عبدالهادى الحاج
أن الشعوب هي التي تترك القيود تكبلها، بل أنها تكبل نفسها بنفسها ما دام خلاصها مرهوناً بالكف عن خدمة سيدها، طاغية كان أو دولة أو نظام. وأن الإستبداد متى دخل وخضع له جيل من الأجيال، استسلمت له الأجيال التالية إستسلامها لوضع طبيعي يصبح عندها عادة لا ترى فيه غرابه ما دامت قد ولدت في ظله ولم تخبر وضعاً غيره.
اتين لابويسيه
قاض ومفكر فرنسي
أن أى تحليل للمشهد السياسى السوداني الراهن لابد أن ينطلق من قراءة لواقع طرفى المعادلة التى يمثل النظام الحاكم أحد طرفيها وبالمقابل يمثل الشعب السوداني بمختلف أطيافه السياسية والإجتماعية الطرف الآخر، وتأتى النتائج المحتملة للمعادلة وفقاً لما تحدده تفاعلات الطرفين سلباً وإيجاباً نحو السير فى الإتجاه الصحيح، وبالعودة لقراءة موقف النظام نجد أن ملمحه العام يتحدد طبقاً لعدد من الظروف الموضوعية التى ساهمت فى إيجاده وتلك التى ضمنت له عوامل الإستمرار خلال سنوات عمره التى تجاوزت الأربع وعشرون، شهد خلالها مراحل مختلفة بدأت بولادة قيصرية أتت به لمفاصل السلطة، ومن ثم مرحلة قوة وتمكين، قدرت له بسط جبروته، ومن ثم ضعفت بنيته بفعل الإنشطار الثنائى الذى أصابها، ليدخل فى مرحلة أخرى من التمكين الهادئ على عكس الأول الذى صاحبه الكثير من التشنج والسلوك الهستيرى، وقد هيّأ ذلك الجو من الراحة والسكينة عبر زواج متعة جمعه تحت سقف واحد مع اعداء الأمس، وما أن إنقضى ميقات تلك الزيجة حتى عاد لمرحلة ضعفه مرة أخرى، وفى هذه المرة كان الضعف بائناً بسبب مؤخر الصداق الباهظ، وبسبب عوامل الإنشطار الداخلى الذى أتى هذه الدورة أميبياً خالصاً.
قصدت عبر هذه المقدمة أن أمهد لقراءة الوضع الراهن لنظام الإنقاذ فى سياق ظرف الشتات الذى يعيشه والأمواج المتلاطمة التى تمور داخل جسمه، والمتابع للشأن الداخلى للنظام يكاد لايجد مرحلة من عمره يبدو فيها ضعفه ووهنه جلياً أكثر من المرحلة المعاصرة، بحيث لايحتاج البرهان على ذلك إلى كبير عناء، فهاهى الأجنحة المتصارعة تتجلى حربها للعيان عبر مؤسساته السياسية والأمنية، ويكفى أن تقصف الطائرات الإسرائيلية مصنعاً للأسلحة فى قلب الخرطوم لتصبح تلك الحادثة ذلة يلوح بها قادته فى وجه بعضهم البعض، ويكفى أن يمرض رئيسه ليصبح مرضه ورقة يستخدمها أحد تلك الأجنحة لتامين وجوده وإقصاء الآخرين، ويكفى أن تنطلق من أقصى المدينة شائعة عن إنقلاب عسكرى حتى تُنشر قوائم المتورطين فى العملية وتمتلئ غياهب السجون بمن كان بالأمس يصدر الأوامر والفرمانات، بل ويصل الأمر حد الإتيان بمريض نفساني ليرأس المؤتمر العام للحركة الإسلامية التى نُبشت من قبرها وجئ بجثمانها كشاهد على الإصطراع، فهذا هو حال النظام ولاعزاء لدولة المشروع الحضارى التى أنهكتها عوامل الحروب والمجاعة والنزوح وفقدان الحياة الكريمة.
