مصر وفلسطين.. الحياد السياسي والإنحياز الإنساني
بلال الشوبكي
قبل ما يقارب الثلاثة أعوام، وقفت تسيبي ليفني في قلب قاهرة المعز لتهدد أهالي غزة وتقول لهم: كفى! كان لخطاب ليفني وقع الخناجر على القلوب، وكانت الحرب بعده أخف وطأة على الفلسطيني منه، ليس لجديد في لغة الخطاب وإنما لجديد في المنابر. في ذات الوقت كان المصريون قد بدأوا توجيه صيحاتهم لمبارك قائلين له: كفاية! ما بين كفى وكفاية كانت مصر تحمل في أحشائها جنين الثورة، وما بين بسمة الحالم بمولود الحرية وعبسة الحاكم مما قد تضعه الجماهير، كان الفلسطينيون يرقبون تحقق الحلم، فقد تشربت عقولهم عبارة تقول: إن مصر بوابة السلام والحرب.
وحين يكون السلام مجرد علامة استفهام تعلو جبين القيادة في رام الله، فالسلام أضحى لها لغزاً حلّه في واشنطن، وحين تدق إسرائيل طبول حربها على غزة، لا بد أن تشخص أعين الفلسطيين نحو مصر حيث المخاض قد بدأ. شعبياً ورسمياً كان الاهتمام الفلسطيني واضحاً، فالمسألة ليست تعاطفاً وتضماناً فقط، وإنما مصائر مشتركة، تم التعبير عنها شعبياً بمسيرات التأييد للثورة في كل من الضفة وغزة، أما رسمياً فالمؤشر على أهمية مصر وثورتها عكسه صمت الساسة في كلٍّ من غزة والضفة، فالصمت ليس تعبيراً عن الحياد، إذ كانت حماس تتوق لاختفاء مبارك وفتح تمنّي النفس ببقائه، لكن البوح بما أسرّت به الصدور كان يعني مجازفة سياسية لفتح إن نجحت الثورة ولحماس إن فشلت، فقد تعلموا الدرس جيداً من غزو صدام للكويت.
رحل مبارك، وابتهج الفلسطينيون جميعاً، محبو مبارك قبل كارهيه، لكن التساؤلات حول ماهية الأثر الذي ستتركه الثورة على القضية الفلسطينية قد بدأت. بين متفائل ومتشائم جاءت التساؤلات لتعكس حالة من الوعي بأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر، حقيقةً؛ فإن السواد الأعظم كان للمتفائلين الذين وصل الأمر لدى البعض منهم أن يتوقع زوال إسرائيل قريباً. هذه السطور هي استجابة لموجة التساؤلات تلك، وعليه فإن قراءةً لانعكاسات الثورة على الوضع الفلسطيني تتطلب طرح محددات الدور المصري المحتمل، وهي كالآتي:
أولا: الثورة المصرية ليست منفصلة عمّا قبلها من ثورات ولا عمّا بعدها، والقراءة لدور مصر استراتيجياً لا يمكن أن تتم بمعزل عن قراءة مجمل الوضع العربي. باختصار تستدعيه هذه المقالة؛ فإن الوطن العربي بدأ يتشكل من جديد بنوعٍ من التمازج الذي سيختفي فيه الأبيض والأسود لصالح اللون الرمادي، وبمفردات لا أفضل استخدامها فإن الشكل الجديد سيختفي منه "الاعتدال" و"الممانعة" لصالح الحياد السياسي والانحياز الإنساني، وهو جلّ ما يتمناه الغرب في هذه اللحظات.
ثانياً: سلم الأولويات في مصر الحالية لا يشير إلى أن السياسة الخارجية أو القضايا القومية تأتي في المقدمة، فأبناء الثورة وقيادتها لديهم من المشاغل الداخلية ما لا تحويه عقود. وما يمكن أن يزيد من حدة التوجه إلى الشأن الداخلي وتهميش القضايا القومية هو التغيير السريع الذي سمح بالقول أن هناك لحظة انتصار، فالتغيير التدريجي لا يتيح ظهور اللحظات الانفعالية لتدرج النتائج على شكل تطورات طفيفة لا تثير نفوس الجماهير. إن تشكّل لحظة الانتصار بفعل التغيير السريع كما أشرت تعني رفضأ شمولياً لإرث المهزوم دون تفكيرٍ بجدوى أو ضرورة التغيير لهذه الجزئية أو تلك.
وبما أنه قد عرف عن مصر في عهد مبارك انشغالها الكبير بالقضايا القومية، فإن عامة الناس لن تبدأ بالتحليل في ماهية الدور السابق على الصعيد العربي وكيف يمكن تصويبه بقدر ما ستتجه إلى العزوف عن لعب هذه الدور، فالثقافة السياسة التي تشكلت في مصر وعززتها بعض التيارات السياسية أن مصر داخلياً تدفع ثمن انهماكها في قضايا العرب وخصوصاً قضية فلسطين. لذلك فإن المواطن المصري سيتقبل فكرة الابتعاد عن هذا الصخب في الشرق الأوسط أكثر من تعزيز دوره، وما كرّس هذا التوجه هو حصار غزة وما أدى إليه من الإضرار بصورة مصر.
