مواضيع اليوم

قصرُ الإمارة: ذاكرةُ الزَّوال.. على الحَجر

رانيا جمال

2012-09-05 08:30:11

0

من أي بابٍ أدخلُ مكاناً تعاقبتِ القرونُ على مَحو عَتباتِه ، التي كانتْ مُحرَّمةً على غيرِ الخَواصِّ وأصحابِ النفوذِ والشأنِ..؟ ، سأحاولُ ـ أنا الأعزلُ من كلِّ شيءٍ إلا من إنسانيتي والكلمةِ ـ أنْ أستعينَ بتخطيطٍ افتراضيٍّ لما كانَ عليهِ القصرُ يومَ كانَ ، لأُحدِّدَ بابَه الشَّماليَّ الكبيرَ قربَ البُرجِ المُلتصقِ بجامعِ الكُوفةِ ، وأختارَهُ مَدخلاً لعينيَّ المشدودتينِ لسَطوةِ الاندثار والمَحو ، ولمُتواليةِ الخُلودِ والزَّوال .. فهو مما يَحاذي قبرَ المُختارِ بن أبي عبيدٍ الثقفي .. أجتازُ العَتبَةَ ، فتَنثالُ صورُ الأرجلِ الدَّاخلةِ إليهِ عبر إماراتٍ قامتْ ، ثمَّ سقَطَتْ ، صورةُ عُبيدِ الله بن زيادٍ وهو يصرخُ بالنُعمان بن بشيرٍ واليَ يزيدَ على الكوفةِ: (( إفتح لا فتح الله لك )) ، ليقودَ حملةَ إجهاضٍ لحركةِ مُسلم بن عقيل ، ويُعدُّ العدَّةَ لقتالِ الحُسين (ع) .. صورةُ المُختارِ وهو يَقتصُّ من قَتلةِ الحُسين (ع)، ويسعى لإقامةِ دولةِ عليٍّ (ع) ، صورةُ ابن الزُّبير مُصعب وهو يَختالُ فَرحاً ، يَتخطَّى سبعةَ آلافِ رأسٍ احتفى بحزِّها علامةَ نصرهِ وسيطرَتِهِ .. صُورةُ الحَجَّاجِ بن يوسفٍ الثقفي وهو يُمَكِّنُ عبدَ الملكِ بنِ مروان مِن رأسِ مُصعب ، ويُطيحُ بإمارتِهِ الرَّخوةِ .. أتفَكَّرُ في ذلكَ وأطيلُ الوقوفَ عندَ هذه العَتبة ، في أعلى القَصرِ كانتْ آخرُ ركعتينِ أقامَهما مسلمُ بن عقيل ، آخرُ مُناجاةٍ لوَالهٍ مُشتاقٍ للقاءِ المَحبوب ، قبيلَ عروجِهِ الأخيرِ إلى السماءِ ، وقد شُبِّهَ لقاتِلِهِ أنَّهُ رماهُ من أعلى القَصرِ إلى الأرضِ .. قبالةَ هذهِ العَتبةِ .. موضعُ سقوطِ عبدِ اللهِ بن يَقطر ـ رسُول الإمام الحسين (ع) إلى مسلم بن عقيل ـ حينَ غَدَتْ الأرضُ عقدةَ خيطٍ تحتَ قدمَي ابنِ زياد ، واتسعَ الفضاءُ لقامةِ بن يَقطر .. كمْ مرةً اتسعَ الفضاءُ لقامةِ كلمَةِ حَقٍ شاهِقةٍ شَجَّتْ جبهةَ ابنِ زيادٍ ، قبلَ أنْ تُرمى مِن أعلى القصرِ إلى جَبهةِ العَتَبَة ؟.. تَخطَّتْ عتبةَ القصرِ المَشؤومِ أقدامٌ اسودَّتْ من حرارةِ رملِ كربلاء ، وتقَرَّحَتْ من شوكِها وأحجارِها ، بلْ من سياطٍ تلتهبُ عليها وتلتَفُّ كلَّما بَكتِ العينُ أو صَرخَ الفُؤادُ .. أقدامُ شابٍ عليلٍ ونساءٍ ثَكلى وأطفالٍ يقومُونَ ويقعونَ من شدَّةِ ما اعتصَرتْ قلوبَهم الغَضَّةَ قبضةُ العطشِ والخوفِ والألمِ والتعب .. مازال يتردَّدُ بين بقايا جُدران قاعةِ القصرِ صوتُ زينبَ وهو يُمرِّغُ أنفَ ابن مرجانة في مُستنقعِهِ العَطنِ ، كلَّ لحظةٍ .. ليَتخلَّقَ من هذا المشهدِ للأجيال: الدرسُ والسؤالُ ؛ درس زَّوالِ قلاعِ المفاسد واللذائذ والمُشتهيات ، وسؤال الانتباه واستيعابِ الدَّرس .. عندَ هذهِ البوابةِ كانَ خيارُ المُختارِ بن أبي عُبيدٍ الثقفي أنْ يخرجَ مُمتطياً فرسَه (الدُلْدُل) ويستقبلَ سهامَ جيشِ مُصعبٍ وسيوفَهم ورماحَهم بصدرٍ عارٍ إلا مِن حُبِّ عليٍّ وبنيهِ ، وكتبَ ملحمتَهُ التي اقتبسَ ملامحَها من طفِّ عاشوراء . أرادَ عدوُّه أنْ تطأ قبرَه الأقدامُ الداخلةُ والخارجةُ من القصر ، وأرادَتِ المشيئةُ الإلهيةُ أنْ يَمدَّ المُختارُ رجليهِ صَوب خَربةِ القَصر التي غمرتْها المياهُ وغطتْها المَزابلُ حتى يومِ يُبعثون . القَصرُ الذي كانَ مَلاذاً آمناً يُحتَمَى به في ساعاتِ الحُروب والانقلاباتِ والثوراتِ، كانتْ أرَضَةُ الزَّوالِ تَمخُرُ في أحشائهِ خِفيةً . ما إن انتبهَ عبدُ الملك بنُ عُميرٍ (المسؤول عن خدمات القصر) إلى وجودِها حتى فَقَدَ السيطرةَ على لسانِهِ ، وهو يجلسُ بين يَدي عبدِ الملك بن مروان وقد وضعَ رأسَ مُصعبِ ابن الزبير أمامَه ، فقال له: (( يا أميرَ المؤمنين! جلستُ أنا وعبيد الله ابن زياد في هذا المجلس ورأسُ الحُسينِ بين يديه ، ثم جلستُ أنا والمختار بن أبي عبيد فإذا برأس عبيدِ اللهِ بن زياد بين يديه ، ثم جلستُ أنا ومصعب هذا فإذا رأسُ المختار بين يديه ، ثم جلستُ مع أميرِ المؤمنين فإذا برأسِ مُصعب بين يديه ، وأنا أعيذُ أميرَ المؤمنين من شرِّ هذا المجلس.)) لم تكنْ حركةُ الرؤوسِ التي بَعَثتْ الهَلعَ في قلبِ عبدِ الملكِ بن مروان ، وأفسَدَتْ عليه نَشوةَ النصرِ مُجردَ حكايةٍ ، تَعجَّبَ ابنُ عُميرٍ من اتفاقِ أحداثِها ، وتنتهي عندَ ظَفَرِ الخليفةِ خاتمةً لها . فَمَا لا يُحصى من الوجوهِ ، كانتْ تَمرقُ بينَ عَينَي الخليفةِ الظافِرِ ، داخلةً إلى القصر أو خارجةً منهُ ، ولكنَّ عددَ الرؤوسِ أربعةٌ فقط ، وكلُّها ـ باستثناء الأولِ (رأس الحسين) ـ قد أقامتْ في هذا المَكان فترةً قصيرة ، سُرعان ما غادرتْهُ داخلةً في حركةِ الدولابِ الدائبةِ .. وليسَ في هذه الحَركةِ ما يَدُلُّ على انتهائها ، كانتْ حكايةُ سائسِ العَرشِ و مسؤولِ خدماتِه لَسْعةً ، أرتعدَ قلبُ الخَليفةِ مِنها ، و فَزَّ عن مَكانهِ قائلاً: (( لا أراكَ اللهُ الخامسَ)) ، مُصدِرَاً أمرَه بهدمِ القَصر .. الفأسُ الأولى التي بَقَرَتْ جِدارَ القصرِ لمْ تَعِ درسَ الزَّوالِ الكبيرِ ، كما لم يُفلحِ النسيانُ بغسلِ ذاكرةِ القصر مما احتفظَتْ به من حوادثَ ووقائعَ ، لمْ تستطعْ عَجَلةُ الزَّمنِ الهادرةُ أنْ تَسحَقَ ـ مُضَيِّقَةً ـ أطرافَ قاعاتِ القَصر التي طالما اتسعَتْ للمؤامراتِ والاجتماعاتِ ، واصطَبَغَ نطعُها بدمٍ ثائرٍ وآخرَ مُعترضٍ ناقمٍ ... ظلَّ المكانُ مُختَصاً بحفظِ رقاعٍ من التاريخِ ، دوَّنَها حضورُ قاطِنيهِ و غيابُهم ، سيقرؤها بعدَ ذلكَ بمئاتِ السنينِ رجالٌ بقلوبٍ فائرةٍ وهم يتطلعونَ إلى البابِ الكبيرِ لمسجدِ الكوفةِ .. يستشعرونَ وقعَ أقدامٍ مُقبلةٍ ، و يَهمِسُ بعضُهم للبعضِ الآخر بحلولِ يومِ المُستضعَفين .
مقالات للكاتب علي مجيد البديري
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !