مواضيع اليوم

كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقـيّة في جامعة الصين للشؤون الخارجية عن العلاقات العراقـيّة-الصينيّة، والأوضاع في العراق، والشرق الأوسط

قال الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيّة: إن داعش والإرهاب المُعاصِر يُعبِّر عن ثقافة تجعل الشباب على استعداد لأن يقتلوا أنفسهم من أجل أن يُحققوا أهدافاً يعتقدون أنها صحيحة. مشدداً على أنّ هكذا ثقافة تحتاج إلى مُعادِل ثقافيٍّ تجعل الشاب مُسلـَّحاً بفكر إنسانيٍّ يحترم الإنسان، ويعمل على حلِّ مشاكله بطرق سياسيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة، بعيداً عن إيذاء الإنسان، وقتل الإنسان كما هو مُعتمَد من قِبَل قوى الإرهاب.

جاء ذلك خلال كلمة ألقاها الدكتور إبراهيم الجعفري وزير الخارجية العراقية في جامعة الصين للشؤون الخارجية.

وأشار الدكتور الجعفريّ إلى أنّه كلما امتدَّ العمل الدبلوماسيّ تقلـَّصت دائرة الحُرُوب، وتقلـَّصت دائرة الأزمات، ولا عالم بلا مشاكل، ولكن لا تُوجَد مُشكِلة صعبة، ومُستحيلة الحلِّ على الدبلوماسيّة؛ فكلما قوَّينا الجانب الدبلوماسيَّ تخلـَّصنا من أكبر ما يُمكِن من الحُرُوب المُحتمَلة.

موضحاً: العالم اليوم عالم تقليص المسافات إن لم نقـُل انعدام المسافات. لا يُوجَد شيء اسمه البعيد والقريب الجغرافيّ، أو البعيد والقريب الاقتصاديّ، أو البعيد والقريب السياسيّ عندما تقتضي المصالح تتذلّل كلُّ العقبات. منوهاً: أن البضائع الصينيّة اليوم تغزو الأسواق العالميّة على الرغم من المسافات البعيدة، وكذلك النفط العراقيّ يعبر، ويذهب إلى مناطق بعيدة؛ إذن عالمنا اليوم هو عالم تبادُل مصالح، ونتطلع إلى مزيد من التعامُل بيننا وبين الصين؛ لأنها دولة لها تاريخها، ولها حضارتها، ولها إنسانيّتها، وتتميَّز بسياسة مُعتدِلة تبتعد عن الأزمات، وتحاول أن تمدَّ العلاقة مع كلِّ دول العالم.

وأكد الدكتور الجعفريّ على أنّ استراتيجيّة المُواجَهة ضدَّ داعش قامت على أساس التعاطي الآنيِّ العسكريِّ بالقوات المُسلـَّحة العراقيّة، وقوات الحشد الشعبيِّ، والعشائر العراقـيّة، والبيشمركة الكرديّة. وكلُّ هؤلاء ينضوون، ويتعاملون تحت خيمة القوات المُسلـَّحة العراقـيّة، ويُواجهوا داعش على الأرض، وجعلوه يتقهقر، ويتراجع عندما كانت عناصره قريبة من العاصمة بغداد، وانسحبت إلى مناطق بعيدة عنها.

مشيراً إلى أن القوات المُسلـَّحة العراقـيّة تـُمثـِّل كلَّ الشعب العراقيِّ من دياناته المُختلِفة، وقوميّاته المُختلِفة، ومذاهبه المُختلِفة، واتجاهاته السياسيّة المُختلِفة، وهم القوات البرّيّة الوحيدة التي تـُدير عمليّة الصراع ضدَّ داعش، ولا تـُوجَد قوات دوليّة على الأرض.

 

وإليكم النصّ الكامل لكلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقـيّة في جامعة الصين للشؤون الخارجية 15/6/2015 عن العلاقات العراقـيّة-الصينيّة، والأوضاع في العراق، والشرق الأوسط  

 

أحيِّيكم جميعاً أجمل تحيّة، وأشكر البروفيسور (جي آي شي) على هذه الدعوة الكريمة، كما أشكر الأستاذ المُقدِّم.

هذه فرصة طيِّبة لي أن ألتقيم، وأتحدَّث معكم في حَرَم الجامعة حَرَم الدبلوماسيّة، وآفاق الدبلوماسيّة، وفي الآفاق الدوليّة مع التركيز على العلاقات العراقيّة-الصينيّة، وكذلك دول المنطقة.

قلة من دول العالم التي تملك تاريخاً طويلاً من الحضارة، كما يملكه العراق، وكما تملكه الحضارة الصينيّة في التاريخ. هناك منابع حضاريّة، وتاريخيّة مُشترَكة بين الصين وبين العراق، ومثلما تكون منابع الحضارة مُشترَكة في التاريخ بين الصين وبين العراق يُفترَض -أيضاً- أن تكون مُشترَكة إذا استهدفت الإنسان، وانطلقت من الإنسان، وراعت خصوصيّة الإنسان حتى تكون حضارة إنسانيّة. بهذا المقطع المُختصَر في المدخل أسجِّل إدانة لكلِّ الذين يعتقدون أنَّ الحضارات تصطدم، ويدعون إلى صِدام الحضارات بدلاً من أن يدعو إلى المُصالـَحة، وإلى التعارُف، وإلى التكامُل الحضاريِّ كما خرج بها صموئيل هنتغتن؛ وبما أنَّ الإنسان في تطوُّر مُستمِرٍّ من الناحية النفسيّة، والفكريّة، والروحيّة بما يحمل من معنويّات، وما ينعكس على العلاقات الاجتماعيّة؛ إذن هناك ديناميّة في الإنسان؛ ولأنَّ الحضارة وليدة الإنسان، وهي مُؤنسَنة؛ إذن الحضارة هي الأخرى تتطوَّر على طول التاريخ، ولا تقف عند حدٍّ من الحُدُود. مثلما نختلف مع صموئيل هنتغتن في صِدام الحضارات نختلف كذلك مع فرانسِس فوكوياما الذي تحدَّث عن نهاية التاريخ، والإنسان الأخير، وادّعى أنَّ حركة التاريخ توقـَّفت، وأنه حان وقت الإنسان الأخير بينما نجد اليوم هناك تساوقاً حضاريّاً، وهناك سبق حضاريّ، وأنَّ المرحلة الأخيرة شهدت تطوُّرات في مسيرة البشريّة زمنها قصير، لكنَّ أثرها بالغ جدّاً، فلا معنى لأن نـُسلـِّم بنهاية التاريخ، والإنسان الأخير.

العلاقات الاجتماعية تعبير عن طبيعة الإنسان في داخل الأسرة، وفي داخل القبيلة، وفي داخل البلد، وفي المنظومة الدوليّة.

الإنسان بطبيعته كائن اجتماعيّ يتطلع إلى عقد العلاقات بينه وبين بقيّة المُجتمَعات على أسس اقتصاديّة، وسياسيّة، ومصالح مُشترَكة، ولعب الاقتصاد دوراً مُهمّاً في مدِّ الجُسُور بين الدول. فمرّة تأخذ صفة إيجابيّة جيِّدة من قبيل تبادُل المصالح، وتحريك الأعصاب التجاريّة بين بلد وآخر في مُعادَلة الاستيراد والتصدير، ومرّة أخرى تأخذ صفة سلبيّة عندما تقوم بعض الدول باحتلال دول أخرى؛ لاستلاب ثرواتها، والسيطرة على مواردها الاقتصاديّة.

العراق بلد مُتعدِّد الثروات حيث النفط، والزراعة، وثروة السياحة إذ هو من أكثر بلدان العالم شُهرة؛ لأنَّ فيه محطات استقطاب سياحيّة كثيرة إذ يؤمّه زُوّار من مُختلِف مناطق العالم؛ إذن العراق بلد مُتعدِّد الثروات، وليس أحاديَّ الثروة؛ ولأنَّ العراق بلد له تاريخ قديم جدّاً، وفجر الحضارة البشريّة في كلِّ العالم كان قد بزغ في جنوب العراق في أهوار الناصريّة، وأهوار العمارة، وأهوار البصرة منذ 6000 سنة؛ لذا يستقطب المُهتمّين الثقافيِّين، والحضاريِّين لأن يتجهوا نحوه. لابدَّ أنكم سمعتم عن مسلة حمورابي التي كُتِبت في العراق قبل 3000 سنة و5390 عمر هذه المسلة أوَّل مسلة تتحدَّث عن القانون الجزائيِّ.. أوَّل مسلة تتحدَّث عن حُقـُوق الإنسان.. أوَّل مسلة منذ ذلك الوقت تتحدَّث عن حُقـُوق المرأة.. أوَّل مسلة تتحدَّث عن ضرورة تنظيم شبكة المياه، وتوزيعها بشكل عادل؛ حتى يُمكِن الإفادة من الثروة الزراعيّة.

