المحاكمة
-1 –
ا الصمت المطبق ، الوجوم الذي يغلف الوجوه ، الحراس المسلحون ، قفص الاتهام في الركن الأيسر من القاعــة الواسعة في المحكمة ، الحضور الكثيف وحالة الصمت تضفي طابعا من المهابة والوقار ، ولحظة الترقب ، من الجانب الأيمن دخل رئيس القضاة ، تبعة مجموعة من الرجال بملابسهم المميزة ، همهمات سرت كطنين النحل بين جمهور النظارة ، انتهت حالما صرخ الحاجب بصوت كالرعد محكمة، جلس القاضي تبعه الآخرون كأنهم معلقون به،همدت الحركة ، غرقت القاعة بالصمت .
اثنان من الشرطة ربط كل منهما إحدى يديه بيد ( أسامة البوز ) ،بينما كانت مجموعة من الحراس المسلـحين يحيطون به من كل جانب ، أسامة برأسه الحليق ولحيته النابتة ، يظهر من بين الحراس وهو متحفز منطلق ، وثمة ابتسامة تعلو محياه ،فتح أحدهم القفص الحديدي بعد أن أدار مفتاحا في القفل الكبير ، دخل الحارس يسحب خلفه أسامة بينما كان أسامة يسحب خلفه الشرطي، جلسوا ثلاثتهم ، أعاد الحارس القفل إلى ما كان عليه فدوت تكة قوية في فضاء القاعة الصامتة .
العيون تتركز على أسامة ، هي سهام تخرق القلب ، تصيب الكبد ، أسامة يغرق في قفص الاتهام ، القاعة تضيق حتى تكون قفص الاتهام ، القضاة يتهامزون ، رئيس القضاة يرفع رأسه الكبير المكلل بالشيب ، ينظر عبر عويناته الزجاجية الشفافة إلى قفص الاتهام ، أسامة في بئر معتم ، رئيس القضاة يحول نظراته إلى ممثل الإدعاء ، :
السيد ممثل الإدعاء العام تفضل .
عيون الجمهور تتبعه بحركة آلية إلى ممثل الإدعاء العام ، حيث وقف واتكاء إلى منبر الخطابة الخشبي اللامع في الركن الأيمن الأدنى ،وقد انطبعت على الجدار خلفه ظلال أسلاك كهربائية لمصباح معطل ، تجشأ بلع لعابه ، صمت ، ثم تجشأ ، أخرج منديله بصق ،مسح شاربيه مما علق بهما من بصاق ، نظر إلى القضاة ، أعاد النظر إلى الأوراق أمامه ، مسح شاربيه ، وقف رافعا يديه عن المنبر ، عاد وارتكز عليه ، رئيس القضاة والقضاة ينظرون إليه ، زاد حرجه ، أنعقد لسانه ، حاول أن ينطق ، بحث عن الكلمات ، تجول في أرجاء اللغة ، ضاع .
رئيس القضاة يهمس في أذن القاضي الذي على يمينه ، يتحول للذي على شماله ، مال القاضي إلى رئيس القضاة ، عاد إلى وضعها الأول ، حول الجميع أنظارهم ناحية ممثل الإدعاء العام ، فجاءة تهاوى جدار الصمت الذي بنته المحكمة حول نفسها ، رئيس القضاة وبلهجة ساخرة :
ممثل الإدعاء هات ما عندك . ممثل الإدعاء رفع يديه عن المنبر فرك عينيه ، سرت همهمات بين الجمهور ، رئيس القضاة ضرب الطاولة بالمطرقة الخشبية التي أمامه ،محاولا بناء جدار الصمت من جديد ، ممثل الإدعاء العام لا زال يفرك عينيه ، تململ في مكانه نظر اسفل قدميه ، ثمة ماء يتسرب مبللا بنطاله ، منسابا إلى الأرض ،الماء سيل صغير لا ينقطع ، ينساب بهدوء ينزل من المنصة إلى الأرض ، أمام الجمهور محدثا خريرا بسيطا ،الخرير أخذ يتعالى تدريجيا، ممثل الإدعاء العام جمع أوراقه ، سقطت منه ، سحبها سيل الماء الذي اصبح قويا ، ممثل الإدعاء اختفى خلف المنبر الخشبي ، الماء ذو الرائحة النتنة يتدفق عبر المنصة إلى الصالة بقوة غريبة ، النظارة يهربون ، أحدهم تقدم سـحب
الشر طي الذي يربط يده بيد أسامة ، فسحب الشرطي وأسامة أيضا ، القضاة تزكم أنوفهم رائحة الماء ، قال أحدهم :
-1-
هذا بول .بينما كانوا يفرون من البوابة الخلفية للقاعة ، أحد القضاة سقط أرضا داسته الأقدام ، حاول زميله أن
ينقذه كان الماء يتدفق نحوهم كموج هادر ، هرب وخلف زميله للغرق .
