تروي إحدى حكايات التراث العربي أن أحد الخلفاء العباسيين عيّن معلماً لتأديب ولده الذي سيصبح خليفة بعده. وقد صرف المعلم سنتين وهو يُعلِّم الخليفة المرتقب اللغة والحساب والشعر والعَروض والحكمة. وفي نهاية المطاف طلب منه أن ينظم شيئاً من الشعر، فنظم بعد جهد البيت التالي: نحن بنو العباسِ نجلس على الكراسي ما كان ابن الخليفة هذا يحتاج إلى تقرير ما هو مقرر سلفاً، فالكرسي لديه هي العرش، أي السلطة. أما جموع العامة فلهم أديم الأرض، أي ان الكرسي للملك والبساط للناس. والعروش لها مكانها المخصوص وأشخاصها المحددون، أما الجيوش فهي للعامة والدهماء الذين يُسيلون دماءهم في خدمة كراسي العروش وقادة الجيوش. أليست الدولة بستان هشام يشتار أعسالها أنى شاء، ويمنحها لمن شاء ويمنعها عمن شاء، ويسوس الناس بسلطان لا حساب عليه، فإن شاء قبض وإن شاء بَسَط؟ المال والسلطة لم يتغير جوهر الحياة العربية كثيراً منذ زمن بني العباس. فالزمن لدينا دائري، ما إن يصل إلى نقطة حتى يعود ثانية، «كأننا والماءُ من حولنا قومٌ جُلوس حولهم ماءُ». حتى الحزب السياسي يبدو أنه مجرد حمار نركبه للوصول إلى الكرسي. فالسياسة، في أحد مظاهرها، وسيلة لجلب الدنيا إلى الرؤساء، والدنيا هنا هي الثروة، والثروة تحتاج إلى مَن يحميها، والحامي هو الكرسي أو السلطة، ومن دون السلطة تطير الثروة هباء. ويقدم لنا يوسف بيدس مثالاً برهانياً لذلك، فقد أسس هذا اللاجئ الفلسطيني إلى لبنان أعمالا مصرفية بسيطة في البداية، ثم تحولت، بالتراكم الدؤوب وبالنزاهة المهنية والألمعية الشخصية إلى مصرف كبير جداً، بل الأكبر بين المصارف اللبنانية كلها هو «بنك أنترا». ولأن يوسف بيدس غريب، ولا يملك كرسياً تحته، ولا طائفة خلفه، ولا قبيلة أمامه، ولم يقدم هداياه لذوي الكراسي وأصحاب العمائم والتمائم، فقد حاربوه وأفلسوه ودمّروا مصرفاً كان درة الاقتصاد اللبناني إبان ازدهاره في ستينيات القرن العشرين. القاعدة في لبنان، وفي ديار العرب أيضاً، أن كل ثري عليه ان يفتش عن كرسي من كراسي السلطة، لأن الكرسي من شأنها أن تجلب له الحماية، كما تجلب المزيد من الثروة للقاعد فيها أو فوقها أو حتى إلى جانبها. لا شيء يتغير في سنة 1943، أي في السنة التي أُعلن فيها استقلال لبنان، زار صحافي فرنسي بيروت، وتجول فيها، وعرّج على مقر مجلس النواب في ساحة المعرض (أو ساحة النجمة) حيث ينتصب برج تزينه ساعة مشهورة ذات أربعة وجوه. ولاحظ هذا الصحافي أن أحد وجوه الساعة معطل، وأن عدد معتمري الطرابيش في مجلس النواب ليس قليلاً. وفي سنة 1968، أي بعد ربع قرن، زار الصحافي نفسه بيروت، وذهب إلى مقر مجلس النواب، فلاحظ أن عدد معتمري الطرابيش قد تناقص قليلاً بالموت. لكن الوجه المعطل من الساعة ما زال معطلاً. فكتب يقول: إن ساعة المعرض لم تتغير، ومجلس النواب لم يتغير إلى قليلاً، ولبنان لم يتغير قط. فأسماء العائلات التي حكمت لبنان منذ تأسيسه في سنة 1920 لم