لا يخفى الأثر الكبير لوسائل الاعلام في تشكيل الراي العام الشعبي..وليس هناك من شك بالتفوق الاستباقي المهم الذي يتحصل عليه من يمتلك زمامها باعتبارها من انجح قنوات الاتصال الجماهيري..وهذا ما جعل المؤسسات الرسمية العربية تضع الاعلام على قدم المساواة مع المؤسسات العسكرية والامنية ..بل قد يكون الاعلام هو الاقرب الى قلب المسؤول ..بعد الحرس الشخصي طبعا..
ومن هنا يمكن لنا ان نفهم الاهتمام غير المسبوق الذي ابدته وسائل الاعلام العربية في متابعة مجريات الانتخابات النيابية العراقية التي جرت قبل ايام، وتواصل التركيز الإعلامي الفضائي رغم انتهاء عملية التصويت ..وتحول اضواء اهتمامه هذه المرة نحو نتائج الانتخابات وسباق الكراسي الموسيقية بين الكتل البرلمانية المختلفة وتبني مسارعة كل منها لإعلان فوزها قبل موعد إعلان النتائج الرسمية..
وعلى الرغم من كون الاهتمام بالشان العراقي ، ليس غريبا على الفضائيات العربية ، وخاصة الاخبارية ، والتي كانت اخبار العراق وتداعيات الاحداث التي تلت سقوط النظام البائد وتعقيداتها وعنفها,الطبق الرئيسي على مائدتها اليومية..الا انها هذه المرة ..وكرد فعل مبيت تجاه التاثير القوي المتوقع لهذه الممارسة التاريخية على شعوب المنطقة..تجاوزت التغطية المهنية الاعلامية والحيادية الى الاصطفافات والتخندق مع هذه القائمة او تلك استنادا الى توجهات الدول الراعية والممولة لتلك القنوات الاعلامية...
وقد تكون لوسائل الاعلام التابعة لدول الجوار القدح الاعلى في تركيز اهتمامها نحو الانتخابات العراقية للتداخل الكبير والمتواشج والمتبادل للتداعيات السياسية والمجتمعية في دول الاقليم.. ولكون فكرة الانتخابات مما لا يقوى بعض الاشقاء على استساغته حتى ولو كان في الصين..وليس على بعد مرمى نظر شعوب المنطقة وفي متناول افئدتها ومطامحها واحلامها وتطلعاتها ..
ولكن..وكعادة الاعلام الموجه والخاضع لنظام ارضاء المسؤول الاعلى..نجد ان بعض وسائل الاعلام بالغت في انحيازها لبعض الاطراف المتحصلة على رضا الانظمة الراعية لتلك القنوات و توجيه هجومها الى الكيانات المنافسة في تدخل لا يمكن وصفه باقل من "الصفيق "في الشأن الداخلي العراقي..
حتى ان احدى القنوات المؤثرة اقليميا وصل بها الامر لصياغة خبر يربط بين قرار مجلس احدى المحافظات العراقية بمنع بيع الخمور داخل حدودها الادارية وبين تصويت اهالي تلك المحافظة لقائمة معينة..وكانهم يستصرخون معاقري الخمر وندامى الراح وصعاليك حديقة الامة للاصطفاف خلف القائمة المنافسة لينعموا بقرع الكؤوس وشرب انخاب الفوز الذي سيجلب لهم المدام انهارا..والغريب ان الدولة الراعية لتلك القناة تلهب ظهور شاربي "المنكر"عندها بالسياط حتى لو كانوا رعايا دول اخرى..
وللانصاف..فأن هذا الخبر لم يصل الى مستوى المقال الاقرب الى السقطة الذي كتبه المدير العام لتلك القناة..والذي يعد –وبحق- من الاقلام المهمة والمؤثرة والمقربة والمستكتبة من قبل الحكم في احدى دول الجوار..ذلك المقال الذي يطمئن فيه قلوب حكامه الوجلة بان ديمقراطية العراق ليست معدية..
بل يزايد مؤكدا ان العكس هو الصحيح.. باعتبار ان "النظام الفردي أكثر جاذبية وفعالية وقدرة على اختراق العقول والحدود، وهو اليوم المهيمن في المنطقة"..