ربما لايجدى الخوض فى تفاصيل تلك الصراعات التى يعملها كل من يتابع الشأن العام دون قرب منه، ومن تقع عينه كل صباح على عناوين الصحف السيارة أو صفحات المواقع الأسفيرية، وعرض سيناريوهات الصراع فى هذه المقالة ياتى من باب لزوم مالايلزم، وخلاصة المقصد هو أن النظام بات جسم متصارع تتهاوى أعمدته، وتتقاتل أجنحته، ضعيف سياسياً وأمنياً وبالطبع أيدلوجياً، نظام منهك إقتصادياً بفعل شح موارد الدخل العام وعوامل الفساد الداخلى والصرف على أجهزته المترهلة، نظام يفتقد لتناغم مؤسساته السياسية التى باتت تعمل وتقرر وتصرّح كجزر معزولة عن بعضها البعض تماماً، أو بالأحرى نظام أصابه الموت فقط ينتظر إعلان وفاته رسمياً وتشييعه.
أما الطرف الآخر فى المعادلة وهو جموع الشعب السودان، فلمن اراد أن يتلمس مدى تطلعه للتغير لابد أن يستصحب نقطتان مهمتان تسيطران على وعيه الجمعى وتشكل كل منهما محوراً لعدد من التساؤلات، النقطة الأولى تتمثل فى سمة المقاومه السيكلوجية لأى رغبة فى تغيير الوضع الراهن وصناعة وضع جديد غير مأمون العواقب، أو(إستبدال القشعريرة بالعافية)، كما عرفها عبد الرحمن الكواكبى فى سفره طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد، وتلك الرغبة تنبع من طبيعة الشخصية السودانية الرافضة للتغيير، إلا ذلك الذى يأتى بالقوة مثل الإنقلابات العسكرية، أو بمحض عوامل آنية تنتقل خطواتها بصورة متلاحقة وتأتى فصولها بصورة متسارعة، لاتترك مساحة لإعمال التفكير وتأمل المشهد مع وجود أسباب تبرر ذلك التغيير عقب حدوثه وبعد أن يصبح واقعاً، وفى إعتقادى أن ذلك ماحدث خلال ثورتى أكتوبر وأبريل حيث جاء التغيير سريعاً وحاسماً على الرغم من أن المناخ العام الداعى لضرورة التغيير كان يبدو أقل حدة مما نعايشه اليوم، والشارع يعلم تماماً بأن النظام اليوم أصبح جثة هامدة أشبه بجثة النبى سليمان حينما قبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاته، لكن هيبته وقوته وجبروته وهو حى حالت دون أن يدرك خدامه من الجن حقيقة موته إلا بعد زمن طويل من حدوثه وبعد أن دلتهم على ذلك دابة الأرض التى إلتهمت عصاته فسقطت الجثة وكُشف الأمر وتوقف الجن عن الطاعة.
أما النقطة الثانية فهى تعتبر إمتداد للأولى أوتفسير لها، وهى ماهية البديل القادم عبر هذا التغيير، وذلك سؤال مشروع طرحه الشارع العام قبل أن تستثمره مؤسسات النظام الأمنية وتعمل على الترويج له من باب تثبيط الهمم نحو صناعة التغيير، والتخويف من القادم المجهول والتذكير بالتغييرات المماثلة التى مر بها السودان والتى أنتجت بديلاً دون طموحات الشارع العريضة، وبذلك يصبح السؤال عن البديل بمثابة دعوة مبطنة لعدم الإندفاع نحو تغيير الوضع الراهن وقبوله بسؤاته.
وهنالك فئة من الشعب السوداني رأت أن صناعة تغيير على النمط الكلاسيكى غير وارد، وبالتالى فلابد من إنتهاج نمط آخر رغم كلفته الباهظة، لكن على الأقل يبدو منطقياً من وجهة نظرها وقد تم تجريبه، وإن كانت نسبة نجاحه فى صناعة تغيير شامل ضئيلة، إلا أنه على الأقل يضمن صناعة تغيير جزئى، يتمثل فى دفع النظام لإقتسام كعكة السلطة عبر فوهة البندقية وذلك أضعف الإيمان طالما ليس بالإمكان إجباره لأن يتخلى عنها كليةً.
