مراثي الليل .. (قصة قصيرة)
عندماتنقطع الاصوات و تتضائل الخطوات، مراثي الليل تتحول إلى هذيان صامت ومحموم, ويرتسم أمام المواقف الزائفة أبدا ألف سؤال وألف علامة استفهام وتبدأ الحكاية بعد إن أوشكت على النهاية ..
في الردهة الطويلة التي يخيم عليها السكون والكآبة ،كانت العيون زائغة من حولها ،خوف مجهول يرسم علامات تائهة على الوجوه الشاحبة ،همسات غريبة وكلمات تقال كل يوم ، حركت يدها وأرسلت نظرة باهتة ، اقتربت منها سمعتها تهمس وسط حشرجات تنفسها المضطرب ،قالت بوهن ارفع وسادتي لأكلمك ، همست .. ادفني قربهم أنت تعرف المكان ،وددت لو أراه ألان أين هو ؟
لو إن أحدا يدفع بسريرك خارج الردهة ، لوكان بأستطاعتك النهوض لتسنى لك رؤية السماء تلك الظهير وهي تنقلب خضراء ،لو إن حاملو الجنازة تريثوا قليلا ، كنت تودين قبل هنيهة إن توفري عليه تعب المجيء ،ولكن هي كانت غصة في الحلق اسمها الابن البكر المدلل ، وكأننا لا نكفي لسد تلك الفجوة العميقة ، تلك الرغبة المجنونة المشبوبة بالعواطف برؤيته قبل الرحيل ،رغم بعده وجفاه عنك كل تلك السنين ،حيث الوقت يكون قد حان لان تكوني قد استيقظت مسرعة من سريرك كما يستيقظ الأطفال عندما يومض الصباح متسللا من خلل مصاريع الأبواب والنوافذ خلسة ، تتسللين مسرعة لعناقه وأحتضانه بين ذراعيك كطفل صغير وتبدأ حينها معزوفة البكاء والعتاب ،كم كانت رغبتك شديدة في رؤيته قبل الهجوع على هذا السرير المقيت ، ولكن فات الأوان حيث إن حاملو الجنازة هموا بصعود السلم المفضي إلى الردهة ، بإمكانك سماع أصواتهم وهم يسعلون لاينبسون بأية كلمة يغلفهم الصمت بانتظار إتمام مهمتهم ، ما أقساهم ليس للحزن مكانا في قلوبهم المتحجرة، لاباقة آس ، ولاضوع بخور تضمخ تابوتك الكئيب ، ليس سوى بطانية قديمة تدثر الخشب المبلول بالمطر ، كنا نقف على ناصية الرصيف واجمين وقفنا هنيهة ومن ثم تحرك الجمع دارت السيارة في باحة المستشفى حيث يسقط شعاع القمر على المدخل مباشرة وسرعان ما ياتي الرجال لنتعاون على حمل تابوتك فوق ظهر السيارة ومن ثم تمضي إلى بيتك الجديد الأبدي، مبتهجة ومرحة ، علك سترينه عبر الفناء أو حتى هناك في محطات الاستراحة على الطريق السريع ،ربما سيمهلونك قليلا حتى تشبعي من رؤيته وعناقه ، البيت موحش وغرفتك على حالها تعبق بالمسك كما هي دائما مذ حملوك منها ، ماذا بإمكانه إن يفعل ألان وما فائدة ثوب الحداد وهل سيبكي مع الجدران ، هل بإمكانه إن يعيدك إلى الحياة ليعانقك ويبدأ البكاء وعتاب السنين، ليس بمقدور المرء حينها إن يفعل شيئا إزاء هذا الوضع سوى الصمت وترك الناس تضطلع بالمراسيم دون جدل .. ترحلين ولكن في أي مكان آخر يمكن إن يموت هواوانا لنلاقيك ، سيارتك تجوب الطريق با تجاه المقبرة وأنت فوق سطحها تهجعين ، كنا صامتين ونظراتنا تراقب حركات الناس في الشارع وكلما مرت السيارة على جمع من الناس لوح الواقفون بأكفهم بالسلام ونهض الجالسون ووقفوا باحترام ..رتابة الحركات وأنخذالها تحرك أفكاري المريبة دائما ..لماذا يحترم هولاء الموت ..