دعونا ننتقل من منبع الحضارة في العراق إلى منبع الحضارة في الصين.. الصين قبل 3000 سنة قبل الميلاد -الآن أصبح عُمر طريق الحرير 5000 آلاف سنة، وهو يرمز إلى التجارة، نعم.. غلب عليه اسم الحرير لكثرة صناعته، ولجودة نوعيّته، وكان عصباً اقتصاديّاً يربط بين هذه الدول، وكان قد انطلق من الصين.

لقد زُرتُ يوم أمس سُور الصين، وعُمره 2300 سنة يرمز إلى حالة حضاريّة بُنِيَ هذا السُور ليحفظ أمن الصين، ويمتدَّ على مساحة بين 5000 إلى 6175 كيلو متر حول بكين.

كيف تجاوزت هذه الحضارات آلاف السنين، وبقيت حيّة في شُعُوبها إلى الآن، والعالم يتطلع لها؟.. لابدَّ لنا أن نـُحوِّل هذا التراث التاريخيَّ إلى واقع اقتصاديٍّ وسياسيٍّ بين العراق وبين جمهوريّة الصين.. الصين بلد صناعيّ مُتطوِّر، ومنذ مرحلة طويلة من الزمن عُرِفت الصناعات المُهمّة أنها انطلقت من الصين، وأذكر كلمة لرئيس وزراء بريطانيا فرانسيس باكون في عام 1625 في القرن السابع عشر: ثلاث صناعات غيَّرت وجه العالم -لم يكُن يعلم أنَّ هذه الصناعات الثلاث كلها كانت من الصين- صناعة الورق وفيها سِرّ الإعلام، وصناعة البارود وهو الأسلحة والجُيُوش والانتصارات، والمغناطيس وهو سِرُّ البوصلة والتجارة البحريّة.

المُشترَكات بين الصين والعراق كثيرة جدّاً. في الحقل الاقتصاديِّ يُوجَد مجال للاستثمار، والإفادة من مصنوعات الصين، وإفادة الصين من الثروة النفطيّة والغاز العراقيّ، ونتطلع إلى زيادة التبادل التجاريِّ بيننا وبين الصين فقد بلغ عام 2014 حوالى 28 مليار دولار، وفي عام 2015 تجاوز 30 مليار دولار، وهناك تقارُب إن لم يكُن تطابُق في المواقف السياسيّة الدوليّة، والإقليميّة بين العراق وبين الصين تجاه الكثير من الملفات، ومنها: عدم الدخول في المحاور الدوليّة المُتصارِعة، وهو مبدأ يتطابق مع العراق؛ فإنما رفضنا تدخـُّل الدول في شُؤُون الأمن الداخليِّ لليمن انطلاقاً من هذا المبدأ، وفي الملفِّ النوويِّ الإيرانيِّ كنا ندعو إلى الحوار، وكذلك الصين كان موقفها حلَّ القضيّة عن طريق الحوار.

الدبلوماسيّة العراقيّة تـُؤكِّد على ضرورة الانفتاح على كلِّ دول العالم على قاعدة المصالح المُشترَكة وأخيراً الأخطار المُشترَكة بعد أن أصبح خطر داعش خطراً دوليّاً، واحتلت هذه المُفرَدة اهتمام العالم.

