مواضيع اليوم

كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيّة في المُؤتمَر 42 لوزراء خارجيّة دول مجلس التعاون الإسلاميِّ المُنعقِد في الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله -تبارك وتعالى- في مُحكَم كتابه العزيز:

((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) [المائدة : 2]

أقدِّم وافر شكري، وعظيم الامتنان إلى دولة الكويت، وأمير الكويت، والحكومة الكويتيّة لما بذلته، وأمدّ يدي لمُعانـَقة أخي العزيز نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة الشيخ صباح الخالد مُتمنـِّياً له المُوفـَّقيّة في إدارة المُؤتمَر بما يتمتـَّع به من حنكة، وكفاءة.

في مثل هذه المَهمّات اصطفافان في هذه الساحة العالميّة، اليوم اصطفاف البـِرِّ: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))، وتتحشَّد في هذا الاصطفاف كلُّ عناصر الخير التي أودعها الله -تبارك وتعالى- في فطرة الإنسان السليم من حُبِّه للخير، ومن انطلاقته لتعميم الخير، ويحمل السِرَّ الذي استودعه الله، وهو: ((اسْتَعْمَرَكُمْ فِيْهَا)) جَعَلكم عُمَّارها.. كلُّ العناصر الخيِّرة، وكلُّ الثروات المُبارَكة التي أودعها الله تتكدَّس، وتترسَّخ من أجل دعم هذا الاصطفاف الذي يحمل لواء الإنسانيّة، ويُقدِّم إلى البشريّة مُختلِف العلاجات الناجعة؛ من أجل أن يحفظ وحدتها، ويُبعِدها عن شبح الحُرُوب.

والاصطفاف الآخر هو (التعاون على الإثم والعدوان)، وهو اصطفاف يتكدَّس فيه أصحاب النزعات الشيطانيّة الذين يُريدون أن يُشيعوا الحُرُوب، ويُدمِّروا البلدان، ويبثـُّوا ثقافة الفرقة، ويلعبوا على حبال الاختلافات؛ من أجل أن يُشيعوا ثقافة الضعف في هذه المنطقة، أو تلك.

لم تخلُ الساحة على طول التاريخ وعرضه من هذا الصراع منذ أن وطأ آدم بقدمه أديم الأرض إلى اليوم. مرّة تنبع في هذه القارّة، ومرّة أخرى في قارّة ثانية، وثالثة، ولكن تبقى عمليّة الصراع مُمتدّة على مسرح التاريخ.

إخوتي الأعزّة.. نحن -بكلِّ صراحة- اكتسبنا تجربة في مسألة مُواجَهة الإرهاب الذي الآن هو رأس الحربة، ويُوجِّه إلى صدر الإنسانيّة جمعاء، وللديانات عامة، وإلى الدين الإسلاميِّ الحنيف بشكل خاصّ؛ لذا لا نتحدَّث لكم من وحي ما نقرأ، بل  نتحدَّث من وحي ما نرى على الأرض، ونـُعايش يوميّاً خطاب الإرهاب، ومُمارَسات الإرهاب، وفصائل الإرهاب، وعناصر تمويله، وأخلاقيّته، والنتائج المُترتـِّبة على الأعمال الإجراميّة التي يقوم بها الإرهاب.

إنَّ هذه الظاهرة الخطرة تقوم على ثقافة، وعلى فكر؛ لذا تتكرَّر بعض الكلمات الحصيفة لأصحاب الحكمة أنه يجب أن نضع المُعادِل الفكريَّ، والمُعادِل الثقافيَّ قبل أن نفكر كم نـُحشِّد من الجُيُوش، ونـُكدِّس من الأسلحة، ونواجه النتائج، والانهيارات المُترتـِّبة على هذه. ماذا وضعنا كمُعادِل فكريٍّ، وما الذي جعل الإرهاب يتمظهر في هذه المرحلة بهذه الطريقة؟

دعونا نكون صريحين هنا ونحن نجلس كعائلة واحدة تـُمثـِّل العالم الإسلاميَّ. ما الذي استفزَّ هؤلاء الشباب الشذاذ، وجعلهم يسترخصون دماءهم من أجل أن يقوموا بما يقومون به. لابدَّ أن تكون هناك أسباب جعلت هؤلاء يحملون أرواحهم على راحة أكفـِّهم، ويقتلون أنفسهم قبل أن يقتلوا الضحيّة.

ما السبب؟ دعونا نفكر: لماذا نشأ هذا الجيل الساخط.. هذا الجيل المُتمرِّد، وانتقل من ثقافة السخط إلى ثقافة الانتقام، ما السبب؟

القضيّة في العمق قضيّة ثقافيّة؛ هذا يشعر أنه ينتمي إلى أغنى بلدان العالم ويعيش أفقر مُواطِني العالم. ما السبب؟ يمتلك العالم الإسلاميّ ثلثي احتياطيِّ نفط العالم، ومُلتقى القارّات الثلاث (آسيا، وأفريقيا، وأوربا)، ما الذي يجعل هؤلاء يعيشون فقراء والله أراد لهم الغنى؟ هؤلاء ليسوا من بلدان فقيرة إنما أفقِروا بالقوة.. هؤلاء يُستفـَزَّون في الخطابات. يُساء إلى نبيِّ الرحمة في الأفلام، والصُحُف، والتعليقات. ثقافة الاستفزاز ولـَّدت عندهم حالة من الانتقام، وأن ينغلقوا على الحوار، ولا يفهموا إلا حوار الطلقة، لا حوار الكلمة، ولا حوار القلم؛ فنشأ جيل مُتمرِّد.. هؤلاء خرجوا عن الطبع، والفطرة البشريّة. مَن الذي أخرجهم من هذه الحالة؟

إنَّ هذه الدول التي تـُساهِم بإرسال حُشُود من أبناء المُسلِمين يسترخصون الدم حتى تأتي اليد الغامضة تستثمرهم وهم في هذه الحالة؛ لتـُحقـِّق فيهم ما لم تـُحقـِّقه بأيِّ شيء آخر.. هناك استراتيجيّة في إحدى الدول، وتعلمون أنها إسرائيل (إقلاق المنطقة من أجل منح استقرار لدولة واحدة).

ما الذي جعل هؤلاء هكذا، ماذا قدَّمنا إلى القدس، وإلى فلسطين؟

كلما يمضي العالم في الإيغال بالجريمة بحقِّ القدس، وفلسطين اندفعت أجيال جديدة تنضمُّ إلى هؤلاء الشُذاذ. المُشكِلة أنَّ الإرهاب لا يتجزَّأ، والحلُّ الأمنيُّ والسلميُّ لا يتجزّأ. كليّ واحد، وجزء يرتبط بباقي الأجزاء.. نحن أمام حرب لا تتجزَّأ فيها الجبهات.. حرب يُحاولون أن يُوظـِّفوا فيها الخلافات في بلدان مُتعايشة دينيّاً ليُشعِلوا نار الفتنة بينها، أو بلدان فيها تعدُّد مذهبيّ مُتعايش يُشعِلوا فيها الفِتـَن، أو بلدان فيها تعدُّد قوميّ يُسعِّرون العناصر الشوفينيّة، والعنصريّة بينها. كلـُّها موجودة في العراق. العراق مُلتقى الديانات، والمذاهب، والقوميّات، والاتجاهات السياسيّة عبر الزمن؛ وبقي مُتعايشاً، ومُتوائِماً، ومُتفاعِلاً مع كلِّ هؤلاء. في كلِّ مدينة توأمة من التعدُّد، وما تعرَّض مُواطِن عراقيّ لاضطهاد مُجتمَعيٍّ عراقيٍّ أبداً. أقولها، وأتحمَّل المسؤوليّة: إنَّ أصابع من الخلف تحاول أن تـُشعِل الفِتـَنَ بالقوة؛ حتى يقولوا هناك اقتتال عراقيّ-عراقيّ بطابع دينيّ، وبطابع قوميّ، وطابع طائفيّ؛ السُنـّة والشيعة في كلِّ محافظة من محافظات العراق من دون استثناء من الجنوب حيث الغالبيّة الشيعيّة إلى الموصل الحبيبية حيث الغالبيّة السُنـّيّة بينها تمازُج، وتداخـُل بين المُجتمَعات. هذه حقيقة يجب أن نفخر بها في العالم الإسلاميِّ ونحن بأمسِّ الحاجة لأن نـُقدِّم أطروحة مُستوحاة من الواقع. وأفضل واقع يحكي لنا، ويعكس التعايُش الواقعيَّ العمليَّ بين أبناء المُجتمَعيّات التي تتداخل فيها المصالح والثقافات من دون أن تتدخَّل بعضها بالبعض الآخر هو العراق. نموذج زواجات مُشترَكة، وتجاور قبليّ مُشترَك، وتجاور سياسيّ مُشترَك في الجامعات، والمُستشفيات، والمدارس، وفي كلِّ مكان أبناء المذاهب المُختلِفة يعيشون معاً.