أتراه أقرار بالهزيمة ،أم رهبة منه ، أم هذا التوافق اليائس من الاستسلام وفكرتهم عن الثواب ..وأنت أيها المقهور أبدا ، لقد أصبحت دفانا من سنين تنقل المسافرين إلى مقراتهم الأخيرة أما تعبت ، أكلتك سنين الجري اللاهث ..ليلك خال من الصبوات ولم يعد في كأسك غير البؤس لماذا لاتعلن هزيمتك باطمئنان وتبطئ من سيرك ..عبثا تحيي عند الغروب وعند اختفاء خيوط النهار الأخيرة أناشيدك الجريحة في قاع الفراغ الموحش ، وعندما تضرب من غير هدى في الأرض، صوتك الهامد سيظل أبدا وراء جدران اللاجدوى الصلد لايسمعه أحدا غيرك ، أعزف أناشيدك وأسمعها لوحدك فما من منصت .. ران الصمت المشحون بالقلق بينما راحت السيارات تتسابق كل منها يريد الفوز بشرف بطولة الوصول إلى المقبرة أولا ، بينما المطر يهطل بإصرار غريب ، والسماء تغفو فوق سطوح المنازل الواطئة المتناثرة على جوانب الطريق ..عند مدخل مدينة النجف وقفت السيارة وحملناك إلى مكان أحبتك حيث يرقدون ، في المقبرة المترامية الأطراف ، هناك حيث ألاف القبور الترابية الغير رخامية ،بائسة كأهلها وعذاباتهم ، كنت أسمعك وأنت ترددين انك سترينه حتما ، ولكن أحدا حتى ألان لم ينهض من تابوته ..اصبري إنها بداية الشتاء مايزال الصبح بعيدا ،انه عادة لايجيء الابعد ليل طويل ، اطمئني ستصلين في وقتك قبل حلول الظلام حيث تغيب الأطفال عن الشوارع وفي الأزقة الغارقة وتعود إلى أعشاشها العصافير ، ألان بإمكانك الاسترخاء فعدة الدفن جاهزة ومع اشراقة أول الصباح ستكونين هناك تستمتعين بالسلام قريبة منهم جميعا حيث يرقدون ، عالم آخر يقتحم الفراغ الموحش داخل أسوار نفسك اللائبة، وبما إن المطر كان يشوب دموعنا سيظل هو يحدق في الفراغ بلا دموع ، وعلام تبكين لن تظلي أكثر فوق ظهر هذه الأرض القاحلة من كل بهجة التي جرعتك المرارة ، ستكونين بمأمن في باطنها ، مسالمة هادئة منسية ترقدين بسلام ، انتظري سرعان ما يذهبون ، سوف يذهبون لا احد يجيء بعد ألان ستمكثين هنا إلى الأبد ، بينما هو سيجهد مخيلته لتذ كر ملامحك وكم من الدموع سيذرف ، لان مشهد العناق الطويل والعتاب بعد الفراق لم يتحقق .. لتكن لحظات خيالك المهاجر في الأفاق البعيدة غذاء المسافر البعيد تتوق للذكرى، ولتظل العيون تدور في العالم المدحور، ليس في الرحلة مايستحق هذا الثمن لاتجهد نفسك من اجل سراب وشيء مجهول كلنا غرباء مسافرون . وعند العصر انتهت مراسيم الدفن وأعلن من كان برفقتي عن عودتهما إلى المدينة ،أعلنت لهما أني باق حتى الغروب وسألتحق بهم عند المساء ،وعبثا حاولا إقناعي في العدول ، ففي النفس حزنا خارج منحنى الوهم سأجدد طقوسه هنا عند قبرها البائس بين القبور بلا آس ولا ورود ولاضوع بخور، ولكم هي جليلة اللحظات عندما يقف المرء عند قبر من يحبه ،صائحا في وجه الشواهد الصخرية ، هاهي نهاية الرحلة هل تسمع أيها الغريب ، إن طالت أو قصرت فهي كل يوم تدق نواقيسها ، حتى وأن تراكمت أرقام السنين .. أيتها الراحلة في رحلة الأبد، أنا لازلت هنا صرحا كبيرا مهجورا يناطح صلابة الأزل، ها أنا أروي للغرباء قصة آلامنا.
صادق البصري /بغداد
التعليقات (0)