مواضيع اليوم

كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ في حفل تأبين الدكتور عصام العطيّة أستاذ القانون الدوليّ الذي أقامته وزارة الخارجيّة العراقيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

قال الله -تبارك وتعالى- في مُحكـَم كتابه العزيز:

((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً))             [الفجر : 28]

نـُساهِم اليوم في تأبين عَلـَم من أعلام الفكر، وطوداً من أطواد الجامعة حيث العطاء الثرُّ، والتنوُّع العلميُّ، والتجسيد السلوكيُّ لما يحمل من فكر، وتدويره من عالم العقل إلى عالم السلوك.

نحن بأمسِّ الحاجة اليوم لأن ننظر إلى كلِّ عالِم، وكلِّ مُفكـِّر من خلال ثقافة المرئيِّ؛ لنحكم على ثقافة المسموع، ولا نكتفي أن يكون العالِم عالِماً، بل لابدَّ أن يكون مُجسِّداً بعلمه في سلوكه على الصعيد الشخصيِّ، والأسريِّ، والتخصُّصيِّ، والاجتماعيِّ، وكلِّ الإسقاطات الفكريّة التي يحملها، والتي تبعث تلقـِّيات إيجابيّة سواء كان في عصره وهو يعيش، أم في العصور اللاحقة بعد أن يُغادِر الحياة.

الموت حقيقة. يقول الله -تعالى-: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))    [الملك : 2]

وهو (الموت) ليس فناءً إنما هو خلق، ووجود، فلا أحد يشتبه بأنَّ الموت فناء، الموت هو كما ينتقل الوليد من رحم أمّه، وهو ميِّت فيه، ويحيا في الدنيا، كذلك الإنسان عندما ينتقل من هذه الحياة يموت في هذه الدنيا، ولكن تبقى الحياة الخالدة الحقيقيّة بعد الموت. النظرة إلى الموت على أنه فناء نظرة مُتشائِمة، وبائسة، وخاطئة، وقد شغلت قضيّة الموت بالَ الفلاسفة. قد نختلف في أسباب الموت، وقد نختلف في صورة الحياة بعد الموت، لكننا لا نختلف على أنَّ الموت حقيقة -والحقيقة لا تـُبدِّل من نفسها شيئاً- ومن لم يمُت اليوم يمُت غداً، فلا نشغل بالنا كثيراً، إنـَّما المُهـِمُّ هو كيف نـُواجـِه الموت، وكيف نصنع مصيرنا بعد أن نموت، وننتقل إلى تلك الحياة الأبديّة؟

عندما نتحدَّث عن العلامة عصام العطيّة بعطاءاته نجد أنـَّه كان علامة مُتميِّزة في طريق الصعود العلميِّ منذ أن نشأ، وترعرع، ومنذ أن اعتلى منابر الفكر، ومجالات المعرفة، فأعطى ما استطاع أن يُعطي؛ وباعتباره نجماً من نجوم العلم والمعرفة في سماء العراق يُذكـِّرنا بالقانونيِّين الأوائل، ويُذكـِّرنا باللائحة القانونيّة الأولى في العالم التي خُطـَّت في زمن حمورابي في المسلة المعروفة عام 1792 إلى عام 1750 قبل ميلاد السيِّد المسيح -عليه السلام- قرابة 4000 سنة.

هذا العقل العراقيّ المُتفتـِّق الذي أنجب نظريّة معرفيّة، وأنجب فكراً يحقُّ لنا أن نفخر من دون غرور بأنَّ لنا مثل هذا التاريخ، ومثل هذا الواقع، وهكذا تتدوَّر العطاءات العراقيّة.

المرحوم العطيّة اعتلى منبر الجامعة، ومزج بين العلم والتربية، وكان مُعطياً في ساحة الخارجيّة بمعهد الخدمة الخارجيّة؛ لذا يموت الإنسان، لكنَّ علمه يبقى، ويمتدُّ من خلال المُتلقين من حوله؛ وقد وَرَدَ في الحديث الشريف: (إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنتفـَع به، وولد صالح يستغفر له))

الكثير من الناس يمشون بيننا أمواتاً؛ لأنهم بلا عطاء، ولا بناء، ولا صدق، ولا مصداقيّة.. إنـَّه ميِّت الأحياء، فهو يأكل، ويشرب وكذلك الحيوان يأكل، ويشرب، والنبات أيضاً في دورة الطبيعة يأخذ ثاني أوكسيد الكاربون، ويُعطي الأوكسجين في التركيب الضوئيِّ، والتنفس. هذه ليس حياة.

