نحن بصدد حالة أخطر من ظاهرة «هجرة الأدمغة» التي كثر الحديث عنها منذ سنين طويلة دون أن يجد المسؤولون لها حلا. إنها ظاهرة يمكن أن نسميها «هجرة أدمغة المستقبل»، وتتعلق بالتلاميذ والطلبة الذين بصدد التكوين، لكنها قررت أن يكون مصيرها بعيدا قرب حواضر تقليدية مثل باريس ولندن واخرى جديدة على غرار دبي وما جاورها والتي أصبحت تستقطب الكثير من العقول.
لقد بلغت المأساة حدا، أصبح خريجو الجامعات يزاحمون غيرهم من عديمي المستوى في قوارب «الحراقة» التي تسمى «قوارب الموت»، مع أن السلطات صرفت في سبيل إيصالهم إلى هذا المستوى الملايير من الدينارات، دون أن توفر لهم الجو الملائم للبحث العلمي أو بيئة علمية ملائمة يمكن أن توفر لهم العيش بكرامة وتسمح لهم بتجسيد المشاريع العلمية في وطنهم كما حلموا بها. وكان الباحث الجامعي الجزائري فريد الدكتور فريد شربال، قد تحدث سابقا لـجريدة »الجزائر نيوز» عن إحصائية رسمية صدرت عن منظمة اليونسيكو سنة 1998، ويقول: «ورد في النشرية التي تصدر عن هذه المنظمة تحت عنوان «بريد اليونيسكو» التأكيد على أن دول الجنوب بما فيها الصين والهند وغيرها تخسر سنويا ما قيمته 10 مليارات من الدولارات الامريكية. وهي ميزانية الباحثين الجامعين الذين يتم تكوينهم في هذه البلدان ثم يتجهون إلى بلدان أخرى». لكنه يستدرك بالقول إن « العالم تغيّر بشكل جذري منذ ذلك التاريخ. ونحن نشهد ميلاد ثلاث قوى دولية كبرى تتمثل في الصين والهند والبرازيل، الدول التي كانت محسوبة على الجنوب المتأخر وكانت دولا مصدرة للأدمغة لكنها تحولت الآن إلى بلدان جاذبة لها، وأصبحت الهجرة معكوسة نحوها».
لقد تغيّر العالم بالفعل، وتغيّرنا معه نحن يكن في الاتجاه السلبي طبعا، وبعد الهجرة الاضطرارية للكثير من الكفاءات العلمية مع بدايات تسعينيات القرن الماضي مع بداية الازمة الدموية ، حيث أفرغت الجامعات والمعاهد العلمية من الكثير من أدمغتها، يبدو أن الاستثناء ذاك تحول إلى قاعدة، ونحن نقرأ هذه الدراسة الجديدة التي تؤكد أن أكثر من ثمانين بالمئة من الشباب الجامعي يحلمون بالعمل في بعض الحواضر العلمية بعيدا عن بلدهم، بعد أن فقدوا الأمل كليا في أن تتوفر لهم البيئة العلمية والاجتماعية التي يحلمون بها، وليس أبلغ هنا من مشهد متخرج جامعي يمزق شهادته العلمية مع وثائقه الشخصية وهو يمتطي الزورق الذي قد يؤدي به إلى الضفة الشمالية للبحر المتوسط كما قد يؤدي به إلى جوف الحوت.
التعليقات (0)