نحن نـُثمِّن المواقف السياسيّة للصين في المُنتدَيات الدوليّة، وأصل موقفها هو الدعم مع الأسرة الدوليّة جميعاً في مُؤتمَر نيويورك ضدَّ الإرهاب، وتحديداً داعش.. داعش رُبّما تكون ظاهرة جديدة في التاريخ المُعاصِر لم يشهدها العالم من قبل؛ لأنها تميل إلى التفجير والقتل في كلِّ مُجتمَع، وتستثمر الثنائيّة الموجودة في ذلك المُجتمَع، فتُحوِّل الثنائيّة المُتكامِلة إلى ثنائيّة مُتحاربة، ومُتقاطِعة. مثل هذه الحركات مرّت في التاريخ، واستهدفت المُجتمَعات المُتنوِّعة؛ لتنفذ بثقافة إيجاد المعارك، والتقاطع بين مُكوِّنات المُجتمَع الواحد. حصلت في التاريخ في القرن السابع عشر عندما دخلت إلى المُجتمَع الألمانيِّ بين الكاثوليك والبروتستانت في عام 1618 إلى 1648، وحصلت في حرب امتدّت 30 سنة، وتُسمَّى حرب الثلاثين عاماً من عام 1618 إلى عام 1648، وانتشرت من الداخل الألمانيِّ إلى الدنمارك، والسويد.

هذه الثقافة خطرة؛ لأنها تلعب باسم الدين، وباسم المبادئ الإنسانيّة العامّة، وتـُسيء للمُجتمَعات. لابدَّ أنكم تـُتابعون من خلال شاشات التلفزيون ما يحصل في المناطق التي تدخل إليها داعش حيث قتل الأطفال، والاعتداء على النساء، وحرق المُواطِنين وهم أحياء. حصل ذلك في العراق، والأردن، وحصل في مناطق مُختلِفة من منطقة الشرق الأوسط.

داعش تواجدت ابتداءً في الشام، ثم انتقلت إلى العراق، ومن العراق إلى فرنسا، وأستراليا، وكندا، ومناطق مُتعدِّدة، ولا تقف عند حُدُود. وبالمُناسَبة أنَّ مُواطِني داعش ينتمون إلى أكثر من 62 دولة في العالم بعضها من كبرى الدول الديمقراطيّة، وهذه ظاهرة تسترعي الانتباه، ويجب أن نفكر لماذا ينخرط الشباب  في حركة كحركة داعش تستهدف القتل، والتبضيع، والتمثيل، والإساءة لكلِّ المُواطِنين في مُختلِف مناطق العالم.

تجربتنا في العراق، والإرهاب الذي أعقب سُقوط الدكتاتور صدام حسين في عام 2003 بدأت بعض العناصر تتسلّل من أفغانستان، وبعد ذلك من سورية، ثم جاءت إلى العراق، ثم بدأت تمارس عملاً إرهابيّاً، واستثمرت بعض الأخطاء التي حصلت في الحكومات السابقة، فوجدت فراغاً بشكل مُفاجئ، واحتلت محافظة الموصل ثاني أكبر مدينة بعد العاصمة بغداد.

استراتيجيّة المُواجَهة ضدَّ داعش قامت على أساس التعاطي الآنيِّ العسكريِّ بالقوات المُسلـَّحة العراقيّة، وقوات الحشد الشعبيِّ، والعشائر العراقـيّة، والبيشمركة الكرديّة. كلُّ هؤلاء ينضوون، ويتعاملون تحت خيمة القوات المُسلـَّحة العراقـيّة، ويُواجهوا داعش على الأرض، وجعلوه يتقهقر، ويتراجع عندما كانت عناصره قريبة من العاصمة بغداد، وانسحبت إلى مناطق بعيدة عنها.

القوات المُسلـَّحة العراقـيّة تـُمثـِّل كلَّ الشعب العراقيِّ من دياناته المُختلِفة، وقوميّاته المُختلِفة، ومذاهبه المُختلِفة، واتجاهاته السياسيّة المُختلِفة، وهم القوات البرّيّة الوحيدة التي تـُدير عمليّة الصراع ضدَّ داعش، ولا تـُوجَد قوات دوليّة على الأرض.

وللعلاقة الوثيقة بين العمل السياسيِّ والعمل الأمنيِّ والعسكريّ فقد تحرَّكت الحكومة العراقيّة في برنامج سياسيٍّ، ووقــَّعت عقداً بينها وبين مُكوِّناتها السياسيّة في العراق سُمّي (عهد الشرف)، ويتضمَّن 20 نقطة كانت أولى هذه النقاط هي تشكيل حكومة عراقيّة تـُمثــِّل في مُكوِّناتها مُكوِّنات الشعب العراقيِّ المُختلِفة. كانت هناك فجوة، ومسافة كبيرة، وحواجز بين الحكومة الاتحاديّة في بغداد وحكومة كردستان في الإقليم عملت الحكومة على تقليص هذه الفجوة، والتعاون بين الحكومة الاتحاديّة وحكومة الإقليم.

