عبد الفتاح الفاتحي
في مصلحـة مَـنْ أن لا تخـرج أكاديميـة محمـد السادس للغـة العربيـة إلـى حيـز الوجـود، في وقـت تعانـي فيـه اللغـة العربيـة الأمَرَيـن (مزاحمـة اللغـة الفرنسيـة والعاميـة)، فَألَـم يقـل صاحـب الجلالـة فـي الرسالـة الملكيـة إلى المنتـدى العربـي الخامـس للتربيـة والتعليـم: "لغتنـا العربيـة، التـي تستدعـي منـا، اليـوم وأكثـر مـن أي وقـت مضـى، مجهـودا خاصا لتنميتـها وتأهيلـها، وجعلـها تستفيـد من ديناميـة خلاقـة للبحـث اللغـوي في مجـال الاستبـاق والتعـريب والمصطلـح العلمـي... ضمـن مقاربـة رصينـة ومتـوازنة تتـوخى بلـورة رؤيـة استشرافيـة للغـة العربيـة.
وَألَـم يؤكـد تصـريح حكومـة الفاسـي بأنـه سيتـم العمل على رد الاعتبـار للغـة الرسميـة للبـلاد، وَألَـم يقـل الوزيـر الأول عبـاس الفاسـي في لقاء جمعـه بأعضـاء الجمعيـة المغربيـة لحمايـة اللغـة العربيـة بمقـر الوزارة الأولـى أن قضيـة أكاديميـة محمـد السادس للغـة العربيـة رهينـة فقـط بتعيـن صاحـب الجلالـة لرئيـس لها.
إخـراج أكاديميـة محمـد السادس للغـة العربيـة مـن القمقـم بيـد مَـنْ إذن ؟!!! سـؤال مُحَيّـر ومُثِيـر للغرابـة والسخريـة في ذات الوقـت، بعـدما أبـدت كـل الفعاليات السياسيـة الوطنيـة اهتمامها بالغا بالموضـوع منـذ حكومـة إدريـس جطـو، اهتمـام يُفَسَّـرُ بعـدد التسـاؤلات التي أُلقيـت في غُرْفَتَـي البرلمـان حـول الجـدولة الزمنـية للـولادة الواقعيـة لأكاديميـة محمـد السـادس للغـة العربيـة. لكن بقي مستقبـل الأكاديميـة مخيبـا للآمـال، يقابلـه تعاظـم تهجمـات التغريبييـن مساميـر الفرنكفونيـة بدعـوة يائسـة إلى العاميـة بُغْيـة المـس برأسمـال الهويـة الثقافيـة والحضاريـة للمغـرب وضـدا على الدستـور.
وتزداد حيـرتنا من تأخـر إخـراج هيئـة / مؤسسـة علميـة ذات سلطـة مرجعيـة وطنيـة تَبُـت بصفـة رسميـة في سلامـة اللغـة العربيـة وحمايتهـا وتطويـرها وتقويـة حضـورها في مجـالات الإعـلام والعلـوم والتعليـم، رغم إقـرارها في الميثـاق الوطنـي للتربيـة والتكويـن، والـذي تعـزز بإصـدار جلالـة المـلك لظهيـر شـريف رقـم 1-03-119 لنفـس الغايـة في 18 ربيع الثاني (19 يونيـو2003) بمثابة قانـون رقم 10-02، وصادقـت عليـه بالإجمـاع كافـة الكتـل البرلمانيـة في غرفتـي مجلـس النـواب الأولـى والثانيـة.
وفيمـا لا يـزال الفاعـل السياسـي يَتَلَكـأُ في إخـراج أكاديميـة محمـد السـادس للغـة العربيـة علـى مـدار نصـف عقـد من المصادقـة علـى قانونـها، يسـارع الكيـان الصهيـوني - لغتـه الرسميـة الثانيـة ليسـت الفرنسيـة ولا الإنجليـزية وإنما اللغـة العربيـة- إلى إنشـاء أكاديميـة إسـرائيل للغـة العربيـة، بعـدما صادق كنيستهـا في الشهـر الماضـي علـى قانـونها، حتى تشكـل حسـب - ما يسميه- جسـرا ثقافيـا بيـن إسرائيـل والـدول المحيطـة بها.