تتبدل إلا لماماً، فالابن يحل محل الأب في عملية تكرارية مستمرة. والابن لا يرث كرسي الأب فحسب، بل آية الكرسي أيضاً. وآية الكرسي في لبنان هو الموقع السياسي. فمن كان والده زعيماً لحزب صار الوارث زعيماً للحزب بدوره. ومَن كان والده رئيساً للحكومة، أي جاثياً فوق الكرسي رقم 3، صار كرسي الحكومة إرثاً خالصاً للإبن. والأحزاب في لبنان هي بساتين العائلات، فحزب الكتائب لآل الجميّل، وحزب الكتلة الوطنية لآل إدة، وحزب الوطنيين الأحرار لآل شمعون، والحزب التقدمي الاشتراكي لآل جنبلاط، والتنظيم الشعبي الناصري لآل سعد، وحزب المستقبل لآل الحريري... وهكذا. وحتى الأسواق التجارية سُمِّيت بأسماء العائلات مثل: سوق أياس، سوق أبو النصر، سوق سرسق، سوق الجميل، سوق سيور، سوق الطويلة، سوق باب ادريس، سوق التيان... الخ. والمصارف أيضاً على هذا المنوال، فهناك بنك الجمّال وبنك سردار وبنك عودة وبنك جعجع وبنك فرعون وشيحا وبنك صباغ. «الاستبداد» المقنَّع توريث الكرسي في لبنان هو أحد الأسس التي ينهض عليها «الاستبداد» في لبنان، وهو «استبداد» حقيقي لكنه متسربل بأردية «ديموقراطية» زائفة وخادعة معاً. فجميع اللبنانيين يتكلم على الديموقراطية، غير أن كل زعيم في طائفته دكتاتور. ومجموع الدكتاتوريين أقاموا، في ما بينهم، نظاماً سياسياً يضمن بعض الحريات لكل دكتاتور وجماعته. ولبنان بهذا المعنى هو بلد الحريات وبلد الدكتاتوريين الأحرار. والكرسي لدى هذا الدكتاتور أو ذاك الزعيم لا تبرح مكانها قط، فهي مرصودة للعائلة أو للطائفة. أما الأقفية (جمع قفا) فهي التي تتنافس وتتدافع للجلوس عليها. وهؤلاء المتدافعون، ولأنهم رضعوا لبن السلطة، تراهم لا يُفطمون أبداً. النفاق السياسي لأسباب كثيرة، تاريخية وتكوينية، نشأ في لبنان نظام معياري عبارة عن سلوك فلاحي، لكن في سياق حضري، أو ثقافة مجتمع جبلي في إطار مجتمع مديني حديث. وجراء ذلك صارت السياسة مهنة أو حرفة، لا قيمة اجتماعية من قيم المجتمع المدني المعاصر الذي ينهض على العلم بالدرجة الأولى. والحرفي، في هذا الميدان، متفوق على العالم، فالحرفي يستطيع توريث أبنائه الحرفة وأسرارها، بينما العالم لا يمكنه توريث أبنائه علمه. ومن ظواهر هذا النظام المعياري النفاق السياسي، ولا سيما منافقة المتسلط، بحيث يصبح كل واحد محسوباً على زعيم. ومن هنا جاءت كلمة «محسوبكم» التي لا تكف عن التردد على الألسنة وبين الشفتين. ويروي اسكندر رياشي في كتابه المشهور «رؤساء عرفتهم» أن وفداً من جبل لبنان ذهب إلى دمشق لتهنئة الملك فيصل الأول بإعلانه ملكاً دستورياً على سورية في 8/3/1920، وكانت فرنسا ضد هذا الأمر. وكان بين رجال الوفد زجّال بارع. وعندما وصل الوفد إلى مقر فيصل بادره الزجال بالقول: بواريدنا بتردها/ وبصدورنا منصدها فيصل أمير بلادنا/ باريس تلزم حدها ولما دخل الجنرال غورو دمشق بعد معركة ميسلون في 20/7/1920، وكان الملك فيصل غادرها، ذهب وفد لبناني إلى