وصورة الشارع السودانى فى مجملها أصبحت تتسم بالحيرة والإندفاع، الحيرة من عدم وجود إجوبة شافية لمجموع الأسئلة التى تدور فى الأذهان حول متطلبات ونتائج وإنعكاسات التغيير المجهول، والإندفاع نحو صناعة التغيير بالوسائل العنيفة وإحكام منطق القوة نحو صناعة التغيير المطلوب، والتعاطى إيجاباً مع هذين النقطتين يمثل المفتاح السحرى لأبواب التغيير الذى يلبى متطلبات كافة فئات الشعب السودانى.
وهنالك قوة أخرى لايمكن إغفالها فى هذه المعادلة وقد تعمدت وضعها فى الهامش لسبب غياب رغبة التغيير الحقيقى داخلها وإن كانت ترغب فى تغيير من نوع آخر يضمن لها الحفاظ على مكتسباتها الموروثة، ولايهم إن أتت تلك المكتسبات عبر بوابة النظام أو بوابة الشارع المتطلع للتغيير، لذلك لاترى لها موقفاً بيناً ولا راياً ثابتاً بل تجدها على الدوام تبحث عن مؤطى قدم فى أرض الذى يمتلك القوة، فإن كانت الغلبة للنظام فهى فى القصر وإن كانت الغلبة للشعب فى الشارع، تلك القوة التى يعبر عنها قادة الأحزاب التقليدية الذين يقودن خلفهم قطاع كبير من المُغفلين والمُستغفلين من جموع الشعب السوداني، وعلى الرغم من موقفها الإنتهازى والسلبى نحو تطلعات الشارع نحو التغيير، إلا أنها حتماً سوف تجد نفسها مرغمة على السير فى الإتجاه الصحيح، حفاظاً على مكتسباتها خلال الفترة التى تعقب تشييع النظام، لذا تصبح هذه القوة فى موقف الحياد السلبى حتى يقول الشارع كلمته، وحينها سوف تعمل على ترجيح كفته عندما ترى أن مصالحها باتت فى اللحاق بقطار التغيير.
تلك هى المعادلة إذن، نظام ميت متهالك يتكئ على عصاة هيبته المصطنعة والبالية، وشارع تتملكه الحيرة فيما يمكن أن يصنعه وتتعاظم بداخله هذه الحيرة لتدفعه للخضوع للنظام الميت بحكم الأمر الواقع، أما من رفض الخضوع فقد سلك طريق التغيير العنيف عبر الآلة العسكرية، وفى المنتصف قوة إنتهازية تراقب المشهد وتقرأ ثيرمومتر الأحداث لتقفز فى المكان الذى يضمن لها مكاسبها فى السيطرة ومواصلة الإستغفال، والسبب فى وجود هذه الحالة النشاذ هو غياب الرؤى السديدة والبرامج الواضحة القادرة على إقناع الشارع برفض الإستمرار فى الخضوع لنظام شبع موتاً والتعبير عن موقفه عبر الطرق السلمية، ومواجهة النظام بحقيقة موته، ولابد أن يلتف الجميع حول تلك الرؤى وذلك يقتضى التعاطى معها بمنهجية وطنية رحبة لاحزبية ضيقة، وفى ذات الوقت إقناع القوى المندفعة نحو حمل السلاح بضرورة تغيير منهجيتها والعمل سوياً مع القوى المؤمنة بالتغيير السلمى من الداخل حتى يتمكنا بيد واحدة من إزاحة جثة هذا النظام من كرسى السلطة، ويجب أن تحمل تلك الرؤى الضمانات الكافية لقوى التغيير العنيف بأن الوضع القادم سوف يحفظ لها مكتسباتها التى دفعت من أجلها دماء غالية فى سبيل صناعة واقع يتسع لتطلعاتها فى وطن قادر على إستيعاب الجميع، ودون صياغة تلك الرؤى بلاشك سوف تظل جثة نظام الإنقاذ تحكم الشعب السوداني إلى أن ينجلى الأمر الذى فيه تختلفون.
التعليقات (0)