لماذا لا يوجد قتل للمرتد في الإسلام
من أبرز المسائل التي أخذت شوطاً من الحوارات والردود بين فقهاء المسلمين قديماً وحديثا هو حد قتل المرتد عن الدين الإسلامي، اختلفوا فيه بين الموافقة والمعارضة واختلفوا حول التطبيق، ولم تخلو اجتهاداتهم من أدلة موثقة تراعي في النهاية سماحة الإسلام –كلٌ حسب منظوره-ولكن برؤية مبسطة نرى أن من قال بنفي قتل المرتد كانت رؤيته أكثر توفيقاً وقوة لمراعاته أصول القرآن والركائز التي بُني عليها الدين الإسلامي، وأهم هذه الركائز هو فساد الاعتقاد بالجبر، وأن الإيمان الحقيقي هو الذي كان أصله اعتقاداً عن قناعة ورضاً كاملين.
يأتي الإشكال –غالباً- من الخلط بين الحُكمين الدنيوي والأخروي، فيظن البعض أن التجاوز عن العقاب الدنيوي هو تفريط في الدين والقول بجواز الكفر ولو ضمنياً، وهذا الاعتقاد حكايته رده، لأنه لو كان كذلك حقاً لكان عقاب تارك الصيام عقاباً دنيوياً هو الآخر، ولو تجاوزنا عنه فهو قبول بترك فريضة أساسية من فرائض الدين-على نفس المنطق!فالصيام كالإيمان هو علاقة بين العبد وربه ويحيل على غيرهما معرفته، فتأخير العقاب من الله حكمته في إتاحة كافة الفُرص للعودة، وأنه لا حق لإنسان أن يعاقب آخر على اعتقادٍ أو عبادة هي حصرياً بين العبد وربه- كما سلف،يأتي الخلاف في حال الجهر بأحدهما، ونحيل ذلك على قضية الاختيار وحكمة الرب في خلق الإنسان مُخيّرا بين الحق والباطل وبين الكُفر والإيمان مصداقاً لقوله تعالى.."فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"..."ولكم دينكم ولي دين"..ولا حكمة لمن يسوق الناس إلى دينه بالتخويف والقمع، بل الإسلام ليس في حاجة لإنسان لم يأتِ إليه إلا هادئ النفس مطمئن وساكن السريرة.
الآن سنخوض بإذن الله في نقاش وطرح بعضاً من النقاط الهامة في قضية" قتل المرتد"، وسنعرج في الأسطر القادمة على بعض الإشكاليات في محاولة لحلها بعيداً عن النمطية وبوضع ردود حاسمة بحاجة هي الأخرى لردود حاسمة:
1-ذُكر لفظ الردة ومعناه في القرآن الكريم أكثر من 10 مرات ولم يلحق الله به أي عقوبة تفيد القتل...مما يُخرج القضية من سياق القطع بوجود الحد-عن القائلين به- إلى سياق الظن، فالقرآن هو مصدر التشريع الأول، وقضية الدماء هي من أعظم القضايا البحثية في الفقه الإسلامي، ولا مجال للحُكم فيها إلا بدليلٍ صريح وصحيح لا يشوبه الخلاف.
2-لم يثبت أن رسول الله قتل أي مرتد ، بل الثابت هو ارتداد بعض الناس على عهده صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه تركهم ولم يعاقبهم بالموت، وبهذه النقطة والنقطة السابقة يتبين لنا أن قتل المرتد يخلو منه القرآن والسنة الفعلية-المُجمع عليها-على حدٍ سواء.
3-يقول الله تعالى في القرآن الكريم.."لا إكراه في الدين".والآية صريحة ومُحكمة وغير منسوخة-عند القائلين بالنسخ-وحكمتها في دحض أي اعتقاد بالجبر يُنتج إنساناً منافقاً ومخادعاً.