ثالثاً: لا يوجد في مصر حالياً بدائل سياسية ذات اهتمام قومي تشكل منافسة حقيقية للصعود إلى قمرة القيادة في مصر الجديدة. فالإخوان المسلمون ما زالوا في مرحلة عرض التطمينات على المجتمع المصري والقيادات العلمانية المتخوّفة من أجندة الأسلمة المزعومة، وهو ما دفع قيادة الإخوان للإعلان عن عدم الرغبة في قيادة مصر، مضافاً لذلك انشغال الإخوان وكما هو حالهم في مجمل الدول العربية بإطلاق رسائل التهدئة والطمأنة للمجتمع الدولي مفادها أن لا ناويا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، أو محاولة تنفيذ أجندة نابعة من الأيدولوجيا في الشأن الخارجي. أما التيارات القومية في مصر فلا يبدو أنها ما زالت قادرة على اللعب بفاعلية في الشأن المصري في ظل افتقارها للقاعدة الجماهيرية الواسعة والمؤمنة بالحلم العربي المشترك.
رابعاً: هناك جزء من شباب الثورة والتيارات السياسية المشاركة فيها يؤمنوا بأن درجة الالتزام باحترام مصر كمؤسسة يجب أن يصل إلى احترام اتفاقياتها مع العالم أجمع بما فيهم إسرائيل، وفي ضوء أهم نتائج الثورة وهي انبثاق التعددية السياسية لا يمكن أن تلغى مثل هذه الأصوات أو أن تهاجم كاستحقاق لمكاسب الثورة.
خامساً: مصر بأولوياتها الداخلية التي يمكن تلخيصها في التنمية المستدامة، لا يمكن أن تتم في ظل المنظومة الاقتصادية العالمية دون اهتمام بلغة المنفعة والمصلحة على الصعيد الخارجي، وهو ما قد يتطلب الإبقاء على خيار التحالف مع الغرب مطروحاً بقوة، خاصة أن التغيير السريع في مصر لم يسمح بتغيير مجتمعي يؤسس لبنية اقتصادية تؤهل مصر لاستقلالية النشاط الاقتصادي.
لكن رغم كل هذه المحددات التي تشير بأن الدور المصري على المستوى الاستراتيجي لن يحمل تغييرات إيجابية بشكل جوهري للقضية الفلسطينية، فإن ما حدث في مصر قد يدفع إلى بعض التطورات التي سيُنظر لها كإنجاز بمقاييس المدى القريب والمتوسط، والسبب الذي يمكن أن يدفع القيادة المصرية الحالية للعب دور إيجابي تجاه الفلسطينيين رغم كل المحددات السابقة، أن هناك عاملاً مساعداً يلعب دور النقيض للعوامل المحددة السابقة لكنه لا يلغي تفوقها. هذا العامل هو حاجة القيادة المصرية إلى إثبات الوطنية وخصوصاً في مجال استقلالية القرار، والسيادة الحقيقة. فالمجتمع المصري سئم حالة الخضوع لإملاءات القوى الدولية، ورغم رفضه للانشغال بقضايا الخارج، إلا أنه بحاجة إلى جرعة من المواقف التي ليس بالضرورة أن تكون استراتيجية بحيث تشبع حاجته للشعور بالاستقلالية والسيادة.
في مثل هذه البيئة السياسية فإن السياسات المصرية المتوقعة تجاه القضية الفلسطينية يمكن طرح أهمها فيما يلي:
- مصر ستكون متوازنة في علاقتها مع فتح وحماس، بحيث يبتعد دورها عن دور الوسيط أو دور المنحاز ويقترب من الدور الأبوي الذي يزيح عبء تحمّل المسؤولية عما قد يقترفه أي طرف فلسطيني، كما يزيح عنها إثم عدم التدخل، وهو دور أشبه بدور المملكة السعودية إبان عقد اتفاق المصالحة في مكة. لكن هذا الدور ليس كافياً ولا يلبي الطموح الفلسطيني، فالدور الأبوي أثبت فشله في ظل غياب صلاحية الأمر والنهي، لذا فإن المطلوب دورٌ مصريٌّ منحازٌ لخيار الشعب وعلي الصعيد الفلسطيني هذه المرة.
- فيما يرتبط بالعلاقة مع إسرائيل، فإن مصر ستغير من صيغة التخاطب مع إسرائيل بشكل يعكس الحد الأدنى من نبض الشارع، وفي نفس الوقت لا يحدث انقلاباً جذرياً في طبيعة العلاقة مع الغرب وإسرائيل. هذا بالنسبة للخطاب السياسي، أما على مستوى السياسات، فإن مصر ستعكف على إعادة النظر في مجمل الاتفاقيات التي يشوبها الفساد وتتجاهل مصلحة المواطن اقتصادياً، وهنا سيتم الإلغاء التدريجي لبعض الاتفاقيات وخصوصاً تصدير الغاز والتعاون الإقتصادي في بعض المجالات، بما يلبي حاجة الشارع لمثل هذه السياسات معنوياً، وما قد يسهم في محاربة الفساد على صعيد العملية التنموية المنشودة.
- ستعزز مصر من سياسة الحياد السياسي بحيث تنسحب تدريجياً من التدخل المباشر في الشأن الفلسطيني سياسياً وخاصة إذا استطاعات إنجاز ملف المصالحة، كما ستبدأ في سياسة الإنحياز الإنساني متمثلاً في بقاء التضامن والتعاطف مع الشأن الفلسطيني وقضاياه ورفض العدوان عليه دون أن يرتقي الدور إلى منع العدوان أو تغيير الوضع. لكن الإنحياز الإنساني سيترجم بشكل عملي أكثر حين يتم اتباع نهج جديد في التعامل مع قطاع غزة يضمن عدم إلقاء اللوم على مصر إن استمر الحصار، وشكرها ورفع أسهمها شعبياً إن تم إنهاء الحصار، وهو ما قد يجبر القيادة في رام الله إلى تغيير معايير المصالحة بحيث تصبح أكثر مقبولية لدى حماس، خاصة في ظل عملية التسوية المأزومة.
مجلة القدس المصرية
• كاتب ومحلل سياسي فلسطيني- ماليزيا.
التعليقات (0)