أعتقد أنَّ المُؤشِّرات إيجابيّة لصالح العمليّة الوطنيّة العراقيّة، وتمَّ الاتساع لأكبر عدد مُمكِن من مُكوِّنات الشعب العراقيِّ، فكلهم ينضوون تحت لواء الحكومة الوطنيّة، ويعملون معاً سواء في المجال السياسيِّ، أم الأمنيِّ، أم الاقتصاديّ، وكذلك العسكريّ.

أحبُّ أن أثير معكم شيئاً -باعتباركم طلبة في الجامعة- داعش والإرهاب المُعاصِر يُعبِّر عن ثقافة تجعل الشباب على استعداد لأن يقتلوا أنفسهم من أجل أن يُحققوا أهدافاً يعتقدون أنها صحيحة. مثل هكذا ثقافة تحتاج إلى مُعادِل ثقافيٍّ تجعل الشاب مُسلـَّحاً بفكر إنسانيٍّ يحترم الإنسان، ويعمل على حلِّ مشاكله بطرق سياسيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة، أي: برنامج بعيد عن إيذاء الإنسان، وقتل الإنسان كما هو مُعتمَد من قِبَل قوى الإرهاب.

كلما امتدَّ العمل الدبلوماسيّ تقلـَّصت دائرة الحُرُوب، وتقلـَّصت دائرة الأزمات، ولا عالم بلا مشاكل، ولكن لا تُوجَد مُشكِلة صعبة، ومُستحيلة الحلِّ على الدبلوماسيّة؛ فكلما قوَّينا الجانب الدبلوماسيَّ تخلـَّصنا من أكبر ما يُمكِن من الحُرُوب المُحتمَلة.

عالم اليوم غاصٌّ بالاختلافات، ولا نملك إلا الطرق الدبلوماسيّة الصحيحة، وتبادل المصالح الاقتصاديّة من أجل إخماد هذه الحُرُوب، وجعل العالم يعيش في مأمن منها. العالم اليوم عالم تقليص المسافات إن لم نقـُل انعدام المسافات. لا يُوجَد شيء اسمه البعيد والقريب الجغرافيّ، أو البعيد والقريب الاقتصاديّ، أو البعيد والقريب السياسيّ عندما تقتضي المصالح تتذلّل كلُّ العقبات. البضائع الصينيّة اليوم تغزو الأسواق العالميّة على الرغم من المسافات البعيدة، وكذلك النفط العراقيّ يعبر، ويمخر في عُباب البحر، ويذهب إلى مناطق بعيدة؛ إذن عالمنا اليوم هو عالم تبادُل مصالح، ونتطلع إلى مزيد من التعامُل بيننا وبين الصين؛ لأنها دولة لها تاريخها، ولها حضارتها، ولها إنسانيّتها، وتتميَّز بسياسة مُعتدِلة تبتعد عن الأزمات، وتحاول أن تمدَّ العلاقة مع كلِّ دول العالم.

أكتفي بهذا القدر. إذا كانت لديكم مُداخَلات، أو أسئلة فأنا على أهبة الاستعداد لأن أتفاعل معها، والسؤال الذي لا أعرفه سيكون أسهل سؤال عليَّ؛ لأنَّ جوابه بسيط جدّاً، وهو: (لا أعرف)، ولا أستحي عندما أقول: لا أعرف.

 

  • قبل قليل تفضّلتم بالحديث عن التعاون التجاريِّ بين الصين والعراق، فهل لكم أن توضح لنا ما دور الصين في إعادة الإعمار الاقتصاديِّ في العراق؟

الدكتور إبراهيم الجعفريّ: هناك فرص استثمار.. بالنسبة إلى العراق عندما انفتح على الصين وقفت الصين إلى جانبنا ليس فقط في مجال السياسة، بل من الناحية الاقتصاديّة دعمت، وكذلك من الناحية الإنسانيّة حين قدَّمت خدمات، وليس الآن فقط، بل منذ سُقوط النظام السابق من 2003 إلى ما بعده.

نحن نتطلع إلى زيادة حجم الاستثمار أكثر فأكثر، لكنَّ الاقتصاد، ورأس المال -كما يقولون في الاقتصاد- جبان، ومع ذلك هناك حُضُور عالٍ للشركات بعضها صينيّة وبعضها شركات بهُويّات، وعناوين أخرى غير صينيّة.