4-كافة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن قضية عقوبة المرتد لفظاً ومعنى، جميعها تتحدث من وجه السلام والحرب لا من وجه الكُفر والإيمان، فالمقصود هو عقاب المحارب لا الكافر، أما المُسالم ولو كان كافراً فلم تتعرض إليه بالقتل أي متون صحيحة على الإطلاق.
5-أشهر حديث يستدل به القائلون بقتل المرتد هو حديث.."من بدل دينه فاقتلوه"..ولنا في هذا الحديث ستة أقوال:
أولاً: الحديث من مراسيل الإمام مالك، وجاء بعده البخاري ليوصله من رواية عكرمة البربري مولى ابن عباس، وعكرمة كان خارجياً كما قال أحمد وابن معين وغيرهما..والخوارج كانوا يقولون بكفر فاعل المعصية، وقاتلوا الناس على ذنوبهم، فليس من الغريب أن تتوافق رواية قتل المرتد مع هوى أي خارجي ولو كان عكرمة.
ثانياً:الحديث مطوّل يحكي فيه تحريق الإمام على بن أبي طالب عليه السلام للزنادقة، وهذه الحادثة أنكرها البعض عن الإمام تنزيهاً ووصوناً له، فلا يُعقل أن يقوم صحابي جليل بمرتبة علي بن أبي طالب بحرق أي إنسان وهو حي، إذ الفِعل خارمٌ للمروءة ويعتريه القسوة والفظاظة والجلفة في التعامل والعقاب، ولم يكن هذا سلوك أيٍ من كبراء وفُضلاء الصحب الكرام.
ثالثاً: كان هناك صراعاً سياسياً حاداً بين فريق الإمام علي بن أبي طالب وفرقة الخوارج، وعكرمة كونه كان خارجياً فليس من الغريب أن يتجنى الراوي على الإمام علي بهذا القول الفاحش...أقول أيضاً ورغم أن البعض حاول نفي خارجية عكرمة كابن حجر والطبري وغيرهما، إلا أنه لم يُمكن رد أقوالهما فخرجت ردودهما كأنها تتعامل مع نصوص ميتة لا حياة لأصحابها للذود عنها، وفي العموم لم يأتِ القول عليه بالخروج من فراغ.
رابعاً:فوق تهمة الخروج التي اتُهم بها عكرمة كان أيضاً رميه بالكذب من ابن عمر وسعيد ابن المسيب وغيرهما، هذا ورغم دفاع ابن حجر عن اتهامه بالكذب إلا أن ردود ابن حجر لم تخلو من الإحتمالية، وكأن الرجل لم يملك دليلاً صريحا للذب عنه.
خامساً: لم يحتج الإمام مسلم في صحيحه بروايات عكرمه فلم يكن من رجاله، والسبب كما قيل لكلام الإمام مالك فيه، وهذه نسبية الحُكم بعينها، راوي يوثقه البخاري ويقبل بروايته دون شواهد أو متابعات، في المقابل لا يحتج بنفس الراوي الإمام مسلم في صحيحه إلا مقروناً بصحابي آخر وفي رواية واحدة فقط للتعضيد، وكأن مسلم يحترز من روايته، خلاصته أن هذا الوضع يضع رواية الراوي موضع الشك لا التوثيق كما يفعل البعض تعصباً وحُمية.
