في أخلاق الواجب.
شكلت الأخلاق مبحثا فلسفيا مهما منذ بداية فعل التفلسف في بلاد الإغريق. وهكذا تصدت الفلسفة اليونانية لهذا الموضوع بشكل عميق في إطار لحظات المواجهة مع الفكر السوفسطائي، وفي ظل نقاش مجتمعي عام قاده فلاسفة من حجم سقراط و أرسطو و أفلاطون. غير أن المسألة الأخلاقية عرفت حضورا لافتا بعد ذلك بعدة قرون. و لا يمكن القفز على اسم " إيمانويل كانط " بهذا الصدد.
كانط الذي يمثل علامة فارقة في الفكر الفلسفي الحديث أسس نموذجا فلسفيا رائدا يجعل الإنسان في صلب الإهتمام. و هو ينظر إلى الكائن البشري كغاية و ليس كوسيلة. و في إطار الإرتباط بالموضوع الأخلاقي أود الإنطلاق من الخطوط العريضة للفلسفة الكانطية في هذا الشأن من أجل استكشاف ملامح هذه النفحة الأخلاقية في واقعنا المجتمعي باعتبار الأخلاق تتجاوز دلالتها النظرية إلى الحقل العملي.
يميز كانط بين شكلين من الواجبات الأخلاقية: الأولى شرطية، والثانية قطعية. فالواجبات الشرطية تتشكل من الأفعال التي نتوخى منها نتيجة نفعية محددة. بمعنى أننا نقوم بأداء الواجب، ودافعنا إلى ذلك هو المنفعة التي تترتب عن القيام بالفعل. ونحن بذلك نؤدي واجباتنا لأنها مشروطة بالفائدة التي تعود علينا. أما الواجبات القطعية فهي تلك التي تصدر عن الإنسان دون أي مقابل. إنها واجبات تفرض نفسها على الضمير الإنساني دون أن ينتظر المرء من أي أحد " جزاء و لا شكورا".
إذا قمنا بتحليل سلوك الأفراد في مجتمعاتنا على مستوى الممارسة اليومية في الشارع و الإدارات العمومية وفي كل ما له علاقة بالشأن الإجتماعي، يمكن أن نميز على ضوء التقسيم الكانطي المذكور بين مفهومين يتأطر من خلالهما لفظ : الواجب. أتحدث هنا عن " الأخلاق وفق الواجب " في مقابل "الأخلاق عن واجب." و بين الأمرين فرق واضح. إن المسألة لا تتعلق بأداء الواجب إذن، بل بالكيفية التي يؤدى بها. لذلك و حتى لا نتهم بالتجني على واقعنا ينبغي أن نتفق على أن الواجب كسلوك يومي ليس غائبا في ثقافتنا. لكن ما ينبغي الوقوف عنده هو مستوى هذا الحضور بالضبط. أعني أن مانقوم به من أفعال لا تندرج ضمن الواجبات القطعية، بل تصنف في خانة الواجبات الشرطية. وحتى عندما يبدو الإنسان في مظهر من يلتزم بالقانون و يؤدي واجبه الأخلاقي بإخلاص، إنما يفعل ذلك خوفا من الرقابة الإحتماعية التي يفرضها القانون. لذلك فالتبرير الواضح لأداء الواجب يتجلى في الخوف من العقوبة و الجزاء.
أدرك أن لسان حال القراء الكرام يقول: و لماذا وجد القانون؟. أليس من أجل تطبيقه و تنظيم شؤون الناس؟. طبعا لن أكون مختلفا بخصوص الإجابة. لكن القول بأداء الواجب احتراما للقانون أمر، و الحديث عن واجب قطعي أمر آخر.هنا أعود إلى مفهوم: " الأخلاق وفق الواجب "، فعندما يكون المرء ملزما بتطبيق الواجب لأن القانون يتطلب ذلك، تغيب إرادته الحرة كإنسان في اختيار أفعاله. و بالتالي يصبح رهين إكراهات خارجية توجه سلوكاته. و هو ما يجعله شخصا فاقدا لحرية اتخاذ القرار. خطورة الأمر ستتضح في الوقت الذي يغيب فيه الرقيب القانوني.
في منتصف النهار حيث زحمة السير و دوريات الشرطة التي تراقب الحركة في الشارع العام، يتوقف سائق السيارة أمام إشارة الوقوف بكل احترام. و بعد منتصف الليل حيث الشوارع شبه خالية من المارة و لا وجود لدوريات الشرطة، يمر صاحبنا بسيارته كالعادة و يتجاوز نفس الإشارة التي كان قد توقف عندها في الظهيرة، لكنه هذه المرة لم يكلف نفسه حتى عناء تخفيف سرعة السيارة. طبعا السبب واضح: لقد غاب الرادع القانوني. هذا المثال البسيط من واقعنا اليومي يبرز حقيقة أننا لا نتصرف عن واجب بل نتصرف وفق الواجب. وهذا ما يجعل سلوكاتنا لا تخضع لوازع أخلاقي صادر عن دواخلنا. و هذا يعني أيضا أننا مجتمعات متشبعة بثقافة الإلزام وليس الإلتزام، لأن القيام بأفعال أخلاقية عن واجب و التزام داخليين، يجعلنا ننتقل بالممارسة الأخلاقية إلى مستواها الإنساني المجرد عن حسابات الأنانية و المصلحة الشخصية.
ولمن يدقق النظر جيدا في السلوك الإجتماعي السائد يصل إلى الإقتناع بأن حديثنا عن مكارم الأخلاق ليس له ما يكرسه على أرض الواقع. وهو لا يعدو أن يكون اختفاء وراء العناوين، لأن الأخلاق ممارسة و سلوك و ليس شعارات تتناثر في الهواء. محمد مغوتي. 22/07/2010.
التعليقات (0)