ولكونه لم يشغل باله في بيان ماهية العقول التي ترى الجمال والجاذبية في الحكم الفردي الاستبدادي..يقفز مباشرة الى تطييب خواطر أولي الامر بانه "لا خوف من انتخابات العراق"ولا هم يحزنون..على الرغم من " أن الناس لا تسير على أقدامها مسافات بعيدة وتقف في طوابير طويلة من أجل أن تنتخب أناسا لا تظن أنهم سيغيرون في حياتها الكثير."..متمنيا وراجيا من الجميع"ألا يهلعوا من مناظر الاقتراع وجحافل المصوتين وإعلانات المرشحين وبيانات التغيير الانتخابية وسقوط وصعود القوى المحلية بيد المواطنين."لماذا؟؟.. لكونها" احتفالية استثنائية لن تتكرر في المنطقة"..لماذا ايضا يا استاذ عبد الرحمن الراشد؟؟" لأن مخاضها صعب"وهي" نتيجة لظروف استثنائية، كانت من ضرورات مشروع إسقاط نظام صدام حسين"و" لن تتكرر محاولتها في زمن قريب"..لا فض فوك يا كاتبنا الكبير..
وبنبرة اقرب الى المناجاة الذاتية او التفكير بصوت عالي..يبشر الحكام بأن شعوبهم تدرك"أن معظم العنف الذي أصاب العراق تم تصديره من الخارج، من الجوار" ولم يكن مقاومة شريفة ولا عاهرة" وليس محاربة للاحتلال العسكري الأميركي أو كرها في القيادات السياسية العراقية" بل لان فرض الديمقراطية"مسألة مخيفة ومكروهة، وهناك إجماع إقليمي على مقاتلتها"وليس على الحاكم ان يخاف..فبجهوده وبجهود الخيرين من ابناء امتنا العربية المجيدة..فان التعددية والتداول السلمي للسلطة تجارب "صارت تخيف عامة الناس من الفكرة، ثم جاءت أحداث العراق لتجعلهم يرتعبون خوفا، خشية أن يقال لهم غدا، اخرجوا للتصويت"..فلا تهنوا ولا تحزنوا..فانتم الاعلون..
وهنا لا يمكننا ان ننكر تقديرنا العالي لنبرة الصدق والوضوح الكبيرة التي حفل بهذا هذا النص الاقرب الى الاقرار بما دأب الكاتب وصحيفته وحكومته على انكاره منذ سبع عجاف..ولسنا في محضر تذكيره –وهو الاستاذ المقدم والقلم المعلم- بميثاق الشرف المهني الذي قطعته صحيفته على نفسها وروجت له من خلال التزام سياسة تحريرية مهنية ومحايدة تتموضع الى جانب الخير والنماء واحترام حقوق الانسان..ولا اعتقد انه من المفيد التذكير بانه ليس من الالتزام الوطني او القومي وليس من قيم الاسلام الترويج لسياسة القتل والذبح المنظم للشعب العراقي الصابر ودعم عملية استكلاب قطعان الارهاب وتغولها على ابناءه باعتبارها من الوسائل الضرورية لتبشيع صورة الديمقراطية والتعددية في عيون ابناء شعوب المنطقة..
ولكننا نجرؤ ان نهمس في اذن كاتبنا الكبير بانه اخطأ التشخيص هذه المرة..وقد يكون ذلك لطول عهده بالبعد عن الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة..فأن الديمقراطية معدية.. بل هي شديدة العدوى..ولكنها عدوى حميدة شافية للشعوب المصابة بوباء الاستبداد..ولكنها خطرة وقاتلة للانظمة الديكتاتورية القمعية الاقصائية.. ولن يمر من الزمن الكثير حتى تعم انوارها الارض..وسيتعافى على يدها اهلنا الطيبين المشرئبة اعناقهم لتلمس نسائم الحرية المبتغاة..وسيفخر العراقيون حينها بان ارواحهم ودماؤهم التي سفحت على طريق الحرية.. هي من مهدت وانارت الدرب للآخرين..وان تجربتهم"المرعبة"هي من ستعين اخوانهم العرب على ان يرفعوا عقيرتهم منادين بالتحرر والانعتاق.. وان الجماهير التي زحفت الى صناديق الاقتراع.. رغم الموت وتحت قذائف الارهاب –الشقيق- ..انما كانت ببذلها للدماء الزكية الطاهرة تزيل الغشاوة عن عيون الشعوب المستضعفة والتي تعمل بعض الاقلام على ادامة اركاسها في اخاديد التأبد والتوريث لكرسي الحكم..وأن العراق سيكون" بوابة العبور لشعوب هذه المنطقة الى عالم النور والحداثة السياسية والمجتمعية" كما كتب مشاري الذايدي في نفس الجريدة ..وفي نفس اليوم..
سيدي عبد الرحمن الراشد..عذرا..فانك لم تكن موفقا هذه المرة..ولم تجد ايراد الابل..ولم تهتدي الى المكان الذي تؤكل منه الكتف..
التعليقات (0)