يحيى البوليني
تاريخ الإضافة: 2/6/2009 ميلادي - 8/6/1430 هجري
مع انتشار الفضائيات، وظهور ما يسمَّى بدُعاة الفضائيات، والذي أدَّى إلى تغليب رأي على آراء، وتوجُّه على توجهات، كان يجب أن نقف وقفة تأمُّل، ونقيمها في هذا الوقت؛ لعِظَم حاجة الأمة إليها.
لقد منَّ الله على طائفة من العلماء والدعاة إلى الله اليوم، بمنابرَ إعلاميةٍ مؤثِّرة، ما توافرت لأحد من قبلهم، فماذا فعل العلماء والدعاة فيها؟ وكيف استغلُّوها؟
إن ما نراه من قنوات فضائية، تستقبل الدعاةَ إلى الله، وتفتح لهم أبوابها، وتغدق عليهم أيضًا بالعطاءات، حتى صاروا - بفضل الله - من أكثر أهل الأمة ثراء، ولا حرج؛ فهذا من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء، ولكن هل أدَّى الدعاة ما عليهم؟ هل عملوا بما يأمرهم به دينهم ونصيحتهم لله ولرسوله؟
فقد بايَعَ عبادةُ بن الصامت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على قول الحق، وعلى ألاَّ يخشى في الله لومة لائم، وفي رواية: على النصح لكل مسلم.
فالواجب عليهم النصح لكل مسلم؛ بما أنهم هم الموقِّعون عن الله - سبحانه - ويأمرون بأمر الله، ويحكمون بحكم الله الذي يُرضي الله ورسوله.
ولعلنا ننظر إلى ملاحظة، هي أن كل هذه المنابر التي يرتقونها من فضائيات، وإذاعات، ومواقع على شبكة الإنترنت، هي منابر تَرضى عنها الحكوماتُ، ولو شاء أيُّ ولي أمر لأوقفها بمجرد كلمة؛ بل بتلميح، إلا أن يشاء الله شيئًا.
فما معنى وجودهم إذًا؟ وما معنى تلك المساحات الهائلة التي يُسمح لهم بها؟
لا بد من إحسان الظن بدُعاتنا، ولكن هذا لا يمنع من نصحهم؛ ليقوموا بواجبهم الذي يرضاه الله ورسوله.
إن ما يفعله بعضُ دعاة الفضائيات الآن هو التوجُّه بحديثهم الدائم إلى الناس، ولا يتحدَّثون إلا بلغة الناصح الأمين للناس، في كيفية العودة إلى الله، والتقرُّب إليه، بالصبر على المكاره، والرضا بالقليل، والطاعة المطلَقة لأولي الأمر، وإن جَلَدَ ظهْرَك، وأَخَذَ مالَكَ.
يتحدَّثون إلى الناس دائمًا بلهجة المعاتِب على قلَّة صبرهم، وضرورة التحلِّي بالأخلاق الفاضلة، وعلى ضرورة سيرنا إلى الله بمزيد من التحمُّل، ولا يَذكُرون إلا النصوصَ التي تحثُّ على التصبر، والرضا بالقضاء، والدعاء، ولا يخرجون عن كتب الرقائق التي لا تطالب بأي فعل إيجابي لتغيير واقع مرٍّ يحياه الإنسان؛ بل تدعو دائمًا إلى الاستكانة والخضوع، وانتظار الفرج بموت ظالم أو هلاكه، ويكون دعاؤهم الدائم: "اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بين أيديهم سالمين"، وكأنه لا يوصل للجنة إلا طريقٌ واحد، هو طريق الصبر على المكارِه، وتحمُّل الشدائد.
إن هذا عينُ ما يطلبه كلُّ ولي أمر من الناس، أن يستكينوا ويخضعوا مهما فعل فيهم، ولا يرفضوا أيَّ ظلم وقع عليهم مهما كان، ولا بأس بوعدهم بالجنة - فهي ليست ملكًا لأي ولي أمر - وتخديرهم بالأمانيِّ، والحديث الدائم عن الآخرة، وكيفية النجاة من أهوالها، وهو حديث صادق غير منكر.
ولكن هؤلاء الوعاظ أو الدعاة يؤدُّون دورًا، أحسبهم غير متفطنين له، وهو تخدير الناس باسم الدِّين، وباسم العلم، وباسم طلب الوصول إلى الجنة.
ألا يَذكُر علماؤنا أن هناك مَن وقف للخليفة الراشد المحدَّث الملهَم عمرَ بنِ الخطاب، وهو أمير للمؤمنين، وقال: لا سمع لك ولا طاعة، حينما ظنَّ أن عمرَ قد أخذ لنفسه ما يزيد عمَّا أعطى المسلمين من الحقوق؟!
ألا يذكر علماؤنا عن الإمام أحمد أنه وقف لأربعة من خلفاء المسلمين متتابعين، ورفض التسليم بقضية خلْق القرآن، ووقف وحده، وتحمَّل الضرب والأذى، في وقتٍ كانت فيه الخلافة قائمةً، والجيوش المسلمة تتحرَّك لفتح البلاد؛ بل وفتحت عمورية في عهد الخليفة المعتصم، والإمام أحمد محبوس في سجنه بسبب قولة حق؟!
أم يملك دُعاتنا الأجلاء من النصوص، ما كان يجهله الإمامُ أحمد في زمنه، وهو إمام أهل السنة؟!
أم لا يتذكَّرون من الإمام أحمد فقط إلا أنه ألَّف كتابًا عن الزهد، إليه دائمًا يرجعون؟!
ألا يذكر علماؤنا ودعاتنا الإمامَ العز بن عبدالسلام يوم أن أصرَّ على إعادة أموال المسلمين إلى خزائن المسلمين، حينما أفتى بعدم أحقيَّة المماليك في حُكم البلاد؛ لأنهم مشترون بأموال المسلمين؛ ولذا فهم عبيد، ولا يحقُّ لهم أن يحكموا الأحرار، وأفتى ببيعهم، وإعادةِ أثمان بيعهم إلى خزائن المسلمين؟!
فلِمَ يترك العلماءُ الحديثَ عن أموال المسلمين المسروقة والمنهوبة، من قلَّةٍ لا تعرف ربًّا ولا دينًا، وتنتفخ كروشهم بأموال المسلمين؛ بل ويهرِّبونها خارج البلاد، ويتحكمون ويحتكرون موارد الناس ومعايشهم، حتى قال قائلهم: التوزيع غير العادل للثروة خيرٌ من توزيع البؤس؟! ولذلك فلا عجب أن يضيق الأمر، ويصل الحال إلى الاقتتال من أجل الخبز، ويقتل من يقتل وهو لا يطالب بهبةٍ ولا عطيَّة؛ بل وهو يحاول أن يشتري الخبز لأطفاله!
فما مصير المقتول؟ وما مصير القاتل؟ هل كلاهما في النار؟! أو كلاهما ضحية لغيره، وسيقف القاتل الحقيقي أمام ربِّه للحساب؟! وأخشى أن يُحشر الدعاة معه؛ لأنهم رأوا ذلك فلم ينصحوه؛ بل طالبوا الناس بالصبر، وتحمُّل المكاره، وانتظار الفَرَج.
ألا يذكر علماؤنا أن العز بن عبدالسلام أفتى بعدم جواز فرض ضريبة على الناس، لتجهيز جيش مصر للقاء التتار، حتى يؤخذ من الأغنياء أولاً الذين يرفلون في النعيم؟!
لِمَ لا يُطالِب العلماء بزكاة أموال أصحاب المليارات، في وقت يموت فيه بعض المسلمين من الجوع، ويلجأ الرجل إلى بيع دمه وأعضاء جسده؛ لكي يأتي بالطعام لأطفاله؛ بل وصل الأمر إلى بيع الناس بعضًا من أطفالهم؛ كي ينفقوا أثمانهم على الباقين؟!
نحن لا نطالبهم بالاجتماع لإصدار فتوى بخصوص بيع الأعضاء؛ ولكن نطالبهم بأن يقوموا بدورهم الذي وكل لهم.
لِمَ لا يطالب العلماء والدعاة بحقِّ المسلمين في زكاة الرِّكَاز، ومنها المعادن المستخرَجة من باطن الأرض، ففيها زكاة من حق الفقراء، وليست منحة ولا تكرُّمًا من أحد عليهم، ومعلوم أنها لا تخص قطرًا بعينه؛ بل إذا فاضتْ زكاةُ المال عن بلد، وجب أن تنقل إلى أقرب بلد لهم؟!
لِمَ لا يحارب العلماء والدعاة البذخَ الذي يعيش فيه بعضُ الناس، وبينهم وحولهم هذا الفقرُ المدقع؟!
لماذا يتَّجهون دائمًا إلى القتيل الذي يصرخ في لحظة قتله، ويطالبونه بالتصبر، وألاَّ يرفع صوتَه بالتألم، ويقولون: إن ابن عباس - رضي الله عنه - كان يكره الأنين؟!
أهذا هو دور العلماء الذين أشبعهم مَن يدفعون لهم، حتى إنهم لا يشعرون بمعاناة الناس وآلامهم؟! فقد كان يوسف - عليه السلام - وهو ملك مصر يصوم يومًا، ويشبع يومًا، ويُسأل عن ذلك، فيقول: أخاف أن أشبع، فأنسى الجائع!
لماذا تتجهون دائمًا بالنصح والإرشاد والمعاتبة إلى الطرف الأضعف، الذي لا يملك من أمره شيئًا، وتتركون مَن بيدهم إصلاحُ الأمرِ كلِّه؟!
ألهذا الدور المهم مُنحتْ لكم تلك المساحاتُ: أن تقوموا بدور في تخدير الناس، وطمأنتهم أن الدنيا زائلة، وأن ما عند الله خير وأبقى، والواجب على المسلم أن يترك الدنيا بما فيها ومَن فيها؟!
هل يختلف هذا عن مفهوم (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) الذي سمعناكم تقولون عنه: إنه مبدأ يخالف منهج الإسلام؟
وأقول - وإن لم أكن من أهل العلم -: والله ما كان هذا منهجَ رسول الله، ولا منهجَ صحابته، ولا منهجَ علماء السلف يومًا.
إنكم تُستغَلُّون يا معاشر علماء ودعاة الفضائيات، تُستغلون في غير ما نويتموه، وتسير خطة مَن خطَّط لذلك.
أقولها وأنا أحسن الظن فيكم كما أمرنا شرعنا الحنيف.
فهل نجد وقفة من علمائنا ودعاتنا، يعيدون فيها الصورة الحقيقة بالعالم والداعية المسلم، ويكون على قولة عبادة بن الصامت - رضي الله عنه؟
معاشر علمائنا ودعاتنا الكرام:
قولوا كلمة الحق في كل الميادين، لكل الناس، حكامًا ومحكومين، أغنياء وفقراء، ولا أطالبكم إلا ببيان الحق للجميع، ولْيأخذْ به مَن شاء أن يأخذ، وإلا فسوف يتعلَّق الناس جميعهم برقابكم يوم القيامة، ويسألونكم: لِمَ تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
التعليقات (0)