دمشق لتهنئة غورو باحتلاله دمشق. وكان في عداد الوفد أشخاص من الوفد السابق بينهم الزجّال نفسه. وعند وصول الوفد إلى مقر غورو في دمشق قال الزجّال: يا مير وِش لك والحروب/ باريس منك قدها هيدي دول بدها دول/ راعي غنم ما يردها الكراسي الموروثة والكراسي المصنوعة الكراسي في لبنان، مثل الألقاب، ثابتة لا تتغير. يتغير من ينزل فيها فحسب. فالموت يغيّر أحوال الناس بالتأكيد. إن أول رئيس للبنان المستقل كان بشارة الخوري الذي جاء به الجنرال الانكليزي سبيرز، ابنه خليل صار نائباً في البرلمان، وابنه ميشال صار حاكماً لمصرف لبنان، وظلت عينه على رئاسة الجمهورية حتى وفاته. الرئيس إميل إدة الذي جلبه الفرنسيون إلى رئاسة الجمهورية تحت الانتداب أورث ابنه ريمون إدة «فضيلة» السعي نحو الرئاسة الأولى ولم ينجح. الرئيس الثاني للبنان، رجل الانكليز بامتياز ثم الأميركيين، كميل شمعون، خاب أمله في أن يرى واحداً من ابنيه داني (اغتيل) أو دوري في موقع الرئاسة، فتبنى بشير الجميل تحت إرهاب السلاح، ثم صار الجميل رئيساً للجمهورية تحت حراب الاسرائيليين. الرئيس فؤاد شهاب والرئيس شارل حلو لم ينجبا فأعفتهما الأيام من هذه المهمة الشاقة. الرئيس سليمان فرنجية ورث شقيقه حميد وأورث ابنه طوني فرنجية طموح الرئاسة، فلما اغتيل صارت الأمور إلى سليمان الحفيد. وهكذا تسري الكراسي في الأعقاب: كمال جنبلاط أورث وليد جنبلاط عباءته وصائب سلام ورثه تمام سلام من دون السيكار والقرنفلة. أما آل الصلح فقد اغتيل رياض الصلح ولم يكن لديه وارث ذكر، فانتقلت الكرسي إلى أقاربه، فتسلم سامي الصلح ورشيد الصلح وتقي الدين الصلح كرسي رئاسة الحكومة على التوالي. حتى الكراسي الطائفية لها حساب، فالمفتي عبد الأمير قبلان أورث ابنه كرسي الإفتاء الجعفري. مقابل ذلك هناك من صَنع كرسيه ولم يرثها من والده. فالرئيس سليم الحص صار رئيساً للحكومة بعلمه ونزاهته ومواقفه ومبادئه، وهو حالة نادرة وفريدة في لبنان حتى لُقّب بـ«ضمير لبنان». ورفيق الحريري صنع زعامته بالأموال العربية وبالرعاية العربية ولم يرثها عن والده البسيط المتحدر من قرية زراعية في حوران بسورية تدعى «خربة غزالة». لكنه، ما إن سلك مسلك أصحاب الكراسي حتى ورث ابنه الشيخ سعد، بعد اغتياله، المال والسلطة، أي الكرسي والجاه. وثمة من أنجدته الحرب في خرق قاعدة العائلات والكراسي الموروثة، فصنع كرسيه لا بالوراثة، بل بالميليشيا مثل نبيه بري الذي انفرد برئاسة مجلس النواب الذي كان حكراً على آل الأسعد في الجنوب، أو آل حمادة في البقاع، ومثل سمير جعجع وميشال عون. والأخيران لن يرثهما أي ذكر لتعذر ذلك. وقديماً قيل: «وَلَدُ النجيب لا يَنْجُبُ، فإن نَجُبَ فاق والده». آخر الطرابيش الازدواجية في المجتمع اللبناني (وفي المجتمعات العربية الأخرى أيضاً) عريقة وراسخة، ومن المحال اقتلاعها. فلبنان هو، في الأساس، دمج عجيب لقيم الجرد بقيم الساحل، أي قيم البداوة (أو الزراعة) بقيم