يُوجَد حُضُور فعّال جدّاً للصين في مُختلِف الشركات في العراق، وعندما تعرَّضت بعض المناطق إلى الانتهاك من قِبَل داعش كانت الحكومة الصينيّة حكيمة في التعامُل مع رعاياها في العراق، فالمناطق التي كانت فيها خطورة سحبت هذه الشركات مُواطِنيها من هذه المناطق، ونقلتهم إلى مناطق أخرى، وظلوا يُنتِجون في العراق، ويستثمرون، والعراق يستفيد منهم.

نتطلع إلى الزيادة في الاستثمار الصينيِّ في العراق خـُصُوصاً بعد أن تعرَّض النفط إلى انخفاض حادّ في أسعاره من 105 دولارات في البرميل إلى أقلَّ من 40 دولاراً، وكان من الطبيعيِّ أن نبحث عن مصادر، وأحد هذه المصادر هو زيادة الكميّة المُصدَّرة من العراق؛ حتى نـُعادِل الانخفاض الحادَّ في أسعار النفط.

 

  • قبل قليل قلتم: إنَّ داعش أصبح ظاهرة شديدة لم تَرَها البشريّة، وإنَّ مُحارَبة داعش قد تجاوزت الحُدُود، وأصبحت حرباً دوليّة، وأكّدتم على أنَّ المُمارَسات، والأعمال الدبلوماسيّة في جميع البلدان يجب أن تكون مبنيّة على عدم التدخـُّل في الشُؤُون الداخليّة للبلدان الأخرى.. في ظلِّ هذه الظروف ما الشكل المطلوب لتضافر الجهد الدوليِّ لمُكافحة داعش، وما مدى انخراط المُجتمَع الدوليِّ في مُحارَبة داعش.

الدكتور إبراهيم الجعفريّ: أمّا عن مبدأ عدم التدخـُّل فنحن نعتقد أنَّ التدخـُّل في شُؤُون الدول ليس حلاً، بل يُسبِّب الأزمات، ويزيدها، ويُفاقِمها. رُبّما تحتاج بعض الدول بإرادتها أن تأخذ إسناداً من دول أخرى، ولكن لا ينبغي أن لا يكون الإسناد الأمنيّ تدخـُّلاً يُؤزِّم العلاقات أكثر فأكثر، ويُعطي فرصة، ومُبرِّرات لداعش أن تتواجد أكثر فأكثر. أمّا عن تضافر الجُهُود الدوليّة فنحن نعتقد أنَّ الجُهُود الأمنيّة يجب أن تتكثـَّف على الصُعُد الدوليّة: الصعيد الأمنيّ، والعسكريّ بتوفير الأسلحة، والتجهيزات، والمعلومات الاستخباريّة خُصُوصاً أنَّ هذه الحرب ليست حرباً تقليديّة، بل هي حرب من نوع جديد؛ المعلومات الاستخباريّة تلعب دوراً كبيراً في معرفة مكان عُبُور هؤلاء، وعِبر أيّة دول، وأين يتدرّبون، ومن أين يأخذون مصادر الأموال، وكيف يدخلون في دول الضحيّة. هذه شبكة لم تنشأ من نفس البلد إنما تأتي من بلدان أخرى، وتنتقل إلى هنا؛ إذن لابدَّ أن تتضافر جُهُودنا بشكل واضح، وجيِّد؛ حتى نمنع تنقـُّل هؤلاء من بلد إلى بلد. يجب أن يكون الردُّ ردّاً عالميّاً. لا ينبغي أن نترك كلَّ بلد وحده. عندما تدخل داعش في بلد يجب أن تشعر أنها لا تواجه إنسان ذلك البلد، وجيش ذلك البلد فقط، بل تواجه كلَّ إرادات الدول المُخلِصة، والوطنيّة، ولا تترك ذلك البلد وحده ضحيّة لداعش إنما تصطفّ إلى جانبه؛ حتى يتمَّ القضاء عليها، ومنعها من التنقـُّل بين البلدان.

نحن عندنا نزوح لأكثر من مليونين وستمائة ألف مُواطِن من الموصل، ومُدُن أخرى، وهذا يجب أن يحظى بدعم العالم من الناحية الإنسانيّة، وتقديم المُساعَدات، والأدوية، ومُساعَدات إنسانيّة مُختلِفة.

 

  • ما تداعيات تفاقم هذا التنظيم على سياسة العراق الخارجيّة، والعلاقات العراقيّة مع البلدان المُجاوِرة له؟

الدكتور إبراهيم الجعفريّ: إذا تـُرِك الإرهاب يستمرُّ بهذه الطريقة لا يُؤثـِّر فقط في الدول التي يفتك بها، وإنما ينعكس عليها.

لا يُمكِن التفكيك بين الداخل العراقيِّ والخارج العراقيِّ. كلما استقرَّ الداخل العراقيّ أكثر سمحت الظروف بأن يمتدَّ، ويُبرم، ويمدَّ الجُسُور مع الدول الأخرى فهو يستهدف توتير العلاقات؛ لذا يفتك بالعراق، ويحاول أن يخترق الإعلام؛ ليُشوِّه صورة العراق، أو أيّة دولة يستهدفها يحاول أن يُشوِّه صورتها بإعاقة حركتها على مُستوى العلاقات بينها وبين دول أخرى؛ إذن لا يُمكِن الفصل بين ما يُصيب العراق في الداخل عن تأثيره في الخارج؛ لذا نشَّطنا حركة الدبلوماسيّة منذ الشهر التاسع من العام الماضي، وحضرنا المُؤتمَرات الدوليّة المُختلِفة في جدّة، وباريس، ونيويورك، وكان منبر الأمم المُتحِدة قد شهد الولاء للعراق، وأتذكَّر رئيس المُؤتمَر جون كيري قال في جلسة ثنائيّة خاصّة: أنا لم أشهد في حياتي مُؤتمَراً في مجلس الأمن تقف فيه الأسرة الدوليّة بكامل أعضائها إلى جانب دولة كما هي اليوم تقف إلى جانب دولة العراق.

جمهوريّة الصين من خلال الاتصال بيني وبين السيِّد وزير خارجيّة الصين حين التقينا في نيويورك، وعبَّر عن موقف جمهوريّة الصين، قال: سياستنا أن لا ندخل في التحالفات الدوليّة، ولكننا نـُريد أن نـُساعِد العراق. فرحّبتُ، وشكرته على هذا الموقف، وقلتُ له: نحن -أيضاً- نمدُّ يد المصافحة لأيّة دولة مُخلِصة تعمل معنا حتى من خارج التحالف الدوليّ الذي شُكِّل لإسناد العراق، فنحن لم نـُشكـِّل التحالف الدوليَّ، وإنما نستثمر الدعم الدوليَّ للتحالف، وأيّة دولة.

الصين وإيران عندما قدّمتا دعماً لنا خارج التحالف الدوليّ نحترم سياستهما، وسياسة دولتيهما، ونمدّ يد المُصافحة، ونستفيد مما تـُقدِّمانه من مُساعَدة.

 

  • ما دور الولايات المُتحِدة الأميركيّة الحاليّ في الشرق الأوسط، وما الدور المُستقبَليّ في هذه المنطقة؟

الدكتور إبراهيم الجعفريّ: إذا رجعنا قليلاً إلى بداية القرن العشرين فالولايات المُتحِدة الأميركيّة عُزِلت عن العالم؛ لأنها لم تقبل أن تكون عضواً في عصبة الأمم المُتحِدة، علماً أنَّ فكرة عصبة الأمم هي من رأس أميركيّ (ولسن)، لكنَّ الكونغرس لم يُصوِّت عليها في مشروع الأربع عشرة نقطة، وكانت آخر نقطة تأسيس منظمة تـُسمَّى (عصبة الأمم)؛ لتولـِّي الملفات العالقة؛ فانعزلت عن العالم حتى نهاية الحرب العالميّة الثانية عام 1945. هذا المقطع الأوَّل، أمّا المقطع الثاني فقد استعادت أميركا موقع الصدارة في العالم عامّة، والشرق الأوسط بصورة خاصّة عندما نشأت من جديد الجمعيّة العامّة للأمم المُتحِدة؛ فكانت هي اللاعب الأساسيَّ والأوَّل فيها، وصارت عاصمة الأمم المُتحِدة في نيويورك، وعاصمة أميركا واشنطن.