أرجو ممّن لم يزُر العراق أن يتفضَّل؛ ليرى بأمِّ عينه؛ ثقافة المرئيِّ لها دالة على ثقافة المسموع. راجعوا المسموع بالمرئيِّ، وليس العكس. تعالوا إلى العراق، وانظروا بأمِّ أعيُنكم ما الموجود في العراق. هل هناك رفض شيعيّ للسُنـَّة،أم سُنـّيّ للشيعة؟

أبداً لو -لاسمح الله- يصل العراق إلى هذه الحالة ماذا ستقول العوائل التي تـُشكِّل 27% من زواج من الطرفين من السُنـّة والشيعة، وأجيال، وأولاد، وأحفاد. هل نقول لهم من الآن فصاعداً أنت مع أمِّك ضدَّ أبيك، أم مع أبيك ضدَّ أمِّك. هذه خرافات، وتـُرّهات. هذا الكلام هذا غير موجود.

إخواني.. في العراق تحتدم معركة وتعلمون أنَّ المعركة ليست عراقيّة المنشأ، كما أنها ليست عراقيّة المآل، والنهاية. بدأت قبل العراق بسورية، وانتقلت إلى العراق، وقابلة لأن تنتقل إلى كلِّ بلد من بلدان العالم.

أيُّ بلد من بلدانكم غير مُهدَّد لا أقولها مُتشفـِّياً، بل أقولها واعياً، وحذراً، وحريصاً؛ لأنَّ أهلكم أهلي، وأطفالكم أطفالي؟

انتبهوا لما يحيق بالمنطقة من خطر. تـُذكِّرني هذه بحرب الثلاثين عاماً حرب ألمانيّة-ألمانيّة في 1618 إلى1648، ثم صارت أوروبيّة-أوروبيّة عندما عبرت الحُدُود الألمانيّة، وانتقلت إلى السويد، والدنمارك، وفنلندا، وبقيّة المناطق.

ماذا يُريدون؟

يُريدون أن يعبثوا بالبيت الإسلاميِّ في المنطقة. نحن -المُسلِمين- معنيّون أكثر من غيرنا بأن نـُعزِّز هذه الحالة، ونحن نتشرَّف أنَّ العالم الإسلاميَّ يتضمَّن ديانات، وخلفيّات غير مُسلِمة عاشت بكلِّ وداعة، وبكلِّ مَحبّة تحت مِظلة الإسلام الحنيف. في التاريخ في الدولة الاسبانيّة 800 سنة، واليوم في العالم الإسلاميّ. الإسلام لا يسمح لأحد بأن يتجاوز على هؤلاء.

نحتاج إلى الفكر، والفكر موجود، لكننا ينبغي أن نـُبرِز البُعد الإنسانيَّ في هذا الفكر، ونحن في مُؤتمَر، ومن وحي هذا العنوان يجب أن نـُبرِز الجانب الإنسانيَّ؛ أنسنة الفكر، والنظر إلى الآخر من زاوية إنسانيّة أيّاً كان دينه، أو مذهبه، أو قوميّته، أو اتجاهه السياسيّ. هذه الأنسنة تقوم على أساس احترام كرامة الإنسان، ولسنا نـُعطي الكرامة للإنسان، بل الله -سبحانه عزّوجلّ- أعطى الكرامة للإنسان:((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ))

كرَّم بني آدم بما هم بنو آدم بغضِّ النظر عن كلِّ الاعتبارات فلا يُمكِن أن نسلب منهم هذه الكرامة.

إخواني.. أرجو أن نـُركـِّز الجهد على العنوان، ونخرج بنقاط عمليّة مُحدَّدة. العنوان استهواني كثيراً (الرؤية المُشترَكة لتعزيز التسامُح ونبذ الإرهاب)

كيف نـُحدِّد ابتداءً هذه الرؤية المُشترَكة؟

هناك مُشترَكات بين شُعُوبنا اقتصاديّة، وسياسيّة، ومُجتمَعيّة. كلـُّها تستدعي، وتستوقفنا لأن نقف عندها. عندما نستغرق في الوعي المُشترَك فيما بيننا لا يبقى مجال لأن تستجذبنا الخلافات الأخرى.. لدينا مصالح مُشترَكة كثيرة، وأمامنا مخاطر مُشترَكة.

أيُّ خطر مُشترَك أكثر من خطر الإرهاب الذي يستبيح الطفل؟

ماذا تعني استباحة الطفل؟

تعلمون أنَّ الطفل هو الوحيد الذي يُمثـِّل العالم كلـَّه.. الوحيد الذي عندما يبتسم يصدق بابتسامته؛ لأنه لا يُجيد فنَّ الدبلوماسيّة غير الصحيحة، والمُنحرِفة، والكاذبة.  طفل ابن سبعة أشهُر يُقتـَل، وبنت صغيرة تـُقتـَل بدم بارد أيُّ خطر مُشترَك أكثر من هذا الخطر؟

نحن نـُواجه هكذا ثقافة فما هو مُعادِلنا الثقافيّ؟

هل نقف عند حُدُود الصمت، أم يجب أن نـُحرِّك هذه المُفاعِلات الفكريّة؛ حتى يعرف العالم أنَّ الإسلام، وعظمة الإسلام تكمن في أنه يملك مفاتيح الحلِّ لأكبر مُشكِلة.

وعي الأخطار المُشترَكة.. لا نـُريد أن نعيش عالماً حالماً بلا خلافات، لكن لنكُن واقعيِّين، ونـُقدِّم المُتفـَق على المُختلـَف، وإن لم نستطع أن نـُجمِّد المُختلـَف فلنبدأ بالمُتفـَق أولاً قبل المُختلـَف.

كم نعرف عن المُشترَكات، ونقاط الاتفاق بيننا وبين دول الجوار، وفي داخل مُجتمَعاتنا بيننا وبين الآخر الوطنيِّ، والآخر المذهبيِّ، والآخر الدينيِّ؟ كم عرفنا من المُشترَكات؛ حتى نحن نبدأ بالمُختلفات، وتستهلكنا؟

إشاعة ثقافة الإسلام بالمَحبّة، والتسامُح لا نجد لها أثراً في أيّة ثقافة أخرى. مُشكِلة الإسلام أنَّ عظمته في الفكر، والمعرفيّة، وتحتاج إلى حَمَلة، وأنتم الحَمَلة. إنما أخاطبكم، ومن خلالكم أخاطب شُعُوبكم، وأخاطِبُ أنظمتكم السياسيّة أننا اليوم أكثر من أيِّ وقت آخر يجب أن نضع الأولويّات لمُشترَكاتنا..لثقافتنا.. لا معنى لأن نـُحيي ذكر الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في المولد، ولا نعيش الرسول الرسالة، والمصداقيّة، والسُلُوك. لا يعني أن نشجب في الخطابات الإرهابيِّين، والظلمة، ولا نـُقدِّم شيئاً إلى الشُعُوب التي ابتـُليت الآن، وأنياب الإرهاب تنهش في أنسجتها الاقتصاديّة، والسياسيّة، والإنسانيّة.

نحن مع بذل كلِّ الجُهُود السياسيّة الجدّيّة لحلِّ المشاكل التي عمَّت بلداننا (ليبيا، واليمن، وسورية، والصومال)، وبقيّة الدول.. نحن مع كل الجُهُود التي تـُبذَل من أجل أن ترفل هذه المناطق بالعزِّ، والكرامة، والمَحبّة، والازدهار.

شكراً لكلِّ الأعضاء في المنظمة الذين دعموا العراق، وأتمنـَّى أن يتواصلوا بدعهم بما يتناسب مع محنة العراق. العراق يُقاتِل، ويُواجه داعش نيابة عنكم جميعاً. لا أقول ذلك مُتبرِّماً إنما هذه هي الحقيقة. داعش عندما تستقوي بالعراق ستنتقل إلى أراضيكم. لا يُوجَد ما يمنع هؤلاء من أن ينتشروا في كلِّ بلد من بلدان العالم؛ إن لم تكونوا في أرض العراق، وإن لم تكونوا مع إنسان العراق فكونوا مع إنسان العراق من الخارج بدعمكم، وصوتكم، وكلِّ أنواع الدعم الذي يُمكِن أن تـُشكِّل رسالة رائعة يستلهمها العراقيّون. والشعب العراقيّ شعب أبيّ، ونبيل، ووفيّ لا يُمكِن أن ينسى مَن يقف إلى جانبه خـُصُوصاً في ظـُرُوف المحنة.

أتمنى لمُؤتمَركم النجاح، وأن تتكلـَّل جُهُودكم بكلِّ الخير والمُوفـَّقيّة، وأن يُسجِّل شوطاً نوعيّاً مُتقدِّماً ليتغلب به الحقّ على الباطل، وتنتصر الإنسانيّة فيه على أعدائها. على الدواعش المُجرمين الذين أشاعوا ثقافة الدمار في بلداننا بعد أن شعَّ منها، ومن أرضها صوت الإسلام، ورسالة الإسلام، ومفاهيم الإسلام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !