عندما تقدم لخطبتها وأعلموها شعرت برهبة وخوف داخلي ، كانت تعلم أن هذا الشاب ابن عمها يعمل في قطع حجارة البناء من محجر في قريتهم وأنه خشن شديد صعب المعاشرة ، فكيف لها أن تعيش معه كزوجة طول عمرها ولكن ما بيدها حيلة فهو ابن عمها وبإمكانه أن ينزلها عن فرس عرسها إذا زفت لغيره وأرادها هو حسب ألأعراف والعادات .
كانت وحيدة أبويها فقد تزوج أبوها وهو كبير السن ولم ينجب غيرها ومات وبقيت هي عند أمها وتحت رعاية عميها فلم ينقص عليها أي أمر من أمور حياتها إلا أن يكون لها أب كباقي البنات . واليوم بعد أن كبرت واكتملت أنوثتها يتقدم هذا الخشن لخطبتها وأنى لها أن ترفض ، فوافقت على غير رغبة وتتذكر يوم زفت له كيف انقلبت صورته في نفسها فهو كان رقيقا حنونا معها يخاف عليها من نسمة الهواء ويعاملها وكأنها زجاجة بلور يخاف عليها من الكسر فأحبته كما لم يحب إنسان إنسان فتفانت في إظهار حبها له والخوف عليه والحرص على راحته . وحملت وأنجبت إبنها ألأول ثم بنتا ثم ولدا ، وكانت كل يوم يمر تكتشف فيه نبل النفس فتزداد تعلقا به . ويوما قال لها أن مصاريف العائلة تزداد ولا بد من مصدر دخل آخر يساعد ويوفر لهم عيشا كريما ، واقترح عليها أن يشتري بقرة ينتفعون بحلبيها ويبيعون عجلها وخاصة أن لهم أرضا أعطوها على حصة لعمهم الآخر يفلحها ويزرعها ويعطيهم ربع إنتاج ألأرض دون أن يتكلفوا شيئا فيتوفر عندهم معظم إنتاج ألأرض من حبوب وقطاني وكذلك كمية من التبن وعلف الدواب كانوا يبيعونها ، وقال انه بتوفر ألأعلاف فلن تكلفهم البقرة إلا خدمتها فتساعدهم في حياتهم , فلم تمانع وفعلا اشترى بقرة ظاهر عشارها ولم تمض أيام حتى وضعت عجلا وأدرت حليبا فصارت تحلبها وتبيع حليبها وما يبقى تعمله لبنا رائبا وتبيعه أو أنها تضعه في قربة وتخضه وتأخذ منه الزبد ويشربون اللبن المخيض وما زاد من الزبد عن حاجتهم تقوم بطبخه وتحويله لسمن بلدي حيث يخزن مدة طويلة تستعمله في بيتها أو تبيعه . وعاشوا بأحسن حال هو يعمل في المحجر وهي تشرف على البقرة وتبيع أنتاجها وكانوا كأسعد ما تكون ألأسرة .
وحدث ما لم يكن بالحسبان ونغص حياة هذه ألأسرة السعيدة بل هدم سعادتها من أساسها فقد انهار جزء من المحجر أصيب به عدد من العمال وأما الزوج فقد قتل على الفور وبجهد استطاعوا أن يخرجوا جثته من تحت الركام وخزنت وبكت هي وأطفالها ، ولكن ما ينفع الحزن وبرقبتها أسرة بحاجة لرعاية وطعام .
بعد انقضاء عدتها جاءت إليها أخت زوجها وقالت لها أن ابن عمها الأخر الذي يفلح أرضهم يريد أن يتزوجها ويضم أسرتها لأسرته حفاظا عليها وعلى أولادها ولكنها ردت بأدب أنها بعد زوجها لن يراها رجل آخر وستقوم هي برعاية أسرتها ولا تخشى أولادها الجوع بوجود أعمامهم مجاملة لهم . أما هي فظلت تخدم البقرة وتبيع إنتاجها وتعلمت التطريز وتنجيد الفراش وصارت تعمل بأجر زهيد وإتقان حتى اشتهرت في القرى المجاورة وابنتها تساعدها ، وكم كان يسعدها أن تعمل فرش لغرفة عروسين فكانت تختار أجمل ألألوان وكذلك تهدي العروسان زوج من وجوه المخدات من القماش ألأبيض تطلب من ابنها وقد دخل المدرسة أن يرسم على القماش بعض رسوم ألأزهار ويكتب عبارات محببة مثل صباح الخير أو منام العافية فتقوم هي بتطريزها بخيوط الحرير وكذالك تخريم أطرافها بشكل جميل ، وكان الناس في ألأعراس بدورهم يرسلون الطعام لبيتها حلة من ألأرز وأخرى من اللحم والمرق ولا تمانع ولكنها في اليوم الثاني يوم نقوط العروس حسب التقاليد ترجع الحلتين بأحدهما لبنا رائبا وفي الثانية حليبا طازجا تحمل هي أحداهما والثانية تحملها بنتها وتذهب إلى بيت العروسان وعند وصولها باب البيت تغني :ـ آوي... ياللا افتحوا باب الدار ... آوي .... خلي المهنيات إتهني
آوي ... وأنا طلبت من الله ... آوي .... وربي ما خيب ظني ... لو... لو...لو ... لي وتدخل وتضع الحلتين وتروح وابنتها فتبارك للعروس وتضع في يدها قروشا كنقوط على عادة أهل القرية عندنا وتبقى قليلا وعند خروجها يعطوها قراطيس مزينة فيها بعض حبات الحلوى وملبس الحمام إعلانا أن الزواج قد تم ونجح وكذلك قراطيس فيها حناء جاف .
ويوما كانت وأولادها جلوسا قبل الغروب في ساحة البيت والبقرة مربوطة إلى مدودها تحت شجرة وفجأة راحت البقرة تجمع جسمها حتى يستحيل ككرة ثم تمطه ما تستطيع وتخور خوارا شديدا ومتقطعا ، وقفوا حولها ينظرون إليها بوجل وكررت البقرة ذلك عدة مرات ثم وقعت على ألأرض ، ركض ألابن ألأكبر ونادى عمه بجزع وحضر الرجل فلما رأى البقرة وهي في رمقها ألأخير قرر ذبحها أمام اعتراضهم وتوسلاتهم ليستفيدوا من لحمها فذبحها ولكنهم رفضوا أن يأكلوا منها وطلبت من العم أن يوزع اللحم على الناس وبدون مقابل وكان منظرا محزنا والعم يسلخ البقرة فقد اجتمع الأولاد يبكون بحرقة بقرتهم ـ بقرة اليتامى ـ ولكن عمهم طمأنهم ووهبهم بقرة عوضا عن بقرتهم . ووجد العم أن سبب موت البقرة إبرة خياطة ربما أكلتها البقرة مع علفها واخترقت مجاري دمها وسارت مع الدم ووجدها وقد انغرزت بالقلب .
وكبر ألأولاد وأنهى الكبير دورة معلمين وتعين مدرسا في مدرسة القرية وصار يساعد أمه في تدبير أمر الأسرة وكانت هدية عمهم مباركة وتضاعف دخل الأم من عملها في التنجيد وكثر لديهم المال وتزوجت البنت وأنهى ألابن الثاني دراسته الثانوية بتفوق فحصل على بعثة في دولة مجاورة لدراسة الطب ودرس ورجع وتم تعيينه في مستشفيات الحكومة وبنوا بيتا بجناحين كل ولد جناح وتزوجوا وأخذ الولد الكبير أمه للحج ولم تنس أحدا من أهل القرية من هدية ، وتقدم بألأم السن فطلبوا منها أن تترك بيتها وتعيش عندهم في بيوتهم ولكنها رفضت وقالت وأترك ذكرى أبوكم لا والله وحتى القبر واللقاء ، وقد قيل عنها أنها لم تنم خارج بيتها منذ زواجها وحتى توفاها الله برحمته .
التعليقات (0)