آلمني جدا، تلك الأزمات التي تمر بها مصر، وخصوصا أحداث العنف والقتل، وهالني مناظر الدماء المصرية التي سالت على أرضها، واختلطت بتراب شوارعها، منذ بداية الثورة حتى موقعة (الجبل) الأخيرة، موقعة جبل المقطم.
وأمام هذه المحن، وهذه الأزمات ينقسم الناس إلى فريقين: فريقٍ حزين، كئيب متألم، متشائم، يرى أننا من شر إلى شر منه، ومن سيء إلى أسوأ منه، ومن الأسوأ إلى الأشد سوءا..
وفريقٍ آخر: هو أيضا متألم حزين، لكنه متفائل بما هو قادم، يتضرع إلى الله، ويُقلب وجهه في السماء، يترقب ذلك الفجر الجديد، والفرج الأكيد، والنصر القريب، ذلك اليُسر الذي يغلب العسر، وذلك النور الذي يُجلي الظلمات، متسلحين بسلاح الأنبياء والصالحيم ، سلاح التضرع والبكاء لرب الأرض والسموات..
وأنا والله دائما ما أقول إننا بحاجة إلى أناس صار الدعاء لهم حِرفة، يعرفون مواطن الإجابة، وأوقات الإجابة، ويعرفون أصحابها، ويلتمسونهم التماسا..
إننا بحاجة إلى رجل كمحمد بن واسع يوم قتال الترك، لما وجد قائد الجيش (قتيبة بن مسلم) أن جيشه أقل عددا وعتادا من جيش الأعداء، فسأل: أين محمد بن واسع؟ قيل له: في ميمنة الجيش يشير بإصبعه إلى السماء. فقال: إن هذه الإصبع عندي خير من مائة ألف سيف. ولما انتهى القتال بفوز المسلمين، سأله: لماذا كنت تشير بأصبعك إلى السماء؟! قال: كنتُ آخذ لك بمجامع الطُّرُق.
فما أحوجنا في هذه الأيام، وهذه الأزماتن إلى من يأخذ بنا ولنا بمجامع الطرق؟!
فالدعاء والتضرع سلاح عظيم، هو من أشد الأسلحة نفعا وقت الشدائد والمحن، وقد بيَّن الله عز وجل أن الغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يتضرعوا إلى الله، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:42-43].
فإذا غفل العباد عن التضرع في المحن والبلاء، والشدة والضراء، عرَّضوا أنفسهم لعقوبة الله تعالى، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:44-45].
يحكي لنا القرآن عن قوم يونس عليه السلام أنهم لما تضرعوا كُشف عنهم العذاب: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[يونس:98]. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال قتادة: (لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلة، فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم)ا.هـ
ويحكي لنا القرآن عن قوم لم يُظهروا الفقر والضراعة عند الشدة والبلاء، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}[المؤمنون:76-77].
ولقد مرت بالمسلمين حقبا من الزمان، ذاقوا فيها الظلم والآلام، وعجَّت الشوارع بالدماء، وبسطت الأرض بالجثث والأشلاء.. واستطاعت الأمة الخروج من هذه الأزمات، بقدرة الملك الجليل سبحانه، ببكاء المستغفرين بالأسحار، والمتضرعين لله آناء الليل وأطراف النهار..
إن التضرع والدعاء هو السلاح الذي لا تملك مصانع الغرب أن تُصنِّعه، ولا يمكن لمختبراتها أن تكتشفه وتنتجه، إنه سلاح لا يملكه إلا تلك الأمة، التي جعلها الله خير الأمم، وهو سلاح الأنبياء والصالحين على مرّ العصور.
فبسلاح التضرع نجى الله المؤمنين وأُغرق أهل الأرض جميعًا، في زمن نوح عليه السلاح.
وبسلاح التضرع فَرَقَ وفَلَق الله البحر لموسى فكان كل فِرق كالطود العظيم، وجعله طريقا يبسًا لا يخاف دَرَكا ولا يَخشى، وأغرق فرعون وجنوده وهم ينظرون.
بسلاح التضرع نجى الله لوطا، وأمطر على قومه حجارة من سجيل منضود، مسوَّمة عند ربك.
بسلاح التضرع نجى الله صالحًا وأهلك ثمودًا، وأذلَّ عادًا وأظهر هودًا.
بسلاح التضرع أعز الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة:
ففي يوم بدر..
يومِ الفرقان.. والعدد قليل، والعُدة قليلة، هاهو رسول الله يتضرع ويدعو ربه ويستنصره ويلجأ إليه، حتى أنزل الله مدده: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}[الأنفال:9].
وفي يوم الأحزاب..
يوم ظنَّ بعض المسلمين أن الله أسلمهم لعدوهم، وبلغت قلوبهم إلى حناجرهم، دعا رسول الله ربه وتضرع إليه، حتى صرف الله عن المسلمين الشر وكفاهم كيد أعدائهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:9-11].
وعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم".
وأنا أعجب من قوم يستهزءون بالدعاء، أو يُقللون من شأنه، ويظنون أنه لا يجوز أن نسميه سلاحًا، بل هو قوة نفسية فقط، يلجأ إليها الضعيف، ليسلي عن نفسه جراء بعض الآلام التي لحقته..
وقديما قال الشاعر ردا على مثل هؤلاء:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما == تدري بـما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكـن == لها أمد وللأمد انقضاء
لا ينبغي التقليل أبدا من شأن الدعاء، فرب دعوة صادقة تخرج من قلب مؤمن بربه، مخلص بها، واثق بنصر الله، تتقلب بها الأحوال وتتبدل الأمور، فيشفي الله صدور المؤمنين، وينصر الضعفاء المظلومين، ويقهر الجبابرة المتكبرين،
فالله وعد من دعاه مضطراً منيباً، حال الشدة والكربة، أن يستجيب له، ويكشف السوء عنه، ويمكن له في الأرض، فيصير عزيزا بعد ذل، قويا بعد ضعف، قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ٱلأرْضِ أَإلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}
وحينها لن ينفع ندم المتكبرين، ولا بكاء الظالمين، ولا إيمان المضطرين: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين}[الأعراف:4-5]. {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}[غافر:84-85]. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل:112].
ولكن إجابة الدعاء متوقفة على الاستجابة التامة لله تعالى، والاستسلام المطلق له، قال تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186]، وتكون الاستجابة الكاملة لله تعالى بالرد إلى الله وإلى رسوله، أي: إلى كتابه وسنة نبيه، وعدم التحاكم إلى غيرهما، والحذر من سلوك سبل أهل الضلال والبدع والزيغ {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:153].
وختاما ندعو الله سبحانه أن يرزقنا الأمان في أوطاننا، وفي دورنا، وأن يصلح أئمتنا وولاة أمورنا..
اللهم إنا ندعوك فتقبل دعاءنا، نناديك فأجب نداءنا، نستغيث برحمتك فأغثنا.. اللهم أغث لهفتنا، واجمع شمل أمتنا، ولا تشمت بنا عدوا، ولا حاقدا ولا حاسداً يا أرحم الراحمين.. اللهم ردنا والمسلمين إلى الحق رداً جميلاً.. والحمد لله رب العالمين.
التعليقات (0)