وأمـام هـذا الواقـع يجعـل المتتبـع للشأن اللغـوي بالمغـرب يرجـح فرضيـة وجـود ضغـوط فرنكفـونية أجنبيـة وداخليـة تحـول دون تبـوء اللغة العربيـة موقعـها الدستـوري لغـة وطنيـة للبلاد، مُكَـرِّسَـة بـذلك استعمـارنا اللغـوي والثقافـي بـوقـوفها ضـد تنفيـذ مقتضيـات القانـون بمـا يجعـلنا نَـرْتَاب فـي مصـداقيـة المـؤسسات الوطنيـة التشريعيـة والتنفيذيـة حيـن تبقـى نصوصها حبـرا على ورق.
ففـي مصلحـة مـن تعطيـل إيجـاد مؤسسـة علميـة بسلطـة مرجعيـة لحمايـة اللغـة العربيـة حاميـة هويتنـا الوطنيـة، ومستقبـل تنميتنـا، إذ تؤكـد كافـة التجـارب العالميـة أن النهضـة العلميـة والعمرانيـة التـي حققتـها التجربـة اليابانيـة والصينيـة والاسبانيـة كانت بلغتـها الوطنيـة وقدراتـها الذاتيـة، وهـي تجـارب تؤكـد بمـا لا يـدع مجـالا للشـك بأن الأصـل والطبيعـي فـي تقدمنـا ونهضتنـا، نابـع مـن مـدى تعزيـز لغتنـا الوطنـية، أمــر تحـرص عليـه بشـدة كل الـدول الغربيـة في مـؤسساتها العلميـة والتعليميـة والإعلاميـة، بالحضـور القـوي للغتـها الوطنيـة، وهو ما حـرصت عليه إسرائيـل حيـن جعلـت من اللغـة العبريـة لغـة علـم وإعـلام وتواصـل، لغـة قَعَّـدَها نُحَّاتُها بمُحَاكاة وتقليـد نَحـوِ اللغـة العربيـة. فَأَن نَنْهَـزِم أمام إسرائيـل بلغـة مُـومِياء أحيتـها مـن تَوابِيـت التاريـخ، لَيَكْشـفُ بُـؤس واقعنـا العربـي الإسلامـي، حينما نُسَاءَل عن مـدى مصـداقيتنا في الوطنيـة بالانتصـار لرمـوزها (اللغـة العربيـة...).
فَأَوَلَـم يكـن حـري بنا أن نقلــد فــرنسا (التي نكـاد نقلـدها فـي كـل شـيء) في تشييـد أكاديميـة تحمـي لغتهـا وتعـزز تواجدها في مستعمـراتها السابقـة، بل وتجـرم من يتحـدث في الـوزارات والإدارات العامـة غيـر لغتـه الفرنسيـة، وَأَوَلَم نأخـذ عن فرنسوا ميتـران نزعتـه اللغويـة مجسـدا رمزيته السياديـة رئـيسا لفـرنسا حيـن احتـج علـى مُوَاطِنـه الـذي تحـدث في مؤتـمر رجـال الأعمـال بالانجليـزية، وَأَوَلَـم نأخـذ عـنها تغييـر كـل اليافطـات التي كتبـت باللغـة الإنجليـزية إلى الفرنسيـة.. إنهـا أسئلـة أنطولوجيـة حـول مستقبـل هـويتنا الثقافيـة والحضـارية تَتَـلاقح ثقافيـا ولغويـا وترفـض الذوبـان وتغـريب التغـريبيين، فقـد قال الدكتـور عبـاس الجـراري مستشـار المـلك في نـدوة "استعمـال اللغـة العربيـة في المغـرب" بفـاس إن الابتعـاد عن اللغـة العربيـة في كلتا الصـورتين، سـواء باللجـوء إلى لغـة أجنبيـة أو لهجـة عاميـة، لا يـؤدي ولن يـؤدي سـوى إلى تقـوية تيـار التغريـب وزرع بـذور النـزعات العرقيـة والنعـرات العنصـرية التي لا تفضـي عنـد تمكنـها من النفـوس إلا إلـى الصـراع والصـدام، ثـم إلى التفرقـة والانقسـام.. وهـو ما يستـدعي تقويـة اللغـة العربيـة الخيـط الواصـل بيـن المغاربـة كافـة.
الكاتب العام للجمعية المغربية لحماية اللغة العربية
elfathifattah@yahoo.fr
التعليقات (0)