-2-
الساحة المبلطة أمام المحكمة تعج بالناس الذين داهمهم موج النظارة الهاربين من السيل المتدفق عبر المنصـة في قاعة
المحكمة ، يتدافعون ، يتزاحمون ، تعطلت حركة المرور في الشارع العام أمام المحكمة ، تجمع المارة بدافع الفضول ،
أحدهم سأل مستفسرا ، أشار أحد النضارة ممن شاهد الحدث داخل القاعة إلى سيــــل الماء لمتدفق خلفه ،
الرجل تعجب من هذا القول ، تلفت حوله لم يكن هناك ماء .
تابع الرجل الهرب ، لحق به العشرات ممن كانوا في الشارع دونما أن يعرفوا السبب ، حاول عدد من النظارة تحرير
أسامة من حراسه ، تجمع حول أسامة عدد من رجال الشرطة ، صفر أحدهم بصفارته تفرق النظارة هاربين ، بينما
كان أسامة وحراسه في سيارة جيب عسـكرية تنطلق مسرعة نحو السجن المركزي وهي تطلق صفارة الإنذار في
الشوارع الخالية المقفرة .
انزوى أسامة بالزاوية وحيدا وقد وضع رأسه بين يديه، صور المحققين والقضاة وممثل الإدعاء ورجال الشــرطة
تقتحم فضائه الضيق ، الزنزانة تضيق بهم ، رائحة البول تسود كل شيء، تسيطر عل كل شيء ، تزكم أنفه ، يد
المحقق تتكور ، تمتد إليه ، يسقط أرضا ، خيط من الدماء يسيل من أنفه ، يلتف على نفسه ، يتكور على بعضه ،
يحتمي بظهره ، الحذاء العسكري الثقيل يرتفع وينخفض .
يسقط على رأسه ، وعاء البول فارغ ، يقف قبالة الجدار ، يتكأ بيده على الحائط المليء بالكتابات ، يضرب رأسه
بالجدار ، يبصق في وجه الحائط الصامت ، السؤال مروحة تخفق في سماء أسامة ، ما حدث في قاعة المحكمة حقيقة
أم خيال .
نظر صوب الطاقة العالية ، يتسرب منها الضوء المسائي الخافت على خجل ، عاد إلى الزاوية ، المارة ، رجــال
ونساء ، الشرطة ، هيئة المحكمة ، تجمعوا حوله ، الخباز يقف على سدة عالية ، العيون تتجه صوبه بإجلال كبير ،
صور المارة وهم يتجاهلون ما يحدث أمامهم شاكوش يدق رأس أسامة ، أسامة كرة بين الأقدام.
الخباز يشير إلى أسامة وهو يمسك بكسرة من الرغيف ، الشرطي يهز رأسه موافقة ، نهض حاول الهرب ، ضرب
أحــدهم ، تجمعوا حوله أحاطوا به ، لحقت به سيارات الأمن ، أخذوه إلى المخفر ، كرسي كبير عليه تاج مثل
الرغيف ، بساط من الخبز يمتد تحت قدمي الخباز الذي أتخذ مقعده على الكرسي الكبير ، حوله حاشية من الخبازين
على رأسه تاجا من أرغفة الخبز .
نظر صوب الشرطة كانت قلنسواتهم عبارة عن أرغفة من الخبز المحمص ، تلمظ حاول أن يبلع لعابه ، أمره أحدهم
كان يقف بالقرب من الخباز على الكرسي الكبير ، أمره أن يبصق ، لأن اللعاب من تبعات الخبز ، والخبز ليس من
حق أسامة ، أذن اللعاب ليس من حقه أيضا هتف الشرطي فرحا بإحقاق الحق وإقامة العدل :
إن هذا عين الحق والمنطق ، تفكير منطقي يؤدي لنتيجة منطقية ، الخباز يمسد عل رأس الشرطي الذي قبع عند
قدمي الخباز كجرو مدلل .
-2-
الخباز يضع شاهده فب منخاره ، يمسحه ببطانة سترته وهو يضحك ، أشار بيده الأخرى الى الشرطي الواقف أمامه
وهو ينقل نظراته في وجوه من حوله :
من يسرق رغيفا يسرق وطنا ويبيعه .
التصفيق يعم الزنزانة ، أسامة ينهض، يدير ظهره، تحته وعاء البول ، يتعالى الخرير .
-3-
طالب رئيس القضاة ، بإصلاح أسلاك الكهرباء والمصباح المعطل ، ونقل قفص الاتهام من الجانب الأيسر إلى الجانب
الأيمن ،ونقل منبر الخطابة الخاص بممثل الإدعاء العام أيضا ، حيث تنبأت له زوجته ذات صباح بعد أن قلبت له
فنجان القهوة أن هذا الأجراء قد يكون نجاحه لهذا اليوم ، يحني رأسه يلبس عويناته الطبية الشفافة ، يضع عطرا ،
ينظر إلى زوجته قبل أن يغادر ، تزوي جانب فمها المصبوغ بالأحمر ، ابتسم ابتسامة صفراء ، تلاشت حالما أدار
ظهره خارجا من البوابة .
قبل موعد المحاكمة دخل إلى القاعة ، تفقدها ابتسم ، ربت على كتف الحارس , الحارس يشعر براحة ما ، يشعل
لفافة من التبغ ، يسحب النفس تلو النفس ثم يزفره كدخان قطار هرم ، بعد قليل فتح الحارس الباب ، شرع النظارة
يتوافدون على القاعة ، لم يحضر أيا ممن حضر الجلسة الماضية ، وقفوا في الخارج ينتظرون ماذا سيــحدث اليوم
أحد الحضور أصر على أن القاعة في الجلسة الماضية غرقت بالبول , رمقه رفيقه بنظرة تعجب وهو يزوي جانب
فمه بينما شاربيه يتدليان عليها، كتم أنفاسه ، حبس لسانه ، النظارة في القاعة ، همهمات تسري بينهم ، همهمات
غير مفهومه .
أسامه يدخل القاعة مكبل اليدين من الخلف ، يقوده اثنان من الشرطة ،و خلفه اثنان أيضا ، دخلوا قفص الاتهام ،
أجلسوا أسامه ، أحاطوا به , لاحظ أسامة أن هناك ثمة تغير في القاعة ، أسامة يجلس ، رأسه ثقيل مشدود إلى
الأرض ، أثار الجروح اختفت منذ يوم أو أكثر ، يشعر برغبة في التقيؤ ، مغص يشعره برغبة في التغوط ، يعصر
بطنه ، سحابة ثقيلة من كوابيس ليلية تحط على قلبه المخنوق بالحراس ، يسند رأسه ، يتأفف الحراس من كثرة
الحركة ، يصمت ، يغالب الألم ، يحول نظراته تلقاء النظارة في القاعة ، الأشياء تتراقص أمامه كخيالات ، سيدة
في أحد المقاعد الأمامية ، ساقاها لامعتان ، املسان ، تدخن ، الحضور سيدة تتلاشى مع الخيالات المتراقصة ،
أسامة ينهض من قاع البئر العميقة على صوت الحاجب يصرخ :
محكمة . وقف الحضور ، جلس رئيس القضاة أشار للآخرين بالجلوس ، ممثل الإدعاء حلق شاربيه ، مكبا على
الأوراق التي أمامه ، حانيا ظهره على المنبر الخشبي ، نظراته زائغة ، رئيس القضاة يميل إلى اليمين دائما ، يستشير
القضاة ، يجري بعض المشاورات ، أعتدل نظر إلى ممثل الإدعاء ، لاحظ أنه حلق شاربيه فكتم ابتسامه ، ممثل
الإدعاء لا يرفع رأسه ، يدقق في الأوراق ، يقلب الصفحات ، رئيس القضاة فجأة ضرب الطاولة بالمطرقة الخشبية
ثم وبسرعة تلفت ناحية المنبر الخشبي : السيد ممثل الإدعاء العام تفضل .
أسامة ينظر إلى ممثل الإدعاء العام ، هز رأسه كأنه لا يصدق ما يشاهد ، كان الخباز هو ذاته ممثل الإدعاء العام
لكنه فقط خلع تاجه المكون من أرغفة الخبز الصغيرة ،يقف خلف المنبر الخشبي ، تململ في مكانه ، حرك قدميه إلى
الأمام والخلف ، نظر إلى القاعة ، العيون كشافات مركزة من الضوء ، أختلس نظرة إلى بنطاله ، بسرعة وبحركة
خاطفة تحسس ما بين فخذيه ، أطمأن إلى أنه قد أفرغ مثانته قبل أن يدخل القاعة ، أعاد يده إلى المنبر ، سـعل ،
-3-
فتح فمه وقبل أن ينطق أنفجر المصباح الكهربائي الذي خلفه ، تدفقت النيران من الأسلاك التي كانـت تتراقص
موزعة اللهب في كل الاتجاهات ، جمهور النظارة تدافعوا عند الباب الذي داهمته النيران ، القضــاة هربوا من
الأبواب الخلفية ، الحراس يسحبون أسامة إلى الممر الخارجي ، رائحة الشواء تنبعث من الطاقات والأبواب ، بينما
كانت رائحة الخبز المحروق تطغى على كل شيء .
-4-
رئيس القضاة عاد إلى البيت ، ثمة آثار حروق صغيرة على بذلته الأنيقة ، وبعض الندب السود على جبينه ووجهه ،
استقبلته زوجتهعند الباب ، بيدها قائمة الطلبات المسائية ، تفرس في وجهها كأنه يراها لأول مرة ، أشعل لفافة
تبغه ، ألقى بنفسه على أول مقعد ،زوجته تلقي عباراتها اليومية المملة .
صوت التلفاز يأتي من الصالة ، غرفة الجلوس دون مصباح ، فقط يأتي إليها النور من النافذة ، المرأة لا تزال تهذي
زوجها على عجل يدور ، يصاب بالدوار ، الشرر يتطاير من كتل اللهب أمامه ، زوجته تدعوه لأخذ حمامــه
الدافئ اليومي بعد عناء يوم العمل ، يسقط في دائرتها ، يتوقف العجل الدوار ، ينهض ويتبعها.
تخبره أنها قرأت أوراق اللعب هذا المساء ، يصغي يقترب منها يرهف السمع :
يصعب اتخاذ القرار في قاعة المحكمة ، ذلك أن أسامة متعاون مع الجن ، يصغي .. يردد الجن … ربما ، تنظر إليه ،
أكيد هكذا يقول الورق والورق لايكذب ، ينظر إليها يغمزها بطرف عينه ، يتمتم : بدليل المصباح الذي أصلحناه
صباح اليوم ، لم تفهم ما كان يعنيه ، لم تهتم أنها لم تفهم ، تابعت الحكم يصدر من هنا ، نظر إليها ، لم يلاحظ
أين أشارت ، قال من أين وهو يبتسم ، ابتسمت ، همست بغنج ليس من المكان الذي تفكر فيه ، قاطعها أنا لم
أفكر ، خلعت آخر قطعة من ملابسها الداخلية ، ألم تسمع بالحكم غيابيا بمثابة الوجاهي ، رفع رأسه لاحظ نهديها
متهدلين ، يحاول أن يوضح ، تسحبه تحت المرذاذ .
رشاش الماء شلال متدفق ، يغمضان عينيهما والصابون ينداح على جسديهما كالزبد ، يفتح عينيه تلتقي بعينيها ،
تميل إليه ترتخي على جسده المتماسك ، تعبث بشحمة أذنه ، تهمس ، أمرني الخباز باتخاذ القرار ، يتعبأ برائحتها ،
ولزوجة الجسد الأملس ، في المساء ، اتصل هاتفيا بهيئة القضاة وأعفاهم من جلسة يوم غد ونام .
التعليقات (0)