سادساً: لو سلمنا بصحة الحديث فهو في النهاية حديث آحاد والآحاد لا يوجب الحد كما قال الشيخ شلتوت –رحمه الله-إذ الحد وإراقة الدماء يلزمه النص الصريح والمتواتر، وأشار الدكتور سليم العوا أن سكوت القرآن عن حد قتل المرتد هو في ذاته قرينة تصرف معنى الحديث إلى معنىً آخر،وقد طرح فضيلته عِدة قرائن أخرى في بحثه الماتع بعنوان.."عقوبة الردة تعزيراً لا حداً"..وذهب فيه إلى أنه لو صح الحديث فقد يُفضي ظاهره إلي القول بالتعزير أي أنه خاضعاً لسلطة ولي الأمر فتفعل ما تراه مناسباً، وبمحاولة فهم ما قاله العوا فهو يقصد خروج القضية من كونها حداً بحُكمٍ شرعي إلى كونها سياسة شرعية، ولكن مع ذلك.." فأي تدخُّل للسلطة تحت أي اسم كان، وبأي صفة اتصفت، بين الفرد وضميره مرفوض بتاتًا، وأن الاعتقاد يجب أن يقوم على حرية الفرد واطمئنان قلبه"..(جمال البنا- لا عقوبة للردة.. وحرية الاعتقاد عماد الإسلام)
تتمة القول في هذه النقطة: أن الرواية عليها كثير من الخلاف وبها من الغموض واللبس ما شاء الله ،وهي رواية آحاد وعليها كثير من الشبهات وليست لها شواهد صحيحة، ومن ثم كان الإستدلال بها على إراقة الدماء عبثٌ وضياع لهيبة الحق والإسلام في قلوب الناس.
6-هناك حديث أقوى وأصح من الحديث السابق وهو حديث ابن مسعود مرفوعاً.." لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة "..الحديث رواه الجماعة أي أنه أقوى من الحديث السابق بإضافة مسلم إلى مخرجيه،والحديث يتكلم عن قتل التارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين كما هو واضح من الحديث،فمن كان يترك جماعة المسلمين على عهد رسول الله كان بالكاد ينضم إلى فريق الأعداء ومن ثم يُصبح محارباً، وهذا القول يُعضد رؤيتنا السابقة إذ قلنا فيها أن جميع المتون التي تتحدث عن عقوبة المرتد فهي خاصة بالمحارب دون غيره..وفي حديث ابن مسعود كان حمل المقيد على المُطلق..والمُطلق هنا هو.."التارك لدينه"...أما المقيد فهو.."المفارق للجماعة"..مما يقيد النص في نهايته بقيد الحرب والإعتداء لا غير.
7-رُوي عن بعض أئمة السلف من أهل السنة والجماعة كابراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهما قولهم الصريح بأن المُرتد لا يُقتل...( د.عدنان ابراهيم-محاضرة حد الردة في القرآن والسنة)
8-أفتى الكثير من علمائنا في العصر الحديث بأنه لا قتل للمرتد في الإسلام كالإمام محمد رشيد رضا والإمام محمد عبده والإمام محمود شلتوت والأئمة عبدالعزيز جاويش وعبدالمتعال الصعيدي وعيسى منون ويوسف القرضاوي ومحمد البوطي وراشد الغنوشي وطه جابر العلواني وغيرهم الكثير..أفتوا جميعاً بأنه لا قتل للمرتد في الإسلام..(المصدر السابق).
-يتضح لنا من سياق المناقشات أن قضية قتل المرتد هي قضية سياسية بحتة ولا علاقة لها بالحُكم الشرعي، فالله لم يأمر الإنسان بقتل المرتد ، فقد خلق الله الناس متفاوتون في عقولهم وأفهامم، ولكونهم مختلفين فلا يجوز أن نتقوّل على الله حُكماً جائراً يعاقب الإنسان على خلافه رغم كون هذا الخلاف سنة من سنن الله في خلقه..قال تعالى.."ولا يزالون مختلفين ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"..وتكفي الرؤية القرآنية الفريدة في صياغة تعامل مع كافة المخالفين بمن فيهم المرتد، فحتى مع الزجر والوعيد لم يصرح القرآن بعقوبة القتل، ولمن يتفنن في صناعة تخصيص لبعض العام من القرآن نقول له اتقِ الله ولا تُشرعن لنفسك ما لم تُؤمر به، فحتى كافة تخصيصاتك ونسوخاتك مردودٌ عليها من نفس رتبة الدليل ،بل هناك أدلة أقوى ولكنك تغض الطرف عنها لحاجةٍ في نفسك الله يعلمها....والله الموفق والمستعان.
التعليقات (0)