ما أجمل هذه الحكمة أو بالأحرى القاعدة الذهبية التي ينبغي أن تكون لنا نبراسا يضيء في سماء حواراتنا “حاول أن تفهم أولا ليسهل فهمك”.
والحوار في اللغة: من حاور يحاور محاورة، وقد ورد في تاج العروس أن الحوار يعني تراجع الكلام، كما ورد في لسان العرب لابن منظور تحت الجذر (حور) وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام.
كم هي فوائد الحوار التي يجنيها المحاورون وتجنيها الأمة بكافة أطيافها منه ففيه تتلاقح الأفكار والخبرات منتجة أفكارا جديدة تفتح آفاقا واسعة للرقي والتقدم وتحترك العقول وتتيقظ من سباتها الذي ران عليها نتيجة الانزواء والتقوقع ويقارب بين الرؤى المتباعدة والمتنافرة.
قد يقول البعض إن هذه الفوائد حقيقية ولكن في عالم الخيال لأن الواقع التاريخي يشي بأن الحوار والجدال لم ينتج منذ فجر التاريخ الا الوبال والدمار فحوار ابني آدم أدى إلى قتل أحدهما للآخر وحوار الرسل مع أقوامهم أدى الى مزيد من الإصرار على الكفر والحوار بين أطياف الأمة كان مدعاة لعلو بعضهم على بعض واتخاذ بعضهم بعضا سخريا.
ولكن هذا الكلام ليس صحيحا على إطلاقه فكم أدى حوار الأنبياء مع أقوامهم إلى إيمان فريق منهم وأدى إلى إقامة حجة الله على الباقين(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
وقتل احد ابني آدم لأخيه لم يكن نتيجة الحوار بل كان عزما عزمه أشقاهما لما لم يتقبل الله قربانه والحوار بين أطياف الأمة للأسف جر فعلا إلى ويلات لأن الكثير منهم لم يفقه مفهوم الحوار ولم يؤطره في إطاره القرآني.
كثيرة هي الحوارات التي نشاهدها في القنوات وفي المجالس الأدبية والمجالس الاجتماعية ويجمعها أنها تهدم أكثر مما تبني وتشحن النفوس أكثر مما تؤلف بينها .
وتتعدد بالطبع هذه الحوارات فبعضها يتعلق بالدين سواء منه ما يسمى حوارا بين الأديان أو بين المذاهب وبعضها بالشؤون السياسية وأخرى بالشؤون الاجتماعية وبعضها بين الزوجين .
وليس أخطر ممن يحاور وليس لديه نية للرجوع عن قول من يقلده من العلماء ويعتبر خلافه كفرا وهرطقة وتمييعا للدين لأنه بذلك يغلق عقله بمتاريس الحديد التي تؤدي الى صدأ فكري وعقم عقلي وتعصب شيطاني.
لا بد من أن نفرق بين احترام العلماء وبين نقد أرائهم فهذه لا تخرم في تلك وكما يقول ابن القيّم : ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه ).
و قال الإمام الشاطبي عقبَ إيراد كلام ابن عبد البر في خطَر زلّة العالم : ( لابد من النظر في أمور تبنى على هذا الأصل :
منها : أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، و لا الأخذ بها تقليداً له ، و ذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، و لذلك عُدَّت زلةً ، و إلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة ، و لا نُسِب إلى صاحبها الزلل فيها ، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبها إلى التقصير ، و لا أن يُشنَّعَ عليه بها ، و لا يُنتَقَصَ من أجلها ، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً ، فإن هذا كله خلاف ما تقضي رتبته في الدين …) .
و قد رويَ أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( لا يكن أحدكم إمعةً يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت و إن أساءوا أسأت ، و لكن وطِّنوا أنفسكم على أن تحسنوا إن أحسن الناس ، و إن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم ).
و رُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( ثلاث يهدمن الدين زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ).وكان بعض العلماء يقول: ما عبر الجسر إلينا أفضل من إسحاق، وإن كنا نختلف معه في أشياء؛ فإنه لم يزل الناس يخالف بعضهم بعضا.
ترى هل كان الحوار سيولد كل هذه المشاكل والتداعيات من خصومة وقطيعة وتعد لفظي وجسدي وطلاق لو كان الحوار والجدال بالتي هي أحسن ,لا أدري لماذا لا يكون لدينا مساحة من التسامح نستوعب بها الرأي الآخر. وهنا تحضرني قصة ياقوت الحموي حيث يذكر أنه زار الري فوجدها أحسن البلاد رونقا وأبهاها منظرا ثم زارها أخرى وهو منهزم من التتر (أي فار من وجه المغول) فوجدها كالحة المنظر بائسة المخبر وذلك أنه كان بها ثلاث طوائف شيعة وشافعية وأحناف فتظاهر الأحناف والشافعية على الشيعة فقضوا عليهم ثم شبت الفتنة بين الشافعية والأحناف فظهر الشافعية على الأحناف وخضدوا شوكتهم وأبادوهم.
إن مشكلتنا في الحوار أننا نستمع للطرف الآخر ونحن نريد أن نرد عليه، هذا إذا جعلناه يكمل حديثه أما إذا قاطعناه أثناء كلامه فتلك سيئة أخرى تضاف إلى مساوئ الحوار غير الهادف والذي يتحول إلى جدل مقيت لا يفرز إلا العداوات والإحن، إن سبب إلقاء التهم على بعضنا البعض هو عدم الحوار، وإذا حصل وكان الحوار فإن الأحكام المعلبة والجاهزة سرعان ما تلقى قبل أن يتم الآخر كلامه، متى نفقه معنى الحوار وأننا أمة الحوار.
﴿وجادلتهم بالتي هي أحسن ﴾ ﴿وقولوا للناس حسنا﴾ آيات عظيمة لو طبقناها في حياتنا لتقلصت فجوة الخلاف, لو استمعنا إلى أعماق كلام من يحاورنا ثم ناقشناه بهدوء وبينا وجهة نظرنا من غير أن نشعره بأن كلامنا مفروض عليه, لو كان لدينا الشجاعة للاعتراف بالخطأ والرجوع الى مهيع الحق, لو كان لدينا القدرة على التعبير عن رأينا بكل وضوح وبلاغة بمعناها البسيط(موافقة الكلام لمقتضى الحال) لو عملنا كل ذلك بإخلاص دون أن يكون ذلك استدراجا للمحاور ولا محاولة لإيقاعه في الاعتراف بالخطأ، لو فعلنا ذلك لكان العالم مكانا أفضل للعيش، ولتعايش الجميع في سلام وأمن وحرية.
التعليقات (0)