جاء عرض فيلم "البلديون" الجزائري- وهو الإسم العربي للفيلم (أو أيام المجد Days of Glory) مفاجأة
حقيقية لعشاق السينما في مهرجان كان السينمائي.
المفاجأة أننا أمام فيلم كبير وعميق وراسخ، سواء في موضوعه أو في طريقة تناول الموضوع.
مخرج الفيلم- الجزائري رشاد بوشارب- يعمل منذ سنوات في نطاق السينما الفرنسية، وفيلمه الجديد
من الإنتاج المشترك بين فرنسا والجزائر والمغرب، أي أن التمويل الفرنسي لعب دورا أساسيا في توفير
الإمكانيات التقنية الكبيرة التي جعلت الفيلم يخرج بصورة ممتازة.
وقد جاء الفيلم مخلصا تماما لرؤية مخرجه الذي تعاون مع كاتب السناريو أوليفير موريل.
أي أنه تحلى بجرأة في تناول موضوعه الذي يعيد فتح صفحة من صفحات التاريخ الفرنسي الحديث بمبضع
الجراح، ولكن بأناقة صانع المجوهرات.
وجاء الفيلم أيضا في معظمه، ناطقا باللغة العربية التي يتحدثها أبطال الفيلم جميعا باستثناء الحوارات
التي تدور مع الضباط الفرنسيين.
ويتضمن هذا، ليس فقط تأكيدا على هوية الفيلم، بل إنه يجيئ أيضا اتساقا مع واقع الحال في تلك الفترة
التي يعالجها الفيلم، فلم يكن ممكنا أن يتكلم الشخوص معا بغير العربية، خاصة وأنهم من أبناء الريف الذين
لم يسبق أن وطات اقدامهم الأراضي الفرنسية.
الأحداث تدور في الأربعينيات، زمن الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عام 1943، بعد أن كانت فرنسا
قد سقطت في قبضة الجيش الألماني، وأصبحت دولة محتلة، تسعى ويسعى الحلفاء لتحريرها.
ويصور الفيلم أولا، كيف قاد بعض أعيان الريف في بلدان المغرب العربي حملة في الريف
الجزائري ومناطق البربر في المغرب وغيرها، لتجنيد عشرات الآلاف من الشباب للقتال في
صفوف الجيش الفرنسي - أو ما بقي منه وامكن إعادة تجميعه- من أجل تحرير فرنسا.
وجاءت تلك الحملة تحت شعار "انقذوا فرنسا". وشملت شبابا من المغرب والجزائر وتونس كما شملت
أيضا متطوعين آخرين من البلدان الأفريقية التي كانت محتلة من طرف فرنسا.
وبلغ عدد أبناء سكان المستعمرات الذين قاتلوا في أوروبا ضد النازية من أجل تحرير فرنسا نحو 130 ألف جندي.
ويركز الفيلم على أربع شخصيات: سعيد وأبو بكر ومسعود وياسر.
هؤلاء يخوضون التجربة بوجل وتردد وخوف أولا، ثم ينغمسون فيها برغبة حقيقية في إنقاذ فرنسا
استجابة للشعار الذي رفعه ديجول: إن الدفاع عن حرية فرنسا هو دفاع عن الحرية في العالم.
كان الحلم بنيل الحرية من الاستعمارالفرنسي هو ما يحرك مشاعر هؤلاء الجنود وهو ما يتردد
في الفيلم يوضوح، بل وتحدث بسببه كثير من الاحتكاكات بين الجنود المغاربيين وبعض الضباط الفرنسيين.
يقاتل الجنود المغاربيون في إيطاليا، وفي مقاطعة بروفانس الفرنسية، وفي فوسج، وتكون
وحدة الابطال الأربعة هي أول قوة تطأ أرض مقاطعة الإلزاس.
وخلال القتال تنشأ خلافات ومشاحنات بين الجنود، وبينهم وبين الفرنسيين بسبب التفرقة في المعاملة.
تقوم صداقات وتنهار سدود وحدود بين البشر، بل وتنشا ايضا علاقات عاطفية بين جنود من "العرب" ونساء فرنسيات.
وقد نجح المخرج بوشارب نجاحا باهرا في إخراجه للفيلم بكل هذه العفوية والبساطة مع الدقة الشديدة في تصميم المشاهد.
دلائل الامتياز
وتتمثل براعة الإخراج في العناصر التالية:
أولا: القدرة المدهشة على التحكم في أداء طاقم الممثلين وفي مقدمتهم بالطبع الأبطال الأربعة: جمال
دبوز وسامي نصيري ورشدي زيم وسامي بوعجيلة، إضافة إلى الممثل الفرنسي برنار بلانكان الذي قام
بدور الضابط المسؤول عن الوحدة.
ثانيا: القدرة على تحريك المجاميع الكبيرة من الممثلين الثانويين الذين شاركوا في الفيلم، والانتقال بين
مواقع مختلفة للتصوير في أربع دول، واستخدام أقصى ما تتيحه مواقع التصوير الحقيقية من جماليات بصرية.
وتتدرج الطبيعة في الفيلم من الصحراء إلى المناطق الزراعية الخضراء، إلى الأطلال المهدمة، إلى الجبال
التي تغطيها الثلوج.
ثالثا: الاهتمام الكبير بالتفاصيل: الملابس والديكورات والاكسسوارات، واستعادة الأغاني والأناشيد التي كان
يرددها الجنود، وطريقتهم الخاصة في الاحتفال دون أي انزلاق في النزعة الفولكلورية أو جنوح نحو الاستطراد.
رابعا: الاقتصاد في السرد أي في الزمن، مع المحافظة على إيقاع الفيلم ودفع الحركة إلى الأمام طوال الوقت،
والاهتمام بجعل كل مشهد يضيف إلى ما سبقه، ليس بهدف تشييد بناء متصاعد ينتهي إلى ذروة درامية، بل بغرض
الكشف عن جانب آخر جديد من جوانب الشخصيات التي تلعب دورها في عمل ملحمي تتضافر مشاهده
على نحو مدهش.
خامسا: الاستخدام الحريص والدقيق للموسيقى التي كتبها خصيصا للفيلم أرمان عمار مع الشاب خالد،
وتوزيعها بدقة عبر أجزاء الفيلم، دون مبالغة أو حدة، بنغماتها العربية البسيطة والموحية والمعبرة عن لحظات
الحزن والتوتر والقلق والمواجهة مع النفس ومع الآخر.
وقد تمكن المخرج من تحقيق الموازنة بين الموسقى التي تصاحب مشاهد القتال، والأخرى التي ترد
الشخصيات إلى أصولها وتكثف لحظات الاستنارة عندها.
إبراز الهوية
ولعل من أهم ما يميز الفيلم تركيزه الكبير على موضوع الهوية، أي هوية أبطاله.
إننا نراهم هنا دائمي التأكيد على هويتهم، تارة من خلال الملابس التي يرتدونها حتى تحت
القبعات الحربية، أو تبرز من تحت قمصانهم.
ويؤكد الفيلم على الهوية الاسلامية للجنود فيجعلهم يذكرون الله في كل خطوة، و يتمتمون
بآيات قرآنية في مواجهة المواقف الصعبة، كما يصور صلاة الجنود الجماعية بعد أن يهبطون
في جنوب إيطاليا، وكيف يقفون احتراما أمام الموت حتى لو كان الميت من الأعداء.
مخرج الفيلم- الجزائري رشاد بوشارب- يعمل منذ سنوات في نطاق السينما الفرنسية
ويصور الفيلم علاقة عاطفية حقيقية تنشأ بين مسعود وايرين الفرنسية التي تكتب له
خطابات لا تصل بسبب منعها من كطرف الرقيب الفرنسي استنادا إلى موقف عنصري واضح.
عنصرية وأمية
ويركز الفيلم على رفض الجنود المعاملة العنصرية لهم من جانب الضابط الفرنسي الذي
يقول لأحدهم: إنكم لا تصلحون للقيادة!
ويصور الفيلم كيف تنكرت فرنسا لما أعلنته، من خلال الإشارة إلى قرب انتهاء الحرب
مع بقاء اغلبية الجنود أميين، رغم التعهد الرسمي من جانب الجيش الفرنسي بمحو أمية الجميع.
وهناك تذكير في الفيلم بما فعله الفرنسيون في الجزائر من خلال موقف بسيط ومعبر.
داخل كنيسة مهدمة يحاول جندي الاستيلاء على حصيلة صندوق النذور.
ينهره رفيقه بشدة قائلا إن هذا يعد حراما في كل الأديان. يعيد الجندي المال في هدوء.
يتطلع الجنديان إلى لوحة تصور معاناة السيد المسيح.
يعلق الجندي الأول قائلا: لقد عاني كثيرا.
يرد الجندي الثاني: عندما كنت صغيرا قتل الفرنسيون كل أفراد أسرتي من أجل ما وصفوه
بالـ "جعلهم مسالمين" أو pacification .
ونرى كيف يرفض الجنود محاولة ألمانيا النازية التقرب منهم- ومخاطبتهم باعتبارهم مجرد
"مسلمين"- والقاء منشورات تحثهم على الانضمام إلى جيشها مع وعد بالحرية.
ورغم التأكيد على الهوية الخاصة للجنود إلا أنهم يتمسكون بالقتال مع الطريف الفرنسي
إيمانا بأن قضية الحرية واحدة، فبعد تحرير فرنسا لا يراودهم شك في حصول بلادهم على الحرية.
لكنه فيلمنا هذا فيلم عن الحنث بالوعود، عن نسيان التضحية ورفقة الماضي الذي أعاد المجد إلى فرنسا.
يقةل رشاد بوشارب إنه أراد أن يفتح صفحة منسية في التاريخ الفرنسي لأننا لابد أن نتكلم في هذه الأشياء.
ويطالب بوشارب بضرورة إعادة النظر فيها، تماما كما يعيد فيلم "ماري أنطوانيت" النظر في
حقيقة ما حدث لتلك الفتاة التي لم تكن تدرك تماما ما يدور حولها - حسب الفيلم الجديد لصوفيا
كوبولا الذي عرض في مسابقة المهرجان، وبالتالي لم تكن تستحق المصير التراجيدي الذي انتهت إليه.
"البلديون" إذن من الأفلام التي تتخذ منهجا يتعلق بمراجعة التاريخ والكشف عما خفي
فيه وتقديم الوجه الآخر له، من خلال نظرة الذين شاركوا في صنع الأشياء.
ولا شك أن جهدا كهذا استلزم بالضرورة الكثير من الجهد في البحث والا ستماع إلى الشهادات الحية
ممن بقوا على قيد الحياة، والإعداد الجيد كما لو كان المرء يخطط لمعركة حربية.
التضحية بالنفس
التضحية تستمر وتمتد حتى النهاية. يفقد الشقيق شقيقه، ويعجز مسعود في الاتصال بايرين
كما تيأس أيرين من تلقي أي نبا عن مسعود رغم محاولاتها، ويتشاجر سعيد مع قائد الوحدة الفرنسي،
إلا أنه يضحي بحياته في النهاية من أجل انقاذه، ويموت الاثنان معا.
ويضحي الكثيرون بحياتهم في معركة الإلزاس، ولا يبقى من الأبطال الأربعة إلا أبو بكر الذي يعود
بعد ستين عاما إلى نفس المنطقة لكي يزور قبور رفاق الماضي.
وينتهي عمل سينمائي كبير لا شك انه سيبقى طويلا في تاريخ السينما.
تحياتي
فاطمة زرعي
التعليقات (0)