ست سنوات بالتمام والكمال مرت على تأسيس السكرتارية المحلية بسيدي افني، و يكاد يكون الحديث عنها اليوم اكثر الحاحا من ذي قبل، حديث سيجرنا لامحالة إلى الالتفات بتأمل بالغ نحو حركة نجحت في إزالة قناع التخويف عن وجه الدولة ليسقط فجأة بين أرجل الجماهير، وتحرر هذه الاخيرة نفسها من عقدة الخوف و من قيود تعيق حراكها و نجبرها على الخضوع، لتتوجه بثبات وإصرار لتحرير ما يكفي من مساحة التعبير فتصبح بعد ذلك سيدة حرة فوقها، لا رعية تقاد عمياء إلى حيث الاهانة والخنوع.
واذا كان من الضروري الحديث عن كل المعارك التي خاضتها الجماهير بهذه البلدة، فأن اهمية الموضوع تستدعي الوقوف عند أبرز اللحظات التي جعلت من المواطن يقف شاهدا على مرحلة تاريخية أعادت الى ذهنه حقيقة مفادها ان المخزن لايزال موجودا لحماية حدوده من زحف طلاب الكرامة، وفرضت عليه في المقابل تلمس الطريق المرشد للخلاص .
فأحداث 2008 التي كانت سيدي افني مسرحا لها، أريد لها أن تكون ردا سريعا من جانب السلطة على رسائل الانتفاضة الشعبية التي وفرتها التعبئة المضاعفة للجماهير، وضعت ، و بدون شك، حدا حاسما لمعركة الصراع ضد رغبة المخزن المصرة على تأديب الخارجين عن بيت الطاعة واستعادة هيبته التي مرغت في وحل معركة الكرامة، و شكلت منعطفا بارزا قاد الى ضرورة تخليص الشعب من وهم الاتكال على وعود الاصلاح والتغيير، وأجبرت السلطة على الاعتراف بقوة الجماهير وقدرتها الخارقة على استعادة كرامتها من انياب التسلط والاستبداد.
قيل حينها إن بوادر التغيير كانت سابقة في سيدي افني وأن ثورة لاحقة تلوح في أفق العالم العربي . وهكذا كان.
فإذا كان المخزن في المغرب استطاع أن يتميز بقدرته الكبيرة والخارقة كذلك على إيهام الشعب بسيره على طريق الاصلاح الصحيح، إلا أن الاحداث عرَت هذ الزعم وأكدت بما لا يدع مجالا للشك على أن أدوات القمع لم تغادر الايادي التي دربت على انتهاك الحرمات وملاحقة الاصوات المطالبة بالتغيير.
هكذا سيدرك المغاربة في لحظة من لحظات التاريخ أن العهد الجديد، وإن أتى بوعود قد تنم عن وجود نية للإصلاح، لم يأت بالشيء الجديد وأن نفوذ المخزن المتمترس خلف واجهات براقة ومغرية يمتلك قوة متجددة تستطيع استعادة ما تفقده من تنازلات مرحلية، عبر استثمار عامل الزمن في معادلة المواجهة مع حركات المعارضة الفاعلة.
لهذا فمقاومة أشكال الاصلاح، التي بدأها الملك، ستنجح في تعزيز مواقعها من جديد وستاتي ببطء على المكاسب التي تحققت للشعب وذلك من خلال أساليب ومناورات يوفرها مناخ سياسي تغيب فيه المؤسسات ويحضره الوزن الثقيل للأشخاص.
سيكتشف المغاربة أشكالا جديدة من القمع تذكرهم بأزمنة قمع اعتقدوا في لحظة انتشاء أنها ستظل حبيسة ماضي عرف لديهم بالجمر والرصاص.
إن القوى الخفية المعارضة لمطالب التغيير بالمغرب لم تكن لتتردد، في مواجهة اي تهديد يصوب أسهمه نحو صدورها المثقل بالأوسمة والنياشين، في صناعة سيناريوهات لإعاقة كل رغبة تسير باتجاه القطع مع ماضي القمع، وذلك من خلال زرع فزاعات في الحقل السياسي المغربي، من الارهاب الى التطرف الاسلامي، لمنع أي تقدم من شأنه أن يأتي على مساحاتها الواسعة و الشاسعة التي تملك فيها الهامش الاقتصادي والسياسي و الذي يضمن لحركتها و نفوذها داخل الساحة السياسية تأثيرا بلا حدود.
إنه التأثير الذي ظلت ثماره تتكدس في كل فصول الصراع داخل سلة مصالح المخزن، وذلك بالاستقواء بأجهزة الدولة الموضوعة تحت تصرفها لقمع الخارجين عليه، واستخدام القضاء الخاضع لها في تثبيت التهم الثقيلة في حق كل من تسول له نفسه معاكسة مصالحها.
لقد منحت مدرسة الاحتجاج بسيدي افني، بالرغم من الاخطاء الطبيعية على طريق الممارسة البشرية، درسا في الدفاع المستميت عن الكرامة، و أسهمت بشكل كبير في اختزال المسافة التي كان يجب قطعها للوصول إلى مرحلة تغيير حقيقي و كرست الوعي بضرورة الخروج عن الصمت وإسماع صوت الغضب في وجه الظلم والاستبداد.
أفواج ستخرج بعد ذلك محتجة تحمل شهادة الشرف نفسها، ملوحة بإشارة النصر، لانتزاع حقها المشروع في الحرية و الكرامة ،
وستمر سنوات قليلة عن الثورة من اجل الكرامة في سيدي افني، لتهتدي الملايين من جماهير العالم العربي، بعد عقود من الاستسلام لقهر الاستعباد، الى اداة سلمية بين أناملها لتحولها الى سلاح فعال مكنها من تأديب انظمتها الخارجة عن القانون وإعلان استقلالها الحقيقي في ميادين التحرير.
ولم يكن غريبا بعد ذلك ان يتطوع رجل كمحمد البوعزيزي، نيابة عن كل الشعوب العربية، في اطلاق صرخة الغضب في سماء تونس الخضراء ليستفيق الشارع العربي على اثرها من سبات طويل كلفه انتظار اطول لقطار التغيير الذي ركبته الشعوب الحية من قبله..
اليوم، اذ نستحضر التضحيات الجسيمة التي أهدتها الجماهير لهذه المنطقة في أعراس نضالية قل نظيرها، حري بنا أن لا نفوت فرصة التذكير بأن لا مصالحة سترى النور ما دام ظلام الغبن يأسر عائلات عذبهم ضيق الحال وعفة السؤال.
حري بنا اليوم كذلك ، و أكثر من اي وقت مضى، أن نحيي ذكرى التأسيس ولو من خلال كتابة أسطر على سجل تاريخ لن يَنسى أن يَتذكر صفحة رائعة ومجيدة من بين صفحات التضامن والتلاحم المحلي... ذكريات لن يطويها النسيان... وأحداث لن تمحوها ألسنة الإنسان!.
إنها صفحة السكرتارية التي تعيد، في ذكرى تأسيسها السادسة، الى الذاكرة المحلية والوطنية حنينا قد يداعب في لحظة تأمل بعضا من ذكرياتها الخالدة.
التعليقات (0)