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى .
و البر في الحج إنما يتحقق بالإخلاص لله في النية وفي ممارسة حجة كحجة رسوله صلى الله عليه وسلم , فهاهو صلى الله عليه وسلم في حجه يعلمنا الأمرين معا : فيسأل ربه أن يجنبه الرياء والسمعة، قائلاً : (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة) ابن ماجه ، ويؤكد على اتباع هديه قائلا : ( خذوا عني مناسككم ) البيهقي
إن الإنسان ليمرض فتتألم أعضاؤه , ويناديه جسده بالدواء لراحته , في حين قد يمرض القلب ويصرخ ويتعذب ولا يشعر به الغافلون عن إدراك حقيقة أنفسهم والذين غفلوا عن تعهد قلوبهم...
إنها أنفس تخطئ بالليل والنهار , فلا يأمن مؤمن تحول قلبه لحظه . فلا كبير على مرض القلب وإنما يؤتى الخب من مأمنه . فكم من مذكر بالله هو له ناس وكم من مخوف بالله وهو عليه جرئ .
وههنا يتجرد الإنسان من ملابسه , ويلبس ملابس الإحرام , ويتجرد معها من ألقابه , ومن إمكانياته المادية وشهاداته العلمية ودراساته وبحوثه ليذكر شيئا واحدا , يتذكر أنه نفس بشرية وقفت مجردة - كما ستقف حتما في يوم قريب - أمام خالقها سبحانه , وأنه قلب يحتاج إلى دماء نقية وينابيع عذبة تستشفي منها .
ويوم التروية , شاء الله أن تتهيأ النفوس قبل ممارسة العبادة , فسن نبيه المكوث في منى ليوم كامل , يتلهف فيه الملهوف على التوبة , ويستعد فيه الصادق على العهد , فيصلي في منى فرائض خمسه , يملؤها الدعاء أن يتم حجه حجا مبرورا ..
ثم هاهو يوم عرفه , حيث الفرصة السانحة لكل قلب طاهر ونية مخلصة وجوارح مستسلمة أن تمد أكفها ضراعة وتبتلا ورغبة تعلوها الرهبة داعية بكل ما ترجو , فلا كبير على الله في السؤال ..
وما أن غربت شمس عرفه حتى فاض الحجيج كفيوض نهر عذب رقراق أبيض , ولكأن فيوضهم من أرض عرفة إلى مزدلفة سقيا للصحراء الجادبة بماء أبيض بلون اللبن عذب بلون دعاء الصادقين..
وفي مزدلفة تكون الاستجابة للنداء , والتحضير بالحصي لرجم الشيطان وشركه وأوليائه ونبذ عهده , وينطلقون إلى المشعر الحرام فيفيض بكاؤهم وتنهمر دموعهم حتى يصبحون .. ثم الركب يسير يملأ جنبات الأرض طهارة وعطرا غير مصنوع – حيث نهينا عن الترفه - , ويظلون في منى ثلاثة أيام , يعايشون فيها الحياة حيث لا رغبات ولاشهوات , ولا صراعات ولا مقامات , ولا أموال وملذات , وبين روحة للرجم وغدوة يستشعر الحاج عزة لا تدانيها عزة , حيث رفع لواء دينه , ورجم سبيل أعدائه , وقدم القربان لربه , وتحلل من شعره وزينته ... ومن الناس من يرزقون الموت في حينها ..وفوز ساعتها للفائزين أي فوز ..
ثم طواف إفاضة وإيمان , وسعي وجهد وتعب ومشقة , تخالطها لذة لا تساميها لذة , فترى عندها عرق الجبين قد خالط لون السعادة الغامر , فنسي الإنسان عندها اسمه ورسمه , وذكر إيمانه وعبادته, فما أشبه حاله بمقامه في قبره , حيث يسأل ما دينك ومن نبيك ..ولا يسأل ما اسمك وكم تركت من متاع !
إنه عندئذ لا يبقى غير طواف الوداع الذي يتردد كثير من الحجيج عن أدائه , حبا في البيت العتيق ورغبة لعدم مفارقته , وتراهم حيث يسجدون لادعاء لهم إلا أن يردهم الله عن قريب لذلك المكان الحبيب..
وتسير النفس مع الجموع الغفيرة منذ أن تطأ تلك المشاعر , فلحظة مع الدموع المنهمرة , ولحظة مع الأنفس المنكسرة أمام ربها , ولحظة أمام الألسن اللاهجة بذكره وتلبية ندائه , فينظر المرء لنفسه حال كونه ينظر إليهم فيجد فيهم من هو أخشع منه وأعلم منه وأغنى منه وأزهد منه وأقوى منه وأكبر منه . فيعرف كلٌ قدره , ويخاطب نفسه ..يا نفس ربك غني عنكِ وعن عبادتكِ , أنت الفقيرة إلى عفوه ومغفرته , إن أطعتِ فلكِ , وإن عصيتِ فلن يحصد الحسرة سواكِ , دعي الناس ودعيتِ , فأسرعوا وأبطأتِ , وأقدموا وتأخرتِ , من أنتِ في هؤلاء ممن تفيض أعينهم و تقشعر أبدانهم عند ذكر ربهم ؟! خفت عليهم الطاعة وثقلت عليكِ ! يا حسرة عليك..
التعليقات (0)