لا أظن أن هناك عددا كبيرا من المصريين يعيش هذا الشعور البالغ القسوة الشديد الإيلام الذى يعتصر نفسى , ويغتال هدوئى , ويجعل أيامى الباقيات وقتا للأسى الموجع ,والمعاناة الفوق الاحتمال , وأعنى به شعور الغربة فى الوطن , ذلك أن الشعور بالغربة يكون أمرا طبيعيا حين يضطر الإنسان لمغادرة وطنه , ويشعر بأنه يعايش أناسا مختلفين , وتقاليد غير ما نشأ عليه , وأنماط سلوك غير ما عهده , . ويكون عزاء الإنسان فى هذه الحالة أنها ضريبة الغربة التى قد تنتهى بعودته إلى وطنه , أوقد يتلاشى الإحساس بها إن طالت هذه الغربة . هذا كله أمر طبيعى , ولكن أن يحس الإنسان بغربة شديدة الوحشة , وهو على نفس الأرض , ومع نفس البشر , فهذا هو المريع فى الامر , وهنا سآخذ من نفسى نموذجا فأقول : بأن الكثيرين ينظرون إلى آرائى ومواقفى باستغراب وإنكار مع أننى لم أتغير , فمواقفى وآرائى هى ذاتها التى كنت أعرضها قبل عشرات السنين , ولكنها لم تكن تقابل بهذا القدر من الإندهاش , أنا رجل علمانى , أبنى علاقاتى بالناس على هذا المبدأ , أقدر الصادق الأمين أيا كان معتقده , ذهب إلى المسجد , أو لم يذهب , لا أقرّ تعبير أن فلانا هذا -بتاع ربنا - لمجرد أنه اطلق لحيته , أو أنه أسس جمعية لتسهيل السفر للحج والعمرة . كما أننى لا زلت حتى الآن أنتشى بسماع أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ , وأجلس أمام التلفاز لأشاهد الأفلام العربى منها والأجنبى , ولا أشعر بالذنب إن عُرض مشهد من هذه المشاهد التى يصفونها بأنها خارجة . كل ذلك لسبب بسيط جدا , هو أنى كنت كذلك ونشات على هذا كما نشأ عليه كل رفاقى وزملائى وأصدقائى , كنا شبابا أزهريين نقرأ القرآن وندرس العلوم الشرعية , وفى نفس الوقت ندخل السينما ونقرأ أشعار نزار وقصص نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهم من أدباء ذلك العصر , وكانت الليلة التى ستغنى فيها أم كلثوم ليلة رائعة نجتمع جميعا حول المذياع , -ونهتف الله يا ست - , وأظن أنه لو جرؤ أحدنا على القول بأن الغناء حرام لاتُّهم بالجنون . أكرر أننى ذات الإنسان , بنفس الأفكار ونفس المشاعر , لم أتحوّل أو أتغير , ولكن الذ ى تغير هو الوطن , هى الأفكار والمعتقدات , هى سلّم القيم الحاكمة التى تفصل بين ما هو صواب ونافع , وبين ما هو خطأ وضار , أصبح الخطأ أن يضع الإنسان فى يده خاتم الخطوبة الذهبى , وليس الخطأ ان يكذب ويدلس , والخطيئة ان تكشف المرأ ة شعرها , وليس الخطأ أن تعرف أنها تنفق أضعاف دخل زوجها , وأن الباقى هو من عائد الرشوة , أصبحت مشاهدة بعض الأفلام حرام , بل إن البعض قد حرّم جميع الفنون , أصبحت المدن مستباحة فلا أحد يهتم بنظام او نظافة , بل تم اغتيال قوانين البناء , وأصبحت الشوارع غابات من الأسمنت , وتم التحايل بالرشوة والمحسوبية من المقاولين الذين دمروا التراث الحضارى للمد ن, وكلهم يحمل لقب الحاج , وبعضهم يقيم موائد الرحمن فى رمضان . أنا لم أعد أستطيع السير فى شوارع مدينتى التى كانت عروسا للبحر , ولا أستطيع الدخول فى حديث أدافع فيه عن حضارة مصر وفنونها وإبداعها دون أن أدفع ثمن ذلك تهجماواندهاشا , إننى أذكر أننا كنا فى شبابنا نحن الأزهريين نقوم بنقد النص الدينى نقدا عقلانيا , وبعضنا كان يتمادى فى ذلك دون أن يتعرض للتهجم أو التهديد , ذلك لاننا كنا كبار العقول كبار التصرفات , كما ازعم أننا فى هذا الزمن كنا نعيش فى مجتمع اكثر أمانة وصدقا , وتسامحا وزهذا فى كماليات الحياة وبعدا عن السفاسف والخطايا , رغم سفور نسائه , ورغم لبس رجاله لدبلة الزواج الذهبية . ما الذى حدث إذن ؟ لماذا هذه الغربة الموجعة التى تلفنى بردائها الأسود ,مع أننى لازلت فى ذات الوطن , وأنا ذات الأنا لم أتغير , ولكن الذى تغير هو هذا الوطن وهم ناسه وأهله لأنهم وقعوا ضحايا لمن يجعلون الطريق إلى الجنة مفروشة ببعض الطقوس والمظاهر , وألوان القمع والتحريم
التعليقات (0)