في الزنزانة .. من سيرة ذئب المنافي
شعور غامضٌ ينتابني لحظة هذا الحضور لحظة أميل ألى تأمل خفي في هذه الزنزانة الضيقة في معتقل المخابرات الوطني!!
كيف أصدّق بأنني إنتهيت هنا حقا فقد أمضيت في معاشرة هذه التجربة ستة أشهر كاملة،عبرت درجات المعاناة في أعلى تماثلاتها الممكنة، كانت ضراوة الأنتظار لوجي طفلتي لميس واختها عبور وجهان للشمس، وأنا على حد شفرة رهيبة من تهتك الجحيم وهو يشحذني مثل النصل ..
لم يذهب بي كل هذا القلق الى اليأس .. فقد كنت أعلل نفسي أحيان كثيرة بلذة التجربة لقبر مؤجل أتنفس بداخله .. ما كان امتحانا.. وما كان ينبغي علي ّ أنا المثقف أن أكتشف مقاصل أسئلته في هذا الحريق المباغت .. من الذي غرر بي لأجد نفسي متورطا في مشروع العقل الذي لا فكاك لي منه إلا به .. من كان صاحب الفكرة ؟ من الذي حرضني الى هذا الحد ؟ ماية وست وثمانون ليلة كانت أشكالا وصورا .. ومخيلة لا تقوى على التقاطها، كانت أشكالا حادة وصورا مدبب، لكنها صارت قيمة.. هي شيء ما من الكلام والصمت.. عندما يصمت الكلام ويتماثل الصمت كالصدى ، هناك أطلق مخيلتي من إسارها ومن حدود هذه الزنزانة ووقع أقدام الزائري الليل في الممرات الضيقة ..
ما الذي يجمع بيني وبين هذه الزنزانة الرطبة الباردة المسكونة بالظلام البؤس ؟ أجبت كثيرا عن هذا السؤال فيما بعد.. لكنني لم أذهب الى اليقين بأن ثمة مكان هو جدير بأن نحياه تحت الشمس .. وليس ثمة مجهول يغري بالذهاب إليه .. لأن كل شيء ليس على ما يرام ويبتغى..
التعبير عن الذات كان لحظة توق وإكتشاف، ثم يتكسر السؤال مثل الطفولة ومثل الحب ساعة يتداعى صوتي الغامض الخفي الذي يصدر من أعماقي أنك مخيلتك، فلا تجلس في الظلال الكابية لعتمة العقل وبؤس المنطق وادعاء كمالك .. أنت جمرة صغيرة كانت هدية النجوم تتوهج وتشتعل .
ترى ... هل كانت هذه التجربة كافية وهل كانت كفيلة بلحظة انزواء كاملة في أسر المخيلة قبل أن تنهار تماما تحت ضربات سيفوقلس وأسخوليوس وسقراط ومن ثم كانط وهيغل ونيتشة وبرجسون واسبينوزا وهلدرين وفخته وأنومونو السجين ؟
أنا مولع بالوقوف في مهب التجارب عاري من الشكل والمواصفات والمقاييس .. أضع يدي في الطين أحوله الى كتابة وأشكال لا تعرف الثبات واذرع المسافة بين النص واللون والموسيقى أجعلها عرضة للتضاءل عندما افتحها على تخوم الأفق، ففي هذا الأقنوم ثمة علاقة هي أشبه بعلاقة الجرح بالدم وعلاقة الوردة بعطرها ..
أمام هذه الشهور الست .. كان علي أن أميز بين حلم تأخر موعده .. وبين إرادة فعل تذهب لتغير هذا الواقع ومستقبل هو على امتداد اليد لمن يذهب إليه … حلم يقارب المستحيل .. في ذات اللحظة التي يستدرجنا بها المستحيل الذي نزعمه ويهاجمنا به السؤال يصير ونصير كالبهو المفتوح على احتمالات غامضة تجعل منا أنخابا لمغامرة العقل ..
صرت كمن يصادف الزمن كجزء من النجاة كما يقول النفري …
ولم ذلك كله … ؟
أنا شخص أكره السلطة وأكره الخضوع لكل أشكالها .. أنا مشهد حر في الهواء الطلق .. حر حتى تحت وطأءة هذه الوجوه التي قضت علي الحياة في هذا القبر الرطب .. ولا زلت أتقدم نحو هذه الوجوه التي أراها ولا أحفل بها .. أتأمل أكثر في أحداقها المتأرجحة مثل نصول المقاصل.. من اين جاءت هذه الوجوه وهل يكفي أن نقول أن الحياة حمالة أوجه ؟ ليس لدي جوابا .. لكن لدي سؤال آخر هو كيف ينظر غيري الى هذه الوجوه ؟ وجوه من هذه .. أم وجوه ماذا ؟
لم أكن أتفادى النظر في وجه المقدم طارق بيك … وهو ضابط شركسي كان مكلفا بالتحقيق معي .. كان بيني وبينه وطن ودم .. هو الثأر المتأصل في قلبه على كل أردني ولا أدري لماذا… خسارة أن استعيد هذا العلج في هذه الحروف التي تنز أسا على وطن استباحونا فيه حتي صرنا علته … كمجمرة التجربة ..
يقول لي أنت عار على الوطن .. اقول له ما أن يصير الشيء خارج يدك حتى تصير عبدا اسيرا له .. هذا المعنى الذي أبحث عنه في وطن ضل ولا سبيل الى هدايته .. اقول له وطن يذهب بالاتجاه المعاكس لذهاب الهواء الداخل الى رئتي .. لا اريده .. وطن يصير احتمال سؤال .. لا أريده .. ولا أرغب فيه .. وطن حده الأقصى أن تكون أنت معنى من معانيه لا أريده .. وطن أنت من أخطاءه الصائبة لا أريده ... وطن صار خرقة صالح لكل شيء صالح للبرد وصالح للنار صالح للبؤس والحرمان .. لا أريده .. وطن من شتى الأصول والمنابت لا أريده ...
وطن صار مثل وجوه دومييه و رامبرانت المشوهه لا أريده ..
وطن نافذته مفتوحة لكل غريب .. لآ اريده ..
نحن شعب صرنا في الحيلة صرنا على الحدود، أحال الغرباء تخومنا الى ملاعب .. وأوغلوا في جرحنا حد العظم .. نحن شعب كما يقول هيدغر صار مساحة للتأويل.. كيفما اتفق، صرنا أشياء تحولت الى كلمات .. وصرنا نصوصا تهاجر من وكناتها نحو الهزيمة .. أليس معيبا أن نتحول الى دلالة في أفواه هؤلاء الغجر ...
وداعا أيها الوطن .. وداعا فلم أعد أحتمل ...
وداعا ايها الوطن الذي صار الليل كله وداعا أيها الوطن الذي صرت فقدنا وهذياننا..
وداعا ايها الوطن الذي تعددت وجوهه وأشكاله وأسماؤه ومعانيه ..
أيها الوطن الذي صار سؤلا لا يهدأ في شفاهنا ..
وهنأ به يا سعد خير.. أنت وسيدك وكل الغرباء الأوباش ...
التعليقات (0)