وهناك الموت المعنويّ، يقول الشاعر:   ما مات من مات محموداً خصائله            بل مات من عاش مذموماً من الكذبِ الموت المعنويّ حين يكون الإنسان كذاباً، ومُفترياً، ومُنافِقاً، وفاسداً، وسارقاً.

أمم العالم تـُبحِر في تاريخها بشراع العظماء، وتستلُّ منهم مصاديق، وتدور حولهم؛ حتى تـُحافِظ على حياتها من خلال إحياء ذكرهم.

لا يموت الإنسان لمُجرَّد أنَّ نفـَسَه انقطع، فالذين كتبوا، والذين خطـّوا مسيرتهم البطوليّة، والذين تفانوا، وقدَّموا دماءهم رخيصة من أجل إحياء شعوبهم بقوا، وسيبقون إلى الأبد؛ لذا نهى القرآن الكريم عن اعتبار الشهيد ميتاً: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ))              [آل عمران : 169]

العالم بفضل علمه يمتدُّ مع الزمن، والنظرة إلى المرحوم عصام العطيّة بما أعطى، وما بذل، وما نظـَّر، وما ساهَمَ في تربية الأجيال، وعلى كلِّ مُتلقٍّ أن يذكره ذكراً يتناسب مع عطائه، وأجمل الذكر للإنسان يكون بعد أن يموت: (لا يكون الصديق صديقاً حتى يذكر أخاه في ثلاث: في غيابه، وفي مِحنته، وبعد مماته))

إذا أردتم أن تعرفوا المُخلِصين بيننا فانظروا إليهم كم يذكرون الطيِّبين من الذين رحلوا.

قبل قليل ذكـَّرني القارئ بعمِّه الذي كان زميلي، واستشهد سنة 1974 حين كنا معاً في الإعداديّة درس في كليّة الاقتصاد، وأنا درستُ في كليّة الطبّ. وأتذكر أنه أوّل ما اعتقلوه، وأطلقوا سراحه جاءني إلى الموصل، وأخبرني بما حصل معه في التحقيق، قال: أنا سأقاوم هؤلاء إلى الموت.

قالها، وصدق، وقد جاءتني رسالة منه يوم إعدامه هو والشهداء الخمسة (الشيخ عارف البصريّ ومجموعته) إلى الموصل. كان بطلاً كما وَعَدَ، وصادقاً ما كذب أبداً، عرضوا عليه أن يلتمس العذر، ويطلب مرحمة، فرفض بضرس قاطع، وقال: هذا الذي كنتُ أتمناه، هذا هو الحلم الذي كان يُداعِبني.

هؤلاء هم الذين صنعوا واقعنا الجديد بإيجابيّاته. هذا بعلمه، وهذا بجهاده، وهذا بخطابه، وهذا بسلوكه، وهذا بتربيته.. هؤلاء هم الذين يُحيون المُجتمَع؛ لذا يسأل القرآن الكريم سؤالاً استنكاريّاً: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ))           [الزمر : 9]

هل يستوي العالم المِعطاء مع الجاهل بخاصّة إذا مَن يسخر علمه في البناء؛ لذا يجب أن نـُحيي ذكر هؤلاء الأطواد الشامخة التي بَنـَتْ، وصنعت رجالاً ونساءً.. هؤلاء انتهى دورهم كبَدَن لكن تبقى أخلاقهم وعلمهم وفكرهم مُفاعِلات تتدوَّر عبر التاريخ.

أنا مُتأكـِّد أنَّ مَن عاصروا المرحوم عصام العطية يتمنـَّون لو أنـَّهم حسموا بعض المُتعلـِّقات بينهم وبينه في حياته قبل أن يُفاجَأوا بموته، وكلُّ واحد منـّا هكذا.. انظر إلى الذي يشحن صدره على آخر، وينصب له العداء، وينصب له الشراك، ولا يعرف قيمته، وفجأة يقولون له: إنـَّه مات، فيقول: ليتني لم أختلف معه، وليتني كنت قد أنهيتُ معه هذه المُشكِلة.

الآن نحن نعيش سويّة في غُرَف العمل، ونلتقي في مُنتدَيات الفكر، ويرى بعضنا البعض الآخر لكن يبقى -للأسف الشديد- في صدر بعض الناس شيئ من بعضهم البعض. دعونا نستفيد من هذه المُناسَبات -وأنا لا أتكلم كلاماً وعظيّاً تجريديّاً إنما جئتُ لأقول لكم بكلِّ صراحة: يوماً ما كان شابّاً يافعاً ومِعطاءً، وقويَّ البدن والذاكرة أخذ منه الزمن إلى أن انتهى، ونحن على هذا الطريق- انظروا إلى الموت نظرة إيجابيّة، وتعلـَّموا ما تأخذون من الموت، وتذكـَّروا قول رسول الله -صلى الله عليه وآله- لأحد أصحابه: اذكروا هادم اللذات. يقول له: وما هادم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت. والله ما ذكره أحد منكم وكان في سعة إلا وتقلـَّصت، وما كان في ضيق إلا واتسع.

هل تعرفون ما معناه؟

معناه خطران يُداهِمان الإنسان في حياته: خطر الغرور، وخطر اليأس، والانكفاء، التقهقـُر والهزيمة عند الفشل في مشروع ما من مشاريع حياته، ولا يُميِّز بين الفشل في المشروع وبين الفشل في الحياة.

الفشل في أيِّ مشروع لا يعني الفشل في الحياة، المُهـِمُّ هو النجاح في الحياة، وليس النجاح في هذه المشروع، أو الصفقة التجاريّة، أو الدرجة العلميّة، أو ما شاكل ذلك.

بعض الناس يُخيِّم عليهم البؤس عندما يفشلون في أيِّ مشروع من مشاريع الحياة، فتجده مُنكفِئاً، مُتقهقِراً، حزيناً، ونظرته إلى الحياة سوداويّة، وعلى الضفة الأخرى تجد شخصاً حقــَّق نجاحات في هذه المجالات يمشي مُتبختِراً يتصوَّر أنَّ هذا النجاح الجزئيَّ في هذا المشروع هو النجاح في الحياة كلـِّها.

هذان الخطران: (اليأس عند الفشل، والغرور مع النجاح) تـُعالِجهما النظرة إلى الموت.

الموت يضعنا في جادّة الاعتدال، فلنـُفكـِّر كثيراً بالموت؛ حتى نكون مُتوازنين في ميادين الحياة، ونعمِّر الأرض، ونـُقدِّم خدمة في كلِّ حلقات المسلسل الاجتماعيِّ بدءاً بالبيت، ومروراً بالعمل، والمُجتمَع، وكلِّ شيء يغمر الحياة، ويبتسم، ويتمتع بالشيء الصحيح، عندئذٍ سنواجه الموت بكلِّ شجاعة.

أهيب بالمُتقلين من عِلم المرحوم العطيّة سواء في معهد الخدمة الخارجيّة أم المُتلقين عبر مُؤلفاته وكتبه بأنَّ من أبسط حقوقه عليهم أن يذكروه ذكراً حَسَناً، ويذكروا مآثره، وحسناته، ويترحَّموا عليه، وأوجِّه خطابي وندائي إلى عائلة المرحوم: أنا أشاطرهم الحزن، وأدعو الله -تبارك وتعالى- أن يربط على قـُلـُوبهم بالصبر السلوان، ويجزيهم الثواب، ويتغمَّد الفقيد برحمته الواسعة.

هؤلاء لا ينبغي أن تنتهي حياتهم بحياتنا لمُجرَّد أنهم رحلوا، إنما انتقلوا أبداناً، وبقيت علومهم، وأخلاقهم، ومواقفهم، وعطاءاتهم التي يجب أن تبقى تتفاعل في داخلنا، فنعكسها كأمانة إلى الأجيال اللاحقة؛ لذا رأيتُ بعض الناس كباراً حين يذكرون الآخرين: لا يكون الأخ أخاً أو الصديق صديقاً حتى يذكر أخاه في ثلاث: في محنته، وفي غيابه، وبعد وفاته.

يجب أن نعيش هؤلاء، ونـُدوِّر عطاءاتهم إلى الجيل اللاحق.

أشكر الإخوة الذين أعدَّوا هذا اللقاء، وأتمنـَّى أن يتواصلوا في مُناسَبات قادمة، ويذكروا المرحوم خير ذكر، وأدعوكم لقراءة سورة الفاتحة على روحه الطاهرة.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !