بقلم :د.رمضان عمر |
من أمام الباب المغلق إلى أعتاب يافا
رحلة فدوى طوقان الشعرية
شكلت تجربة الشاعرة فدوى طوقان قفزة نوعية في ذاكرة الشعر العربي النسوي،بعد أن تحول الوطن إلى هم بديل عن الذات المسحوقة في قمقم الحرمان؛ فجاز للنقد حينها أن يسجل للشاعرة نقطة بدء وانعطافة تنقل الرؤية الشعرية من جوهر الذات المسحوقة – وفق رؤية الشاعرة كما عبرت عنها سيرة الشاعرة رحلة جبلية رحلة صعبة – إلى محنة الوطن السليب، وأوجاعه الأليمة؛
فقال المتابعون إن حياة فدوى طوقان قد مرت بمرحلتين مهمتين:
1- مرحلة الشعر الوجداني أو مرحلة ما قبل 67 19.
2- مرحلة الشعر الوطني أو مرحلة ما بعد 1967م.
وإذا كانت المرحلة الأولى قد تشكلت عبر رحلة للذات الممحوة، الباحثة عن الآخر المستحيل، فإن الثانية قد حلقت في آفاق الخارج الضائع.
وحينما تكون للشعر رسالة؛ فأن مرحلة 1967م ستكون محط انظار النقاد الذين يرون في الشعر أداة للتعبير عن الأهداف العظيمة، ويرفضون أن يتحول الشعر إلى أداة سقيمة في تزيين لحظات الضعف والانتكاس .
كانت فدوى طوقان تدرك شقي المعادلة، وتعي أنها يجب أن تتجاوز الذات، وتعبر بشعرها ميدان النضال، لكنها دائما كانت تتعلل بالقيد الإجتماعي المكبل لحركتها: "كان أبي يأتي إليّ طالباً مني كتابة الشعر السياسي. وكان صوت في داخلي يرتفع بالاحتجاج الصامت: كيف وبأي حق أو منطق يطلب مني والدي نظم الشعر السياسي وأنا حبيسة الجدران؟ لا أشارك في معمعة الحياة، حتى وطني لم أكن قد تعرفت على وجهه بعد، إذ لم أكن أعرف مدينة أخرى غير نابلس... كان أبي يطالبني بالكتابة في موضوع بعيد عن اهتمامي كل البعد، وليس له أية علاقة بالحركة النفسية في داخلي، فكان يطغى عليَّ الشعور بالعجز، وحين آوي إلى فراشي أسلم عينيّ للبكاء... لقد كنتُ معزولة عزلة تامة عن الحياة الخارجية، وكانت تلك العزلة مفروضة عليّ فرضاً ولم أخترها بإرادتي. فالعالم الخارجي كان (تابو) محرماً على نساء العائلة... وأصبتُ بمرض بغض السياسة. ففي هذه المرحلة بالذات عانيت صراعاً نفسياً وفكرياً حاداً. كنت أحاول الاستجابة إلى رغبة أبي لكي أرضيه وأكسب محبته، ولكن أعماقي كانت تحتج وترفض وتتمرد. إذا لم أكن متحررة اجتماعياً فكيف أستطيع أن أكافح بقلمي من أجل التحرر السياسي أو العقائدي أو الوطني ؟
ومع أن هذا النص قابل للمناقشة الفكرية إلا أن نصوص ما بعد النكسة جاءت لتكشف عن نماذج شعرية وطنية ذات أبعاد فنية متألقة و رؤى مضمونية وطنية من مثل قصيدتها البديعة ( لن أبكي ) المهداة إلى شعراء المقاومة في الأرض المحتلة :
على أبواب يافا يا أحبائي
وفي فوضى حطام الدور .
بين الردمِ والشوكِ
وقفتُ وقلتُ للعينين :
قفا نبكِ
وقفت فدوى على اطلال البرتقال الذابل بعد حرقة الهجر، وبكت كما بكى ابن جذام من قبل، لكن وهج الشاعرية اوقد جذوة الصهيل ، فقد ان للدفق النثوي ان يصهر ألم الجرح في موسيقا النحيب لتنزف الذاكرة وجعا بعد وجع
على أطلال من رحلوا وفاتوها
و:
تنادي من بناها الدار
وتنعى من بناها الدار
وأنّ القلبُ منسحقاً
وقال القلب : ما فعلتْ ؟
بكِ الأيام يا دارُ ؟
وأين القاطنون هنا
وهل جاءتك بعد النأي ، هل
جاءتك أخبارُ ؟
هنا كانوا
هنا حلموا
هنا رسموا
مشاريع الغدِ الآتي
هذه الذاكرة المعذبة تستلهم من الماضي أنين (الانا النسوية) لتبني بها من جديد انين ال(نحن/الوطن)، مع أن من ذهبوا ذهبت بهم الأيام فلا حلم يرجعهم ولا ندب يعيدهم:
فأين الحلم والآتي وأين همو
وأين همو؟
ولم ينطق حطام الدار
ولم ينطق هناك سوى غيابهمو
وصمت الصَّمتِ ، والهجران
وكان هناك جمعُ البوم والأشباح
غريب الوجه واليد واللسان وكان
يحوّم في حواشيها
يمدُّ أصوله فيها
وكان الآمر الناهي
وكان.. وكان..
وغصّ القلب بالأحزان
وحكاية الأمس في ذاكرة التكوين الشعري الرفيف لا نهاية لها، لكن أمل الغد ووجود القوة الجامعةالحامية لمشروع الوجود سيكون نقطة الانتقال الجدية من عالم الأمس المستحيل إلى عالم الغد المنشود، وهنا تلتقي الانا مع النحن في ضمير المخاطبين، لكن الأنا النسوية التي مثلت ذات الشاعرة فدوى واتكأت على جانب عاطفي كبير يعكس قيمة الحاجة النسوية للآخر الذكوري ، وعند هذه النقطة ، نقطة التقاء الذات الأنثوية مع الذات الذكورية يتشكل الانحراف البنيوي لدلالة النص، فترتد الجملة الشعرية -دلاليا -من كونها جملة منكسرة تعكس ضعفا وانسحاقا إلى جملة صاخبة تعزف على كمان الحرية، وتنسج زغاريد النصر:
أحبائي
مسحتُ عن الجفون ضبابة الدمعِ
الرماديهْ
لألقاكم وفي عينيَّ نور الحب والإيمان
بكم، بالأرض ، بالإنسان
فواخجلي لو أني جئت القاكم –
وجفني راعشٌ مبلول
وقلبي يائسٌ مخذول
وها أنا يا أحبائي هنا معكم
لأقبس منكمو جمره
لآخذ يا مصابيح الدجى من
زيتكم قطره
لمصباحي ؛
وها أنا أحبائي
إلى يدكم أمدُّ يدي
وعند رؤوسكم ألقي هنا رأسي
وأرفع جبهتي معكم إِلى الشمسِ
وها أنتم كصخر جبالنا قوَّه
كزهر بلادنا الحلوه
فكيف الجرح يسحقني ؟
وكيف اليأس يسحقني ؟
وكيف أمامكم أبكي ؟
يميناً ، بعد هذا اليوم لن أبكي !
لن أبكي، لأن حصان الشعر سينتقل من أودية العذاب إلى مدارك الطامحين، وبطولات المناضلين فقد انعتق النص من عقاله الحزنوي، بعد أن انعتقت الشاعرة من قمقمها الاجتماعي ، فلم يعد الحصان كابيا، ولا الآهات محبوسة ؛فلتنطلق غنائية الوجدان لتعلن عن بناء مرحلة جديدة تؤسس لعالم الشعر الثوري أو الشعر المقاوم في قاموس شاعرة رومنسية :
أحبائي حصان الشعب جاوزَ –
كبوة الأمسِ
وهبَّ الشهمُ منتفضاً وراء النهرْ
أصيخوا ، ها حصان الشعبِ –
يصهلُ واثق النّهمه
ويفلت من حصار النحس والعتمه
ويعدو نحو مرفأه على الشمسِ
هناك، عند الشمس ترتسم خيوط الخطاب الشعري الجديد لشاعرة الامس التي كانت تقبع خلف الأبواب المغلقة لتفتح شبابيك الحصار، وتحلق كما الفرسان مع نشوة صهيل الشعر إلى عالم ثوري بامتياز
وتلك مواكب الفرسان ملتمَّه
تباركه وتفديه
ومن ذوب العقيق ومنْ
دم المرجان تسقيهِ
ومن أشلائها علفاً
وفير الفيض تعطيهِ
وتهتف بالحصان الحرّ : عدوا يا –
إنه حصان الشعب ، حصان الثورة ، حصان الكتلة التي توحدت خلف الحق المنتصر لتبدد وهم الحصار وتزيل عتمة الليل ، وتعيد كل مغتصب :
حصان الشعبْ
فأنت الرمز والبيرق
ونحن وراءك الفيلق
ولن يرتدَّ فينا المدُّ والغليانُ –
والغضبُ
ولن ينداح في الميدان
فوق جباهنا التعبُ
ولن نرتاح ، لن نرتاح
حتى نطرد الأشباح
والغربان والظلمه*
أحبائي مصابيحَ الدجى ، يا اخوتي
في الجرحْ ...
ويا سرَّ الخميرة يا بذار القمحْ
يموت هنا ليعطينا
ويعطينا
ويعطينا
على طُرقُاتكم أمضي
وأزرع مثلكم قدميَّ في وطني
وفي أرضي
وأزرع مثلكم عينيَّ
في درب السَّنى والشمسْ
-----------------
انظر فدوى طوقان ، رحلة جبلية رحلة صعبة ، عمان 1988 ط3 صفحة 131 وما بعدها
فدوى طوقان ، الاغمال الكاملة ، المؤسسة العربية للدراسات ، بيروت ، 1993، ص349.
التعليقات (0)