فى مثل هذا اليوم من خمسة وأربعين عاما كانت شوارع القاهرة وجميع محافظات مصر غاصة بالجماهير التى تطالب ببقاء عبد الناصر فى موقعه رغم الهزيمة المذلة , وذلك بعد الخطاب الغرائبى الذى ألقاه مساء التاسع من يونيه , والذى كتبه هيكل الذى يجيد الكلمات وبلاغة التعابير , ولكن فضيحة الهزيمة كانت تتحدى بلاغة هيكل وتبريراته , فأجرى على لسان عبد الناصر مثل هذه العبارة الفضائحية - لقد توقعنا الضربة من الشمال والغرب فجاءتنا من الجنوب والشرق - , وفور انتهاء عبد الناصر من خطابه خرجت جماهير الشعب تحت جنح الظلام مطالبة ببقاء الرجل الذى سبب لها الهزيمة والعار , وتحركت الآلة الإعلامية المدلسة والمخدوعة , وسمعنا لعبد الحليم حافظ أغنية - ولا يهمك ياريس م الأمريكان ياريس حواليك أشجع رجال - كما غنت أم كلثوم - قم واسمعها من أعماقى فأنا الشعب , ابق فأنت الأمل الباقى لغد الشعب - , وانعقد مجلس الشعب فى مثل هذا اليوم , حيث أرسل له عبد الناصر خطابا يعلن فيه إلغاءه قرار التنحى نزولا على رغبة الجماهير , ونقلت كاميرات التلفاز صور بعض الأعضاء وهم يرقصون على مقاعدهم فى المجلس طربا وفرحا ببقاء القائد الملهم حبيب الملايين , اعتبر عبد الناصر خروج الجماهير التى خدرها إعلامه غسيلا لساحته من عار الهزيمة , وفى بعض الخطب بعدها ذكر أن خسارة معركة ليس الهزيمة ولكن الهزيمة هى سقوط الإرادة , معتبرا أن بقاءه فى موقعه يلغى معنى الهزيمة من وعى الجماهير فى تلاعب هيكلى بمعانى الكلمات وعقول الشعوب , . هذا ما حدث عند الأمة المهزومة , فماذا حدث عند الأمة المنتصرة ؟ لقد نشرت إحدى الصحف السويسرية صورتين فى اليوم التالى .. صورة لجماهير مصر ترقص فى الشوارع وصورة لجماهير إسرائيل وهم يسيرون منكسى الرؤوس حدادا على ضحاياهم فى المعركة , وتحت الصورتين هذا التعليق المهين - شعب يحتفل بالهزيمة , وشعب ينعى ضحاياه - تأملوا معى فى دلالة هذا التعليق ! ذلك أن ضحايا إسرائيل على الجبهات الثلاث كان بضع عشرات أما ضحيا العرب فكانوا عشرات الألوف , المزعج أن عندنا نفس الشعب ونفس الثقافة التى زادت انحدارا وتدهورا , وعند إسرائيل نفس الشعب ونفس الثقافة الى زادت قوة وفطنة وتقدما . نعم نحن نستحق حكامنا السابقين وما صنعوه لنا من هزائم ونستحق حكامنا القادمين الذين سيضعوننا فى كهوف العصور الوسطى , ولكن تبقى لنا مفاخرنا من أشعار الحماسة , واستدعاء أمجاد زائفة تجعلنا سعداء ومبسوطين بنوع حياتنا ومفارقاتها , وانشغالنا بالاقتتال حول قضايا شكلية وهزلية , ولا يبقى أمام النخبة المفكرة الواعية المحبة للوطن والحياة لا يبقى لها إلا تجرع مرارة كؤوس الاكتئاب
التعليقات (0)