المدينة. أي أنه كيان ذو نظامين اجتماعيين: نظام الفلاح المتغلّب شبه البدوي الذي يرفض الخضوع للقوانين، ونظام المديني الذي يعمل ويكدح ويدفع الضرائب. ولا زال هذا النظام قائماً بقوة في الحياة اليومية. فالبائع الريفي يريد أن يكاسر الزبون، أي أن يغلبه، ويسلبه بدلاً من ان يكسبه بالتنازل له عن السعر قليلاً على طريقة التاجر المديني. وفي مقابل نظام الجرد أقام تجار المدن نظام المحسوبية. ولبنان إنما هو، في أحد وجوهه، دمج لقيم المحسوبية بقيم الجرد في نسق اجتماعي واحد، ولكنه نسق هش في الوقت نفسه. فاللبناني، في إطار هذه القيم، متحضر نوعاً ما، لكنه يأبى دفع الضرائب، فهو يمزق مخالفة السير أمام عيني الشرطي الذي حرّر المخالفة. كان الطربوش آخر مثال للازدواجية الفردية والاجتماعية في لبنان: التحضر والتقليدية معاً وفي الشخص الواحد نفسه. ومع أن الطربوش اختفى تماماً من القيافة الفردية في لبنان، إلا أن «روحه» ما زالت ترف فوق هامات الناس. وكان الأمير مجيد أرسلان وبطرس الخوري والحاج حسين العويني ورشيد بيضون وأحمد الأسعد وتقي الدين الصلح آخر أصحاب الرؤوس التي اعتلاها الطربوش، بل آخر من اعتمر الطربوش بإصرار وثقة. غير أن أظرف هؤلاء جميعاً وأكثرهم ثقافة كان الرئيس تقي الدين الصلح الذي ظل الطربوش رفيق رأسه حتى وفاته. وكان يرتدي معه البرنس المغربي من اللون الكحلي في الشتاء ويردد: «عندما لا يتلاءم حجم الرأس مع حجم الطربوش فإن العاقل يوسِّع طربوشه ولا يكسر رأسه». وفي أحد المهرجانات الانتخابية في مدينة صيدا، بينما كان تقي الدين الصلح يلقي خطبة، تسلل عدد من أنصار خصمه معروف سعد وراحوا يهتفون: «منحبوش أصلع من تحت الطربوش». فابتسم تقي الدين الصلح ببرود، وتوقف عن خطبته، وعلّق ساخراً بالقول: «هل يمكن أن أكون أصلع من فوق الطربوش؟». [[[ كانت الطرابيش تغطي قلة الشعر في الرؤوس الفارغة والملأى معاً. وكانت الكراسي تجعل الخنفساء شاهيناً، وتحوّل اللص زعيماً، والحرامي سلطاناً. أما اليوم فما عاد في الإمكان دفن النفايات تحت قوائم الكراسي، أو تحت أصواف السجاجيد، أو تحت أقصاب الطرابيش. فرائحة الفساد المروِّع والانحطاط الخلقي الفظيع وكثرة السُرَّاق تزكم الأنوف. لكن لا أحد يريد أن يسد أنفه بإصبعيه، بل إن كثيرين ما فتئوا يوسعون أشداقهم تعبيراً عن السرور العميم بما جمعوا من مال وأطيان. وإن تأفف أحدهم فعلى طريقة مَن يدل على نفسه كالمريب الذي كاد أن يقول «خذوني»، ومَثَلُه في ذلك مثل السارق الجالس على الأوساخ والملوث بالأوساخ، والأوساخ فوقه وتحته وخلفه وقدامه وبين يديه، وتراه متذمراً بقرف وهو يردد: «من أين هذه الرائحة؟». أما السياسيون في معظم البلاد العربية السعيدة فليسوا إلا هؤلاء المتذمرون، أي سُرّاق الحرية والأمل والأموال. والآن، بعد هذه الثورات العربية، ما عاد في إمكان أي كرسي أو طربوش أن يقي هؤلاء مصيرهم، فمقرهم المزبلة.
صقر ابوفخر
التعليقات (0)