في الشرق الأوسط إلى قبل مرحلة ترستيوك وغورباتشوف كان هناك صراع البطلين الاتحاد السوفيتيّ والولايات المُتحِدة الأميركيّة، وهذا الصراع أخذ حالة مُحتدِمة.

الاستراتيجيّة الأميركيّة تـُراهِن على ثلاث نقاط أساسيّة: النفط في العالم، والممرّات الاستراتيجيّة، وإسرائيل؛ وعلى وفق هذه الاستراتيجيّة تبدَّل العالم اليوم، واختلف عن السابق؛ لأنَّ الاتحاد السوفيتيَّ تفكّك، وانتهت مرحلة الشيوعيّة، وانتهت مرحلة الحرب الباردة رُبّما تعود الحرب الباردة، ولكن إلى الآن تجاوزها العالم، وتجاوز مرحلة صراع الأقطاب.

هناك قواعد للولايات المُتحِدة الأميركيّة ليست في منطقة واحدة، بل أكثر من منطقة، ولها قواعد في الشرق الأوسط مُتعدِّدة، هي ترعى مصالحها بالدرجة الأساس، وتحاول أن تراعي دول المنطقة، ولكن بالقدر الذي يخدم مصالحها، أو على الأقلّ لا يتعارض مع مصالحها كدولة كبرى، هناك حساسيّة ليست قليلة من بعض الدول، وبعض الشُعُوب؛ نظراً لسابق العلاقة التي حصلت بين أميركا وبين هذه الشُعُوب؛ فاليوم دول المنطقة تتطوَّر، وتـُجري تغييرات مُستمِرّة في الأرضيّة السياسيّة، والمُجتمَعيّة في الشرق الأوسط ستـُلقي بظلالها حتى على الدول الكبرى.

العالم لم يعُد كالسابق. الشُعُوب هي مَن ترسم الخارطة اليوم. ولعلكم تابعتم ما حصل في الشرق الأوسط بما يُسمَّى الربيع العربيّ، وما حصل في تونس تجاه زين العابدين بن علي، وفي مصر تجاه حسنيّ مبارك، وفي اليمن تجاه علي عبد الله صالح، وفي ليبيا تجاه معمر القذافيّ؛ إذن المنطقة حُبلى بالأحداث، وهناك إرهاصات، وتحوُّلات حادّة في المنطقة لم يعُد العالم في قبضة دولة من الدول اليوم. العالم يشهد تطوُّرات، وفي الوقت نفسه المُفاعِلات الاقتصاديّة تلعب دوراً كبيراً جدّاً في السياسة لا يُمكِن التفكيك أبداً بين قوة الاقتصاد، وبين مصير السياسة.

عندما يقوى الاقتصاد يُحدِّد معالم الدول الجديدة الصاعدة، وفي الوقت نفسه سيُؤثـِّر في تكوين حكومات، وهي -بدورها- ستراعي المصالح الاقتصاديّة؛ لذا يشهد العالم تحوُّلات جديدة لم تكُن شيئاً سابقاً في حسابه، فلا تبقى دولة من الدول تتربَّع على عرش هذا، وقد لا أؤمِن 100% بنظريّة شبيسلر الألمانيّ المعروف حين يُفسِّر التاريخ بالدورة الحلزونيّة. الشُعُوب تُناضِل من أجل تحقيق الاستقلال، أو تحقيق نهضة، وبعد ذلك تتآكل، وتضعف، وهكذا الحالة الموجيّة دولة تصعد ودولة تنزل.. لا نتمنى لدولة من الدول الضرر، ولكن يجب أن نعمل على سياسة كما هي الصين لها علاقة مع الولايات المُتحِدة الأميركيّة، ولكنها تـُحافِظ على هُويّتها، وتـُحافِظ على اقتصادها، ونحن كذلك لدينا علاقة مع دول العالم، ونعرف أين نتفق معهم، وأين نختلف معهم. المساحات التي نتفق معهم نتبادل المصالح دون أن تمتدَّ إلى الأمور التي لا نـُؤمِن بها، والتي نعتقد أنها تـُخِلُّ بسيادتنا نرفضها، ولكننا نراعي استحقاقات العالم الجديد، وهو ضرورة بناء علاقات مع كلِّ دول العالم من دون أن تـُؤثـِّر هذه العلاقات في سيادتنا. 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !