لماذا الاصرار علئ اللغة العربية...
اصبح هذا السئوال کلما تبسطت الشعوب فی علاقاتها بمن فيها العرب و کلما اتسعت هيمنة اللغة الانکليزية فی الوطن العربی کلما ازداد حدة و شدة وذلک بين اوساط مجموعة من هواة اللغة الانکليزية بينما يبدو ان طريقة طرح هذا السئوال ليس تقصياً لحقيقة اللغة العربية و ضرورتها او شيئ کهذا بل کل ما فی الامر هو اثبات عدم فاعلية اللغة و کفائتها فی الايام الراهنة امام کم هائل من التطورات علی شتی الاصعدة الحياتية ما تضخها الماکنة الغربية کل حين و بشکل متواصل، فاستياء الکثير ممن اجادوا اللغة الاجنبية و آنسوها فی حياتهم هی الشاهد و الدليل الصارخ علی ذلک سيما الشعوب الاخری العربية القابعة تحت سلطان ثقافة اجنبية بطريقة مماثلة.
و خلافاً لمجری البحث فانا لست فی موضع الاجابة علی السئوال الذی مر بداية المشوار و ذلک للابحاث التی سردها العديد من رواد العربية فی مجال الذود عن حياضها و کرامتها بل الکلام يدور مدار قضية بقيت فی عتمة قد يستصغرها الرائی و الناقد فی اول وهلة له و هی بحد ذاتها قضية هامة و مصيرية و التی تقع فی مقام الاجابة عن السئوال التالی: لماذا تخلی المواطن العربی او قل البعض منهم عن اللغة العربية و استغنی بلغة لا يمکن قياسها بالعربية بنحو من الانحاء؟
لو سبرنا الاوضاع الاجتماعية و السياسية و الثقافية قديماً و حديثاً من اجل فهم علل هجر اللغة الام، لخلصنا الی امور تخول الباحث کی يسترشد بها الی مواطن الضعف التی أحالت لغتنا الحبيبة الی بعض الاهمال من قبل من شغلت فراغ عقولهم الساذجة السمفونية الغربية و کذلک ادراک تهاوی البعض منهم بدءاً من مستوی الکيان القومی الرفيع الی مستوی اللاهوية و الضياع.
مما لا غبار عليه فان اللغة العربية من حيث کونها ثقافة کنظيراتها من الثقافات فانها تتقبل التاثر نتيجة التغيرات و التبدلات التی تطرأ عليها عبر الزمن و العامل يکمن فی کونها ثقافة لا اکثر الا ان مدی هذا التغير و درجته يرتبطان مباشرة بقوة الثقافة و عقلانيتها و واقعيتها اصلاً و لذلک کان للغة العربية الاثر الکبير فی الثقافات الاخری و کذلک التاثر بشکل معقول فی مختلف التطورات السياسية و الثقافية سيما فی العهد الاموی و الاشد منه العباسی لفترة شهدت علاقات واسعة النطاق فی العلوم و الفنون و التجارة و الدين و هلم جرياً. و خصوصاً امتزاج الاعاجم المسلمين بالعرب القحاح مما استدعی و استثار العربی الی ان يترک کثيراَ من الامور اللغوية التی کان يتفنن بها و التی تکسبه منزلة ريثما يستعملها فی خطابه و کتابه ترکها کی يستطيع ان يقابل و يواجه الکم الهائل من العلوم و الثقافات الوافدة فکانت النتيجة الخروج من الاهتمام اللغوی الصارم الی واقع بسيط و مرن و خفيف يمکن تصديره الی الامم الاخری التی اعتنقت الاسلام باسرع وقت ممکن.
الا ان التاثر هذا لم يکن ساحقاً او جذرياً و لم يکن ما ليس بالحسبان (کما نحن عليه الآن) بل کان و کما اسلفنا تاثراً معقولا و مقبولاً و فی نفس الوقت واقعياً و ذلک عبر التمهيدات التی خلقها العربی آنذاک و امور کانت و لاتزال تقوّم الشخصيةَ العربية، هذا التاثر الذی لا يعد بشيئ امام الانهيار اللغوی و الثقافی اليوم کان قد تلقاها العربی فی ذهنه کصرخة مدوية مفزعة فتفرغ لها بالقلب و القالب و ضحی من اجلها بروحه و جسده.
العلاقات التی حدثت فی الايام الخوالی التی طالت جميع المستويات کان من المتوقع ان تقضی علی قسم کبير من الحضارة و بالتالی اللغة ، لکن ماذا حدث هنالک من تطورات حصنت الحضارة العربية بکل ثقلها عن الاندثار و الانصهار ضمن الثقافات الاخری ، فالواقع هو ان العرب القدامی شعروا جيداً بالخطر الداهم و جندوا جل طاقاتهم العلمية و التراثية و الثقافية وجهاً لوجه التيارات القادمة عبر تمهيدات و ارضيات مدروسة و بشکل متقن ما مؤداها التراث الذی نحصد ثماره اليوم بفخر و اعتزاز والذی لو شأنا اليوم باحدث الوسائل ان ناتی باليسير من مثله قد لا نستطيع اليه سبيلا.
اما التمهيدات التی وضعها دون ضياع اللغة العربية اهمها هی تدوين القرآن الکريم ريثما ما شعر الصحابة رضوان الله عليهم بتقلص عدد حفظة المصحف الشريف و حملته اثر الغزوات و الحروب ابان نشر الدعوة الاسلامية. و الاصعب من ذلک تدوين و تبويب اللغة العربية الذی استغرق الکثير من الوقت و الطاقة حيث هجر الکثير من العلماء بيوتهم و اسرهم تجاه تحقيق الامنية المنشودة و هی الحصول علی معجم جامع لالفاظ و مفردات اللغة مهما کلف ذلک من ثمن.
الدوافع الثقافية و النفسية و الدينية العامل و الباعث الوحيد فی حفظ اللغة
عاش العربی طيلة مجده الاثيل رافعاً جبينه بين الامم بدوافع يفتقر اليها اليوم و ما نبحث عنها نحن اثناء هذا البحث و هی حسب الترتيب التالی:
الدافع الثقافی و النفسی ثم الدينی
يعتقد البعض انه لا يمکن الفصل بين الثقافة و الدين اذ ان الدين جزء الثقافة او الثقافة جزء الدين کما ياخذ العنان آخر و يقول ان السياسة هی الدين بعينه و الدين هو السياسة بعينها و کل يخلط الدين بما اشتهی حتی اصبح الامر من مصاديق المثل المعروف اختلط الحابل بالنابل و کيفما اتفق فثمة فروق و حدود بين الدين و الثقافة بامتياز ليصبح الدين کدين و الثقافة ثقافة فلولا تلک الفروق لضاع حق الانسان فی تحديد مصيره و لکان مثله کمثل الببغاء يردد ما يطرق سمعه دون ان يکون له ای تاثير و هذا مخالف اصلاً لقصد الخالق من خلقه الانسان فانه سبحانه خلق للانسان قبل بعثه الانبياء عقلاً مدبراً و ضميراً واعياً ليميز الصحيح من غيره فمن الخطأ الفادح تجاهل العنصر الانسانی فی التطورات الثقافية و حتی الدينية علی مر العصور و کأن النبی عيسی مثلا حينما دعی الناس الی العبودية الالهية کان الناس لا يفقهون من امر حياتهم و سلوکهم الاجتماعی و الفردی و ما يکون عليه المسيحيون اليوم هو تماماً من تعاليم المسيح بل علی العکس من ذلک فان الجميع يعلم ان العلوم الفکرية و المعرفية هی مدينة کل الدين لامم خلت قبل مولد المسيح بالاف من السنين و لم ياتی النبی الا لاضفاء نکهة الايمان و التقرب الی الله تعالی الی سلوک الانسان فی شتی مناحی حياته. فاسمی الامثلة علی ذلک هو مدی سهم الانسان العربی فی عصور النهضة الاسلامية من العطاء الذی شغل العالمين بسعته.
هل يمکن ان تکون الثقافة الاسلامية بمختلف شئونها هی من وحی السماء و ان العربی لا حصة له من ذلک؟ ام ماذا؟
لو لمحنا الفترة التی عاشها العربی قبل الاسلام لسلمنا الی ان الدين الاسلامی الحنيف لم يات للناس باکثر من ثقافة العرب بل جاء ليکمل الثغرات الاخلاقية و العقيدية و السياسية حيث ان اموراً کالسماحة و السخاء و النبل و العزة و العفة و الانصاف الی غير ذلک من صفات و خلالٍ حميدةٍ هی کان مما يمتدح العربی بها نفسه و يفخر الی ان جاء النبی محمد(ص) ليکمل المشوار الثقافی تحت ضوء و اشراقة الدین الاسلامی منبعثاً بلغة و ثقافة خاصة بالعرب وذلک ما شهد بها هو و بعظمة لسانه نفسه صلی الله عليه وسلم حيث قال انما بعثت لاتمم مکارم الاخلاق.
اذن کان العربی يتمتع برصيد ثقافی هائل يرفع مستوی ثقته بنفسه بشکل جيد مما جعل منه رجلاً صعباً بدلاً من أن ینقاد الی زاوية ثقافة اخری إذ يری لثقافات الغير حظاً ضئيلاً من الوعی و الاصالة لايمکن الاعتماد عليها و کان يتحرق جویً إثر مشاهدته الشعوب العجمية الهمجية الطائشة التی لا ترقی الی مستوی ثقافته الصاعدة فاصبحت الثقافة إذن الدافع الرئيسی فی عدم تنازله عن ثقافته سيما اهم مصادر الثقافة و هی اللغة و لم يکتفی بهذا القدر و انما شاء ان يدخل غيره تحت مظلة ثقافته و يعنی من ذلک نجاتهم من مآسيهم الاخلاقية و الاعتقادية، و لاشئ فی ذلک من السيطرة او الاستغلال او ما شابهه فکان يری نفسه المنجی و المنجد للعالم من اسار اوهامه و خرافاته فی نفس الوقت الذی يشعر بالفخر و الثقة النفسية تجاه ما يحمل من ثقافة وفکر. و علی غرار ذلک ياتی المعزز التالی و هو العنصر النفسی و من ثم الدين الذی نظم الحياة و عبأ القوی کی يصبح هذا الانسان يتحمل کل اعباء الرسالة و يضحی باغلی ما عنده من اجل نشر ثقافته و معنوياتها السامية.
بناءاعلی هذا الأساس يمکن الحصول علی الجواب الواضح خلال مقايستنا المواضيع التی مر ذکرها مع ما يجری اليوم من احداث فی الوسط العربی و مقايسة الفرد العربی آنذاک مع الانسان اليومی و ايضاً لماذا اصبحنا نری البعض من بنی جلدتنا يتنازلون عن هذه اللغة المعطاءة ، فالجواب هو کلمتان او اکثر بقليل، اعنی للاسف تبخر المعنويات و انعدام الاعتزاز بالنفس و الثقة القومية لدی المجتمع العربی العصری اليوم و الحصيلة هی التوجه الی ثقافة بديلة دون ای ترديد.
ان تدهور الثقة بالنفس و الانبهار بالثقافة الاجنبية علی الصعيد الدولی بالتحديد لم يترکا ای شک فی التفاتة الشاب العربی الی غير العربية لذلک لم يکن من المنصف اصلا القاء اللوم علی المواطن العربی اذا ما حبذ التکلم باللغة الانکليزية و الانجراف اللاشعوری فی بوتقة الثقافة الاجنبية اذ ان الجهات المعنية بالثقافة و الاعلام العربی بکل صنوفه و اشکاله هی المسئولة الوحيدة تجاه ضياع اللغة الحبيبة لحد الآن.
وهنالک امر طارئ علی البحث يجب ايضاحه و هو الاعتراف بالثقافة الغربية الانسانية البحتة : لم يکن الغرب فی کثير من الامور الثقافية العنصر المدمر و المهدد لای ثقافة فی العالم انما اصبح رائداً فی العديد من المجالات التی تخص الحياة البشرية دون ای التفاتة الی العرق او الدين او اللون و هکذا.. الا ان هناک فوارق شاسعة بين الثقافتين اهمها اللغة فيجب الاحتفاظ بها و عدم التهاون تجاهها لما تتضمن الکثير من المسائل الثقافية و الدينية و السياسية بين البلدان العربية. اذن لم يقصد المقال البت فی جميع الحالات الا التی تمثل الصميم و اللب للثقافة العربية کما يعتقد فی نفس الوقت عدم الانغلاق الثقافی علی النفس و انه العامل المهدد الاساسی تجاه الحضارة کان و لا يزال.
التعليقات (0)