متى تبدأ الرواية؟
قصاصات حرة
رزان نعيم المغربي
بداية إي عمل روائي، لا يمكن أن يكون أول ماكتب في الرواية من صفحات، بل هي آخر مايخطه الكاتب ! وبين قوسين أنقل تجربتي الشخصية، وتجربة كثير من الروائيين الذين قرأت شهادتهم في الكتابة.
إن الشروع في كتابة الرواية، لا يبدأ من لحظة الصفر، أو توهج الذات عاطفياً كما يحدث مع الشعر، الذي يبقى مراوغاً فوق الوصف والتعبير حول تجليه ونظمه.
والسرد الروائي لا يشبه السرد القصصي وهما المنتميان إلى عائلة واحدة ، حيث يبقى القص سرداً آنياً مكثفاً متفاعلاً مع حدث واحد، حتى لو لم يكتب في ذات الحين ، ويقي في سبات الذاكرة. ثم نهض فجأة منفصلاً عن واقعه ليصبح واقعاً جديداً أو انعكاساً له.
مالذي يسبق بداية الرواية إذاً ؟ سؤال تتبعه أسئلة هل هي فكرة ملحة أو موضوعاً يبحث في شأنه الكاتب لسنوات، أم شخصيات وحيوات تطارد أفقه ليل نهار ؟
هي جميعها ربما، وهي بداية السرد الذهني ورسم المخطط المبدئي ، حين يبدأ الروائي بإعداد نفسه يمكن للاحتمالات أن تفوق التصور ، حالما يشرع الذهن لتهيئة الكتابة، يسيطر على كامل العقل أحياناً حدّ الهوس، يدفع الكاتب للبحث طويلاً وتوظيف كل مايمُر به من احداث لصالح نصّه ، ويصطاد بعض الشخصيات التي يلتقيها في الحياة حتى لو كانت لمرة واحدة، طوال شهور يحتجز في ذاكرته أو كراريسه، مايراه بعضاً من خيوط الرواية.
ويحين الوقت، تأتي لحظة ــ غير مُعرَفةَ ، ولايمكن وصفها إلا بما تحدثه من اضطراب عاصف وقلق مرهق ، لحظة قدرية تمنحه الشجاعة ليذهب بعيداً داخل المغامرة ، مسافراً نحو المجهول لايحمل معه إلا قلمه وأوراقه، يذهب إلى عزلته، مودعاً تفاصيل اليومي ، مسترجعاً مخططه وأطياف شخصياته ، في تلك العزلة الضرورية يصبح وجهاً لوجه مع مصيره ، ومصائر حيوات يخلقها على الورق ، ينهل من محصوله اللغوي والتاريخي والفلسفي والعلمي .
يعيد الماضي فيصبح حاضراً ويحول الحاضر إلى مستقبل ، يلعب بالزمن ، حتى ينسى نفسه في اي زمان يعيش، يبني أمكنة جديدة مدناً يعرفها وأخرى سمع عنها ، يستغرق تماماً داخل تلك العتبات التي فتح أبوابها ، وحالما يعيّ نفسه من جديد ، ينسى كيف يمكن له أن يخرج من عتبة باب غرفته !
الروائي بعد كل هذا ، ينتهي من الكتابة ، إلا أنه لم يكتب بداية الرواية !
بداية الرواية تلك العتبة التي توقف عندها كل النقاد والمنظرين، لأنها الصفحات الأولى التي تلامس وتلخص ، وتفتح كل الأبواب أمام القارئ ليتابع قراء الرواية، أو يرميها بفسوة ولايعود إليها .
أن قرار القارئ الخروج من الفصل الأول لأي رواية رهن بما أنجزه الكاتب في الصفحات الأولى، من قدرة على جذبه لمتابعة القراءة، وتشويق لعقله لاستكمال حل ألغاز وضعها أفخاخاً في مقدمة عمله، كل ذلك يتطلب منه العود على البدء، ليستدرك في الصفحات الأولى كتابة مقدمة تشير ولا تفصح، وتسأل دون أن تجيب، وتفتح أبواباً مواربة دون أن تغلقها، وتحكي حدثاً دون أن تخبر إلى ماذا سيؤول.
في نهاية الرواية يمكن أن يمتلك الروائي عنوانا محدداً، أو انه سيقف هناك للبحث طويلاً، عن أهم عتبات نصه التي ستغري الآخر بامتلاك الكتاب أو غض الطرف عنه، وفي الحقيقة أن العنونة ليست بتلك البساطة التي يمكن تصورها، ويكفي علما أن كثيرا من النقاد الكبار ألفوا كتبا حولها، وكثير من الدراسات فتح عنوان الرواية أمامهم السبل لبحثها، ولكن تبقى الصفحات الأولى هي المغامرة الكبرى والتحدي الكبير الذي يواجه أي روائي يقدم على هذه التجربة.
التعليقات (0)